|
Re: أرض الميّت (Re: نادر النور آدم)
|
العزيز: نادر النور آدم تحياتي
أشكركَ يا عزيزي على التهنئة الكريمة، والأمنيات الطيّبة. أنوي في هذا البوست نشر كامل فصول الرواية؛ حيث أنه لم يُتح للكثيرين قراءَتها والاطلاع عليها لأنها غير متوافرة إلا في المكتبات المصرية، وفي موقع النيل والفرات دوت كوم. وأتمنى أن أتحلى بالصبر على إكمال الرواية هاهنا، مع أمنياتي الجادة بأن يستمتع القراء الكرام بمتابعة فصول الرواية وأحداثها.
مودتي وتقديري
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: هشام آدم)
|
بعد وفاة الشيخ العجوز، قرر بعض الفتيان -من بينهم هارون عزيزة- مطاردة الكـلـب الأسود العجوز وقتله، واعتبروا ذلك واجباً دينياً مقدساً، وشرفاً سوف يستحقون عليه الثناء والمجد من أهالي القرية. هارون عزيزة وجدها فرصة مناسبة لكسب احترام الأهالي الذين نبذوه بعدما وشت به مجموعة من الأطفال عندما اختلس النظر إلى فتاة بالغ وهي تتغوّط في الخلاء، فكان أكثرهم حرصاً وحماسة لمطاردة الكـلـب؛ بل وأكثرهم شراسة في الفتك به. اعتبر أنّ دماء الكـلـب الأسود خلاصه من العار الأبدي. وبموت الكـلـب الأسود وصاحبه التمتام، انقلبت أحوال القرية رأساً على عقب، ولم تعد تهنأ بالراحة. هارون عزيزة لم يشأ أن يفوّت الفرصة، فلم يكتف بضرب الكـلـب بفأس صدئة على مؤخرة رأسه، وإنما حمله على كتفيه وسار به مزهواً في شوارع القرية الصخرية، كفارس إغريقي نبيل يحمل رأس وحش همجي أرّق مضاجع الأميرات. مرّ أمام بيوت القرية على مهل، رافعاً جثة كـلـب التمتام فوق رأسه مستقبلاً زغاريد النساء الواجلات في صلف لا تخطئه عين.
لم تستطع الجدة مسكة التحقق من شأن هارون عزيزة حول أسباب الاحترام الذي ناله من أهالي القرية ما إذا كان عائداً إلى همّته في قتل الكـلـب، أم بسبب نبوءة التمتام؛ إذ تذكر أنّ جلال التمتام، مرّ ذات أمسية -وهو في طريقه إلى بيته- برهط بينهم هارون عزيزة نفسه، فأشار إليه بعصاه المعقوفة وهو يقول: "ما أسعد القرية بك؛ إنك ستعيش مرتين، وتخون مرتين، وتسكن هذا البيت." وأشار إلى سرايا العمدة، وضحك الجميع. أوصى الشيخ عبد الصبور إسماعيل دهب إمام الزاوية اليتيمة في القرية آنذاك بتعليق الكـلـب الأسود -بعد قتله- على سارية كانت فيما مضى جزءاً من ساقية أنشأها أبوه طيّبُ الذكر الشيخ إسماعيل دهب. قال: "يمكننا استخدام جيفته طُعماً للتماسيح، والوحوش الضارية التي تهدد أبناء القرية وأطفالها ومواشيها، أو فلتكن طعاماً للجوارح التي تحمل في حويصلاتها أرواح الأطفال الميّتين، ذلك أدعى للرحمة." ولذا أسموها "سارية الرحمة". أصبح ذلك فيما بعد سُنّة جارية، فبينما يُدفن الموتى في الضفة الأخرى من النهر، تُعلّق الضباع والـكـلاب السوداء والبهائم النافقة، والحيوانات الأليفة المريضة بعد قتلها على السارية، وقيل أن ذلك هو السبب في تسمية القرية بأرض الميّت.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: هشام آدم)
|
وقيل إنها سميّت كذلك لسبب لا يتعلّق بجلال التمتام على الإطلاق؛ إذ حكت الجدة مسكة أن أهالي القرية تفاجئوا ذات صباح بجثة شاب غريق ملقاة عند حواف النهر الصخرية، ولم يستطع أحد التعرّف عليها، وإن الشيخ عبد الصبور دهب أوصى بدفنها في مدافن القرية بعد ثلاثة أيام، إن لم يأت أحد للبحث عنها. ثم إن ذوي الغريق جاءوا بعد ذلك بأيام ليكتشفوا أن ميّتهم مدفون بهذه الأرض الغريبة؛ وربما أطلقوا اسم "أرض الميّت" على القرية أول مرّة، واشتهرت به بعد ذلك. وإذ أن المنطقة التي يمر بها النهر بمحاذاة القرية اشتهرت بحوافها الصخرية المسننة، فقد كان أهالي القرى النوبية الأخرى يأتون للبحث عن غرقاهم في أرض الميّت، آملين أن يجدوا جثثهم وقد نجت بمعجزة من أنياب تماسيح النهر وأسماكه الشرهة، وتعلّقت بأنياب الصخور الملساء، ولم تخيّب القرية ظنّ أحد إلا ما ندر.
الرجال الذين جاءوا بحثاً عن الغريق، حكوا لأهالي القرية عن ميّتهم: إنه اعتاد الجلوس على تلة رملية بيضاء قرب النهر وقت الغروب، يدخن البنقو، ويُردد الأغنيات التي لا يرغب في سماعها أحد، وأنه حكا للجميع عن الجنيّة التي خرجت إليه عارية من مياه النهر، وقبّلته، وطلبت منه أن يتزوّجها، وأنها أغرته باللحاق بها في النهر. وتمكن صيّادون ليليّون من إنقاذه. وشاع في القرية خبر الجنيّة اللعوب التي تتصيّد الشبان، وتغري بهم لتجعل نهايتهم على يدها: إما غرقاً في النيل، أو خلف جبال ميمن توو الجنوبية، ومازال يُشاع حتى الآن في أرض الميّت أنّ الأطفال عندما يموتون تتخطّف الجوارح الجائعة أرواحهم في طريقها إلى السماء، فتسكن حويصلاتها لأنهم لا حساب لهم أمام الله، أو يغدون ملائكة صغيرة؛ لا يُوكَل إليهم تلك الأعمال الشاقة التي تُوكل إلى الملائكة، فقط يحوّمون في الأرجاء يهبون السلام والرحمة لذويهم ولمن هم في الأرض.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: هشام آدم)
|
وبفتوى من الشيخ عبد الصبور دهب تم منع النساء من النياحة عليه بعد موته؛ رغم أنهن الوحيدات اللواتي أحزنهن رحيله فعلاً، فلم يبكين عليه إلا سراً. وعادت للتلة قداستها؛ حيث تتنزّل الملائكة بعد غروب شمس كل يوم دون أن يتمكن أحد من رؤيتها. وأكدّ البعض أنهم رأوا خيالات ضوئية خضراء وبيضاء تلّف التلّة بعد وفاة التمتام بيومين، وفسّر الشيخ عبد الصبور تلك الأضواء بأنها الملائكة، وأكّد بأنه ليس بإمكان أيّ بشر رؤية الملائكة عياناً؛ إلاّ أولياء الله الصالحون الذين يخصّهم بكراماته ويكشف عنهم حجاب الرؤية، وظلّت سيرة الضوء الذي لم يشهده إلا أموات القرية حجّة على قداسة التلّة التي أصبحت في مقام جبل عرفة من الحجاز؛ لذا فإن عمدة القرية أمر –بإيعاز من شيخها- أن تُسوّر التلّة بسياج له باب. وتولّت عائلة كَلَس حراسة التلّة، واحتفظوا بمفتاح بابها الزنكي المتين، ومُنع الناس من التبوّل أو قضاء الحاجة عندها.
وحسب رواية الجدة مِسكة فإن رجال القرية وأطفالها تجمهروا على باب خيمة الغريب التي كثمرة إجاص عملاقة حاملين العصي والحجارة، في انتظار أن يخرج إليهم الغريب، ولكنه خرج راسماً ابتسامة سلمية حذرة على وجهه، وهو يستقبل العمدة وضيوفه: "يمكنني أن أجيب عن أيّ سؤال تشاءون؛ إلاّ فيما يتعلّق بجهة قدومي. أنا بينكم الآن لأن العالم انتهى بي هنا، وهذه التلّة طيّة العالم الكبيرة. أحببتُ أن أموت في هذا المكان الجميل. ماذا يضيركم إن بقي بينكم رجل عجوز مثلي؟!" أخرج التمتام بعض الأدوات المعدنية من جُراب جلدي قديم معلّق على عارضة الخيمةِ، ونثرها أمام الجميع: "هذا كلّ ما أحمله." نظر الناس بدهشة إلى الخردوات التي يحملها، وكتموا ضحكاتهم، بينما قال العجوز الغريب:
"هذه آخر أسرار الفيزياء الحديثة. الإنسان ينوي أن يطوي العالم في كفّه، وهو في طريقه إلى خلق معجزاته الخاصة، البعض يتحدث عن عصور قادمة لن يحتاج فيها الإنسان إلى الحركة؛ حيث سيكون كل شيء بضغطة زر واحدة، وسيكون للأسلاك المهملة شأن عظيم في تواصل البعيدين وتقريبهم من بعضهم، وستعود الخيول والجمال والحمير إلى البريّة؛ إذ لن يكون الإنسان بحاجة إليها في تنقلاته، ربما تصبح أداة لتسلية إنسان ذلك العصر! سوف يعرف الناس الضوء الذي يوقد بلا زيت، يوقد بالأسلاك والأزرار، وعندها لن تعودوا بحاجة إلى فوانيسكم التي ستوُدع المتاحف. هل تعرفون المتحف؟ وسوف يتوقفون عن كتابة الخطابات والزيارات، سوف يكون كل ذلك تراثاً لا يتبعه إلا الفقراء والجهلاء فقط. سوف يتمكن الإنسان من رؤية الشياطين والجن بعينيه، ويختفي هو عن الأنظار! سوف يُصبح هو أسطورة يخشاها مردة الجن، ويُجنبون أبنائهم منهم. سوف يُصبح الإنسان قادراً على رؤية ما وراء الأشياء الصلبة، والدخول من خلالها. هذه ليست محض أمنيات أو خيالات. سوف تنهار الأسرة ويتبادل الجميع الأدوار، فمن كان له ابنة أو ابن فليسعد برؤيته الآن وليتمتع بحسّه الأبوي؛ فربما لن يعود هنالك أبناء. سيكف الإنسان عن مغازلة القمر في أغانيه وأشعاره، ويصعد إليه في زيارة سياحية كل عام! الراكضون وراء الإبل والأغنام سيجدون ذلك مضحكاً، ولكن تلك هي الحقيقة."
كلماته المتعجرفة تلك جاءت موافقةً لبريق ماكر لمع في عينيه. رفع حاجبه الأيمن الكث حتى ظنّ الناس أنه سيقع، استغربوا كيف أنّ شعر حاجب أكثر كثافةً من الآخر. ملامحه تلك أشعرتهم بالخوف منه، إضافةً إلى طريقة كلامه المليء بالطلاسم المخيفة، والعبارات المبهمة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: هشام آدم)
|
تقول الأسطورة النوبية: "إنّ كل إنسان يولد (ذكراً كان أو أنثى) يتعلّق قرينه الشيطاني بطرف عضوه التناسلي، وإنّ ضرورة الختان متأتية من التخلّص من هذا الشيطان الطفيلي الآثم أو الحدّ من شروره، وإنه كلما كبر الطفل كلما تضاءلت إمكانية التخلّص منه"، وفيما يكون هذا الشيطان سبباً في جنون الشبان وإنباتهم منبت الطالحين، فإنه يتسبب في انحراف الفتيات وإنباتهن منبت الداعرات؛ لذا فإنهم يُعجّلون بختان الإناث أولاً. كل تلك الطقوس تقام على ضفاف النيل، وحتى في الزيجات النوبية يخرج العروسان إلى النيل في زفّة صباحية، وسط جمهرة من الأهالي وهم يضربون على الدفوف ويرددون الأغاني والأهازيج التقليدية الطروب. ثم يقف العروسان على حافة النهر، وتبدأ الطقوس النيلية، فيقوم الزوج بغمس يده في مياه النهر، ويسكب ما تبقى منه على شعر عروسه، وتقوم العروس بخلع حذائها وغمس قدميها كاملتين في طين النهر، دون أن تبدي أيّ انزعاج من حركات النسوة من حولها، وهن يعبقنها بالبخور والروائح الشعبية ويُغدقنها بالقبلات، بينما يغسل الزوج وجهه بمياه النيل سبع مرات متتاليات. وعندما تضع كل أنثى حملها، فإنه لابد أولاً أن يُغسّل المولود بماء النهر وسط زغاريد النسوة والابتهالات المأثورة لتحل عليه البركات، وإلاّ فإن ذلك نذير شؤم ولاشك.
وهكذا فإن أهالي أرض الميّت يتعايشون في توافق تام مع الخرافات والأساطير التي شكّلت وعيهم واتجاهاتهم الذهنية على مدار قرون، حتى ارتبطت حياتهم بها بشكل لا يُمكن التكهن بمدى تجذره، أو بمدى السلطة التي تتمتع بها تلك الخرافات والأساطير، وتؤثر على قناعاتهم ومعتقداتهم. ساعد في ذلك تأييد مراكز القوى الدينية لهذه الخرافات، ومحاولاتهم إدراجها ضمن أصول الدين وربطها بها، وبات من الصعوبة بمكان التفريق بين الأعمال ذات الأصول الأسطورية، وتلك التي ترتبط بالتعاليم الدينية المجلوبة مع جيوش الغزو الإسلامي. ومازال أهالي أرض الميّت يتناقلون سيرة الشيخ إسماعيل دهب المُشتهر بكراماته التي أضافت إليها العقلية الأسطورية الكثير من القداسة، ويحكون عن قدرته على تسخير الوحوش والضباع، واستخدامها في تنقلاته بين القرى النوبية في أزمنة أعتبر فيها امتطاء البغال فعلاً باذخاً ومُتكلّفاً. ويحكون عن أحد أجداد كَلَس الذي تكلّم في مهده، والآخر الذي قطع نهر النيل إلى الضفة الأخرى ممتطياً ظهور التماسيح؛ بينما تُخفي كهوف جبال ميمي العديد من القصص التي تتناول سيرة الجن، واختطافهم لبعض الفتيات وزواجهم منهن، ونتاج هذه الزيجات التي أفرخت مخلوقات لا جنيّة ولا إنسية أسموها (السحّارين) الذين يمشون على الأرض كبشر نهاراً، ويتحوّلون إلى مخلوقات مخيفة ليلاً. ويُصر الكثيرون على أن بعض القرى النوبية تحتوي بيوتها على أفراد من هذه المخلوقات المفترسة، والتي يُقال أنها لا تؤذي أهل بيتها؛ بينما تقتات معظمها على الخراف والماعز.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: حاتم شناب)
|
الأخ: حاتم شناب تحية طيبة
أشكركَ يا عزيزي على المُتابعة، وأتمنى أن تنال الرواية [حتى نهايتها] على قسط من إعجابك.
مودتي وتقديري
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: هشام آدم)
|
تابع الفصل الأول
اعتقدتُ أنّ أهالي القرية لم يتناقلون هذه الأحاديث إلاّ لإخافتنا –نحن الأطفال- ولكن كان الأمر غير ذلك؛ فطبيعة بلاد النوبة الجبلية القاحلة تعتبر بيئة خصبة لإنتاج الخرافة، وتلقى تلك القصص حظوتها من التصديق كإرث شعبي عميق، ساعد على ذلك عزلة المناطق النوبية وانقطاعها عن العالم الخارجي. بدأت قضبان العزلة تلك بالذوبان منذ بدأت القرى النوبية بتنظيم رحلات الحج بمساعدة من المصريين، وعندما كان يعود زمرة من الغائبين -عن جيوب القرية الأنفية، وذاكراتها القريبة- من رحلة الحج في أراضي الحجاز، تُذبح لهم الذبائح، ليمرغوا أياديهم في دمائها، ويلطخوا بها أبواب بيوتهم ليُعرفوا بها لاحقاً، اعتاد الناس على أن يفعلوا ذلك، وسبعة بيوت فقط في أرض الميّت ملطخة بصورة الكفوف الدامية. تمتد جلسات الأنس -مع الحجيج القادمين- إلى أنصاف الليالي الصيفية، وهم يتحدثون عن رحلتهم الإيمانية، ينقلون مشاهداتهم عن أراضي الحجاز، وأهلها، وما رأوه هناك، ويظل أهالي القرية يستمعون إلى كل ذلك، وكأنهم يستمعون إلى حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة. ويؤمنون في قرارة أنفسهم أنّ من حجَّ إلى بيت الله الحرام ضمن الجنّة لا محالة، فينظرون إليهم بغبطة يعرفونها جيداً، ويتلذذون بها كثيراً. حتى الحجيج أنفسهم كانوا يؤمنون أنهم قد ولدوا بالفعل من جديد، وأنهم قد أصبحوا أناساً بلا تواريخ، ولا ذنوب، ولا معاص تذكر؛ فيستسهلون خطاياهم الجديدة، ويرونها ضئيلة مقارنة بجبال الحسنات التي عادوا بها من رحلتهم. ولا يمر أسبوع كامل حتى ترى أحدهم وقد توسط جلسة سُكر ليلية.
وفي أرض الميّت الشأن كل الشأن لعمدة القرية ثم للمتفقهين من أسرة دهب وكَلَس، ثم للحجيج الذين قد يحلون محل الشيخ عبد الصبور دهب في الإفتاء عندما يغادر الأخير إلى قرى الضفة الأخرى من النيل لجلب البخور والصندل لأغراض الرقى الشرعية وتبخير المسجد. وفي المناسبات السعيدة وغيرها يتم أخذ هذا الترتيب الاجتماعي في عين الاعتبار، فلا تخرج أواني الطعام إلا للعمدة وضيوف مجلسه: عمدة القرية وإمامها، وأفراد عائلة كَلَس، والحجيج، وكبار السن، وعمّال البنطون والوابور ثم الأطفال فالنساء، وفيما يهلك الأكثرية في طريقهم إلى أرض الحجاز لنيل لقب (حاج) التي تعدّ أمنية غالية لمن تخطّى سن الخمسين؛ يحج آل كَلَس كل عام تقريباً من أجل تدعيم سلطتهم الدينية في القرية، وتأكيداً لاستحقاقهم لهذه السلطة التي تقاسموها مع أصهارهم من آل دهب. وبطريقة تلقائية تم تقسيم القرية إلى عائلات كبيرة وصغيرة اختص بعضهم بالعلم الديني، واختص بعضهم الآخر بالثروة. وفيما استولى آل دهب وآل كَلَس على كل ما يتعلّق بالدين والإفتاء، استولى آل فنتي على الأموال والمشاريع التنموية في المنطقة؛ وظل بقية أهل القرية على هامش الحياة اليومية، يقتاتون على ما يتساقط من فتات هذه العائلات الكبرى.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: هشام آدم)
|
وفيما الحج نافذة للقرية على العالم الخارجي، أعتبر المذياع نافذة أخرى، وانحصرت هاتان النافذتان على فئات محددة من الناس، فلم تكونا متاحتين للجميع. ولم أبالغ في حديثي عن ثورية المذياع في أرض الميّت؛ إذ أنّ ما فعله المذياع في وعي أهالي القرية على مرّ السنوات يُعتبر ثورة حقيقية بكل المقاييس. فعلى أقل التقديرات استطاع الناس -ولو ببطء غير مستشعر- التخلّص من نفوذ العائلات الدينية التي فرضت سيطرتها على القرية لردح من الزمن، هذا الأمر سمح للبعض ممن آمنوا بنبوءات التمتام وصلاحه بأن يُقيموا على ضريحه قبّة لا تقل في شموخها وهيبتها عن بقية قباب أولياء الله الصالحين المنتشرة في أرجاء القطر. تستخدم القبة التي تُبنى على ضريح أحدهم كرمز يُوحي بكرامته ومكانته الدينية. وربما أصبحت بعض القباب مزاراً للكثيرين في نزعة لا تخلو من مظاهر الوثنية القديمة التي تركتها العصور البائدة. ميرغني كَلَس كان أول من أطلق جملته التي ذهبت مثلاً: "من يرى قبة التمتام يظنّ أن بداخلها شيخاً صالحاً بالفعل!" وانتشر المثل بعد ذلك ليُستخدم بكثرة في كل من يُتوسّم فيهم الخير ولا يكونون أهلاً له. ورغم أنّ معظم زوّار الضريح كنّ من النساء، إلاّ أنّ بعض الرجال يأتون في حالات اليأس القصوى: إما طلباً لتسهيل زيارة بيت الله في مواسم الحج عند انقطاع الأسباب، أو طلباً للشفاء من مرض عضال، أو شيخ يطلب عمراً إضافياً، أو دميم يطلب زوجة حسناء! أكثر المبررات المنطقية لبناء قبّة للتمتام هي وفاة الشيخ عبد الصبور دهب الذي مات بعد التمتام بأشهر معدودة، فدفن بجانبه وبُنيت له قبّة إلى جوار قبته، وسمّيت الجبّانة بعد ذلك بذات القبتين.
تلك الحقبة بالتحديد هي التي خرج فيها الأفندي عبد الشافي خليل، أحد القلائل الذين نزحوا باكراً إلى الخرطوم ليعملوا مع الإنكليز والمصريين إبان الحكم الثنائي في السودان. عبد الشافي خليل الذي عمل في وقتٍ لاحق غفيراً في كلية غاردون التذكارية بعد الانتهاء من عمليات بناء السكة الحديدية في السودان؛ كان قد استفاد كثيراً من تواجده قرب الكلية واطلع على العديد من الكتب والمخطوطات المتوفرة هناك، الأمر الذي ساعده في تحصيل معرفة لم تتأتى للكثيرين من أهالي أرض الميّت. أحدث عبد الشافي خليل ضجة في أرض الميّت لا تقلّ عما أحدثه جلال التمتام أثناء حياته أو حتى بعد موته؛ فهو أول من قال بأصول النوبة اليهودية، وطالب بالهجرة إلى إسرائيل، واعتبرها عودة إلى الجذور. ظلّ يحكي للناس عن أصول النوبيين اليهودية المنسية (بل المخفية عمداً) في كتب التاريخ والذاكرة الشعبية، وبينما يُرجع النوبيون أرومتهم إلى أصول مسيحية قامت على أنقاض الحضارة الـمَرَوية، حكى الأفندي عن أرومة يهودية بدأت منذ عهد نبي الله موشيه الذي يعني اسمه في العبرية (لقيط الماء)، وتم تحريف اسمه إلى موسى في الثقافة الإسلامية.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: هشام آدم)
|
Quote: ظلّ يحكي للناس عن أصول النوبيين اليهودية المنسية (بل المخفية عمداً) في كتب التاريخ والذاكرة الشعبية، وبينما يُرجع النوبيون أرومتهم إلى أصول مسيحية قامت على أنقاض الحضارة الـمَرَوية، حكى الأفندي عن أرومة يهودية بدأت منذ عهد نبي الله موشيه الذي يعني اسمه في العبرية (لقيط الماء)، وتم تحريف اسمه إلى موسى في الثقافة الإسلامية. |
هشام آدم
الأرومة لا تعود الى عقيدة وانما الى العرق والعنصر فالأرومة الاصل ، والأصل ثابت لا يتغير ، بينما العقيدة قد تتغير انت مثلا هشام اذا نسبناك الى عقيدة ابيك وجدك فستنتسب الى ارومة الايمان فترتبط بها الى الابد ، فهل تراك كذلك ؟ . ثانيا هل تقصد ارض الميّّت بتشديد الياء ام الميت بتسكينها فقط؟ _______________
رب اشرح لي صدري
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: هشام آدم)
|
Quote: المقصود "أرض الميّت" ويبدو ذلك واضحاً في العنوان، حيث وُضعت الشدّة على الياء
|
ولكن الميت بالتشديد يكون لغير العاقل فهل تقصد بلدا او شيئا ميّتا ام تقصد شخصا ميتا فكرهتموه؟ _______________ سبحان الحي المحيي المميت والذي لا يموت
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: هشام آدم)
|
وعلى عكس ما يُشاع؛ فإن النوبة لم تتعرض لغزو الثقافة الإسلامية وسطوتها فحسب، بل تعرضّت –بحسب الأفندي- إلى غزو مسيحي كذلك أدى إلى طمس معالم الثقافة اليهودية التي ينتمي إليها النوبيون في الأصل؛ إذ يُرجع عبد الشافي النوبة إلى أصول إسرائيلية سكنت حوض النيل، وخضعت لسيطرة عماليق الفراعنة الذين استولوا على المُلك بعد وفاة نبي الله ييسب (أو يوسف) وانهيار دولته. وكان رمسيس الثاني (فرعون مصر آنذاك) قد رأى مآثر النوبة المتمثلة في العبقرية المعمارية من أضرحة ومعابد؛ فأجبرهم على بناء أضرحة أعظم منها له إمعاناً في إذلالهم. كما أُعجب بما لديهم من خبرة في الزراعة؛ فاستخدمهم لاستصلاح أراضي مملكته. أحد هؤلاء النوبيين رجل يُقال له موشيه أتاه الله النبوة، وأوعز إليه إخراج المستضعفين من النوبيين وعبر بهم البحر. وبعد هلاك رمسيس وجنوده في اليم عاد ثلّة منهم إلى مصر مرّة أخرى واستقروا بها. ومن الأقوال المأثورة عن عبد الشافي أنه فسّر شتات النوبة بالشتات المضروب على بني إسرائيل والسيحان في الأرض والذي جاء ذكره في القرآن؛ ولذا فإنه رأى أن خارطة إسرائيل التي يأملون في رسمها من منابع النيل إلى الفرات ليست من قبيل المصادفة أبداً.
تكلّم عبد الشافي عن خطط عالمية مدروسة تُحاك ضد الشعب اليهودي وثقافته التي أُعلنت عليه الحرب منذ حقب سحيقة: بدأت منذ الفترة المسيحية الجديدة بالسطو على الموروثات اليهودية المتمثلة في الثورة على الشريعة اليهودية على يد يسوع (اليهودي المتنصّل من يهوديته)، بما في ذلك الكتاب المقدّس الذي تم ضمّه إلى كتابات المسيحيين ونسبته إليهم فيما يُسمى بالعهد القديم، وإكماله بما سُمّي بالعهد الجديد الذي كتبه الحواريون في زمن لاحق من وفاة يسوع. إضافة إلى السطو على القصص والأساطير التي تمثل مجمل التراث اليهودي العالمي، وعملت هذه الحركات على تشويه صورة اليهودية واليهود سواء في المخيّلة الدينية للديانات التي ظهرت بعد ذلك، أو حتى في المخيلة الشعبية على السواء؛ فحاولت إظهارهم بأنهم شعب دموي لئيم وناكر للجميل وخائن للعهود والمواثيق. ولم تتوقف عمليات السطو تلك حتى عندما تقلّص المد المسيحي في أوان الفتح الإسلامي، بل امتدت السرقات الأدبية؛ حتى انكب العرب على معين الأدب اليهودي وسطوا عليه أيضاً. ووصل إلينا مما ذكره عبد الشافي من سرقات العرب للموروث اليهودي: قصة علي بابا والأربعين حرامي التي سرقت حرفياً من كتب اليهود القديمة؛ إذ تميل الشعوب النوبية إلى إطلاق اسم (بابا) على أي امرأة تحمل اسم (فاطمة)، وحيث تنحدر الشعوب النوبية من بقايا مجتمعات أمومية قديمة، فإنها احتفظت بالكثير من خصائص تلك المجتمعات التي دأبت على نسبة الأبناء إلى أمهاتهم؛ وعليه فإنه زعم بأن (علي فاطمة) أو (علي بابا) شخصية نوبية يهودية الأصل سطا العرب على قصتها ضمن عشرات؛ بل مئات القصص اليهودية الأخرى التي سطوا عليها.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: هشام آدم)
|
ومن عمليات السطو التي أخبر عنها عبد الشافي على الموروث اليهودي القديم تلك الحملات الدموية التي قامت بها الديانات السماوية اللاحقة ضد الأنثوية المقدّرة في اليهودية. وكيف أنها سعت في تعاليمها إلى نسف دور المرأة المقدّس الذي ظلّ طوال حقب سحيقة طويلة معتداً به في الديانات البشرية الأرضية من قبل. لم ير عبد الشافي اليهودية إلا كنسق عقدي متسق تماماً مع اتجاه فطري يُمجّد المرأة ويُعلي شأنها تماماً كما تعاهد النوبيون في الوقت الذي تمّ فيه امتهان المرأة في بقية الديانات اللاحقة عليها. وفي الوقت الذي تفخر فيه الشعوب النوبية بانتمائها الأمومي، فإن كثيراً من القبائل السودانية ذات الأصول العربية تعتبر البوح باسم الأم ضمن جرائم الشرف؛ إذ يخجلون من ذكر أسماء أمهاتهم وزوجاتهم، ويعتبرونها عورات لا يجوز الكشف عنها. رأى عبد الشافي -الذي اعتبره أهالي القرية مجنوناً- أنّ الديانات اللاحقة على اليهودية سعت إلى تشويه التعاليم اليهودية، ونسبت إليها أوهامها المريضة؛ لاسيما تجاه المرأة. كما رأى أن هذه الديانات لم تأت بجديد يُذكر، إلاّ فيما اعتبره إعادة صياغة لما شملته موروثاتهم العقدية: بدء الخليقة، أنباء آدم وزوجه في الجنة، أنباء قابين وهابيل، أنباء الرسل من بعد، الطوفان، نهاية الخليقة. وتحدث عن سطو المسيحية والإسلام على العديد من المعتقدات الدينية لليهود، ونسبتها إليهم بعد إعادة صياغتها في قوالب جديدة؛ ومن ذلك: العقيدة الهرمجدونية التي تقضي بقيام حرب في آخر الزمان بين قوى الخير والشر، وكيف أن المسيحية اقتبست هذه العقيدة ونسبتها إليها، وكذلك فعل الإسلام، وعملتا على اتساق هذا المعتقد اليهودي مع التيار الفكري لكل من الديانتين. وأصبح الماشيح يُمثله يسوع في الثقافة المسيحية، والمهدي المنتظر في الثقافة الإسلامية.
ولم يزل عبد الشافي يُذكر أهالي القرية بتلك المآثر التي دخل عن طريقها الإسلام إلى النوبة، وكيف قاوم الأسلاف النوبيون (رماة الحدق) زحف الجيوش الإسلامية، وأنزلوا بهم الخسائر حتى وقّعوا على اتفاقية البقط التي أتاحت لهذه الجيوش المُعادية التسلل بمهل إلى البلاد كسم الأفاعي الرقطاء. ورغم أن دعواه تلك لم تلق رواجاً كبيراً بين أوساط النوبيين الذين عزوا خطرفاته إلى لوثة الثقافة الوسطية سيئة السمعة آنذاك، إلاّ أن مقولاته وجدت طريقها إلى قلّة من المتعلمين الذين لم تسعفهم الحيلة لفعل شيء أكثر من مجرّد التصديق السرّي بما جاء به الأفندي الخرطومي على ظهر ناقة عشراء منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. وفسّروا عليها سرّ الأحمسية التي أرجعوها إلى: الذلة والمسكنة التي ضُربت عليهم من الله وجاء ذكرها في القرآن كذلك؛ وإذ لا تُوجد دلائل قطعية على ما ذهبوا إليه فقد وجد الكثيرون في الإسلام الذي انتشر في السودان مع قيام مملكة الفونج أفضل الخيارات المتاحة، فسلّموا له زمامهم. توافق الناس على مناداة عبد الشافي خليل بالأفندي، لأنه ترك لبس الجلباب والعمامة واستبدلهما بلبس البنطال (لبس الأفندية)؛ حتى إنه حلق نصف شاربه لأجل ذلك. وأمام دعواه التي اعتبرها أهالي القرية هرطقة موجبة للقتل؛ فإن عبد الشافي هرب ولم يعد إلى القرية مرة أخرى، وترك ورائه زوجته (فتحية بُشارة) بعد أن أغدق عليها بالحُلي والمجوهرات المزيّفة التي ابتاعها لها من الخرطوم، ولم يعلم أحد بزيف تلك المجوهرات إلاّ في وقت لاحق؛ وقيل إنها لحقت به بعد ذلك بوقت ليس بالقصير.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أرض الميّت (Re: awadharoun)
|
عوض هارون يا زول يا جميل ... كيفك؟ إنتا وين يا زول، ما في حتى رسالة واحدة، بيها اتصبّر شوية؟ حليل أبو الزا الكان بيلمنا بس :)
تشكر على المتابعة يا حبيب وح نواصل في الرواية اعتباراً من يوم السبت القادم
تحياتي ليك
| |
|
|
|
|
|
|
|