|
فى ذكرى رحيل السياسى القومى الراحل / بوث ديو
|
تأتى الذكرى السنوية لرحيل السياسى السودانى المخضرم والبرلمانى العظيم بوث ديو فى وقت تمر به بلادنا بالأحن والمخاطر التى تهدد وحدته واستقلاله ، وانشر هنا بهذه المناسبة المقالة التى كتبها الأستاذ الكبير / الطيب شبشة فى العدد الأول لمجلة بشائر - يوليو 2002م:- السيد بوث ديو ، سياسي بارع متمرس بالشئون البرلمانية إذا كان عضوا منتخبا في جميع البرلمانات التي سبقت الاستقلال وبعده وكان عضوا للمجلس التشريعي الذي قرر عام 1947 وحده الشمال والجنوب في اجتماعه بجوبا... وهو من قبيلة النوير من منطقة بحر الزراف من قرية ( تونج وان ) من أعماق مركز فنجاك. ... قضية جنوب السودان أصلها ( حراق روح ) ! مازلت أذكر ذلك التعريف المختصر والدقيق الذي حدد به السياسي والنائب الجنوبي اللامع في زمانه الراحل " بوث ديو " " علة" فأطلق عليها اليوم في قاموسنا السياسي والقانوني أسم "قضية الجنوب".. كنا نتحاور بشكل عفوي يشبه" حديث المائدة" بينما كنا معا نتناول إفطارا في مقصف البرلمان في الخرطوم في أواخر الخمسينات. قلت له ( يا أبا الأبواث ) وكان هذا هو اللقب الذي أناديه به ، إذ ليس بيننا أي كلفة لطول معرفتنا ببعض وما نشأ بها من مودة – قلت له: ماهو في رأيك السبب الجوهري لمشكلة الجنوب التي أدت إلي الصراع المسلح؟ وكأن الجواب علي طرف لسانه ،إذ قال بسرعة ودون تردد ( حراق روح ) !! انفتح فمي أوسع من " بوابة عبد القيوم " بامدرمان انذهالا أندهاشا.. تساؤلا.. وقلت وأنا لا يكاد يخرج صوتي من حلقي ، كيف يا أبو الأبواث ؟ قال باختصار المشكلة أو القضية كما يسميها البعض مشكلة أو قضية فقر الدولة وفقر أهلها.. والفقر مصدر قوي لحراق الروح، يعني الزهج وضيق الصدر وهذان يؤديان ( بالحتم ) إلي حماقات وقد تصل حماقة البعض الأكثر فقرا أو معاناة من الفقر إلي حد حمل السلاح إما للنهب او للتمرد علي الاوضاع الاقتصادية والمعيشية الرديئة! واستطرد يقول " تعرف أنني أشبه الرجل السوداني في فقره ومعاناته في سبيل توفير لقمة العيش ليس فقط لأسرته الصغيرة بل وللكثيرين ممن تربطهم به صلة رحم وقرابة ويحتاجون لعطائه أشبه ب" ضكر القرنتي " يعني فرس البحر. قلت له : " وما وجه الشبه بين الرجل السوداني الذي يعاني من الفقر وبين ضكر القرنتي" ؟! قال : " ضكر القرنتي تبدأ معاناته عندما يبلغ الحلم وتصبح له زوجة وابناء وبنات منها ..هنا وهو الشاب الفتي يكتشف أن زوجته ممسكة بذنبه وأن اطفاله يركبون علي ظهره وان اباه وعمه وعمته وابنائهما بيمنه، وأن خاله وخالته وابنائهما بشماله ، ثم يظل طوال حياته وحتي نهاية عمره يغطس بهم في أعماق النهر ، أو يخرج بهم إلي البر لأكل العشب والترويح ، وعندما يعود الي الماء يعودان الي اوضاعهم فوق ظهره ومن حوله وخلفه وهكذا حتي ينتهي أجله ويموتّ! ثم سكت هنيهة وهو يحدق في سقف المقصف ونقل نظره إلي ليسألني ألم تري وجه الشبه بين ضكر القرنتي وبين الرجل السوداني الذي ما إن يبلغ الحلم حتي يصبح المسئوول عن كل هذه القبيلة من زوجة وأبناء وبنات وأب وأم وعم وعمة وخال وخالة وأبناء خال وأبناء خاله وربما جار وصديق و...ألخ. قائمة تطول ولا تقصر ؟ قلت : بلي وصدقت يا أبا الابواث!!!! قال: هذا في قناعتي هو جوهر مشكلة أو قضية الجنوب، وأعتقد أن بعض من أبناء الجنوب والشمال سوف يستغلها لأسباب سياسية أو خاصة لكي يجعل منها تصفية بلد وشعب بأكمله ! قلت له قد يستغلها بعض ابناء الجنوب بحكم الأنتماء الجغرافي أو العرقي ولكن كيف يستغلها بعض ابناء الشمال؟ قال: لأسباب سياسية أو فكرية أو شخصية كعمالة خارجية! ثم سكت وقال : هل تظن أن كل هؤلاء الذين يتشدقون بمشكلة أو قضية الجنوب وطنيون شرفاء دوافعهم مصلحة الوطن العليا؟ سكت ! قال: أما أنا فلا أظن وإذا طال بي العمر فربما أكشف الكثير من الأسرار التي جعلت من ( حراق الروح ) بسبب الفقر ، مصدرا لفلسفات مذهبية وسياسية فاقمت معاناة أهلنا في الجنوب من الفقر الذي لم يسلم منه أهلنا في الشمال- إلي قضية لا يعلم إلا الله وحده الي اين يصل تفاقمها اجتماعيا وسياسيا داخليا وخارجيا! وقال : أخشي ما أخشاه أن يصبح للفقر تشعبات لمشكلة أو قضية الجنوب بعد ديني وهو خطر تهيئ له الكنائس من جهة وغفلة الشمال عن هذا البعد من جهة أسبابه التي أري بذرتها تنمو كالنبت الشيطاني في أرضها ! وعندما دق الجرس إيذانا باستئناف جلسة البرلمان متجهين الي مبني البرلمان فقال لي قبل أن يدخل القاعة... ( اكتب هذا عني وقبل ذلك حاول أن تقول حقيقة كيف يعيش الناس هناك في الجنوب وثنيين ومسيحيين ومسلمين في تواد وتراحم وتفاهم وانسجام بدون تفرقة أو تنافر وأن التمايز في الأوضاع المعيشية والاجتماعية يوجد بين الجنوبيين في المدن الحضرية كما في القري البدوية ومثلما هو بين الشماليين في المدن والقري ... وحاول أن تتلمس التماثل بين أهلك في الجنوب وأهلك في الشمال في العادات والتقاليد والأعراف، وصولا للقيم التي يمكن ردها إليها لكي يمكنك الحديث باطمئنان إلي الجذور الحضارية العريقة التي وحدت الشعب السوداني في جهات السودان المختلفة وإذابة كل احساس بالتمييز بين عرقية وأخري،كما لم يعد أدني شعور بالتفرقة الدينية ، فنحن في السودان ترجمنا عمليا وعلي أرض الواقع معني الآية القرآنية التي تقول : ( لكم دينكم ولي دين ) ولم يبق سوي هذا التفاوت السطحي في أحوال العيش والمكاسب المالية بالرغم من أن الغني يأكل في أغلب وجباته ما يأكله الفقراء... وهذه الحقيقة تبرز جوهر الصفات الأنسانية والقيم الأخلاقية للشخصية السودانية عموما ، وهي صفات وقيم يتشارك فيها الشمالي والجنوبي والشرقي والغربي ولهذا كله فنحن شعب واحد وليس موحدا ..وبالتالي فيجب أن يبقي وطننا السودان-كما أراده الله-أرضا واحدة بكل ابعاد حدوده الدولية الجغرافية. وافترقنا .إذ دخل قاعة الجلسة،واتجهت إلي غرفة الصحفيين!
|
|
|
|
|
|