إبراهيم الرشيد، شاعر يمكن تسكينه في البند الثاني من الشعراء الاربعة، لأنه (يخوض وسط المعمعة).. معمعة المعايش الجبّارة، رافق الفنان إبراهيم عوض منذ العام 1948م ليرفد الأذن السودانية بأروع الأغنيات:
لو داير تسيبنا جرب وانت سيبنا
لو داير تحب
حب وانساهو ريدنا
يوم ترجع تصافي
بسامحك ياحبيبنا
يا عايش في دنيا من اوهام خيالك
يا تاعب ضميرك
ما رضيان بحالك
ماتودر شبابك
روّق وهدئ بالك
رفقاً بي قلوبنا ورفقاً بي شبابك
(2)
ورفقاً بشيخوخة الرجل الذي ركب العشاق (لساتك أغنياته) يتوسلون بها لمحبوبة عصية النوال لايلين قلبها إلاّ بعد أن (يقطع) فيها (مشروخ الحشا)، بيتين تلاتة من نظم الرشيد:
يا زمن وقف شوية
وأهدي لي لحظات هنية
وبعدها..
شيل باقي عمري
شيل شبابي
شيل عينيّا
(3)
وحتى لا (يشيل) الفقر باقي عمر الشاعر الفنان، تعالوا نسمع حكايتو:
هبط من الطيران المدني بمظلة المعاش غير الآمنة في العام 1992م قبل أن تكمل سنابك ثورة الانقاذ الوطني من (فتح) السودان في طبعته الحضارية الجديدة المنقحة.. فجمع (قريشات) المعاش لــ (يفتح) بها دكاناً صغيراً.. بالله عليكم شوفوا الناس بتفتح في شنو وشاعرنا بيفتح شنو..!
ماعلينا.. لم (يفتح) الله له رزقاً (فأغلق) الدكان ليترك باب الديون (مفتوح) العينين.. ليسهر الرجل جراها ويختصم..!
قلت له مداعباً:
ــ يعني طلعت من الدكان بكرامة البليلة؟
قال ساخراً:
ــ أبداً..بالكرامة بس.. بليلة ما في..!
(4)
تراكم على الرجل هم وغم كبيران، حتى صرعه المرض وكاد يلزمه طريحاً لسرير الثرى الابدي بــ (مستشفى) أحمد شرفى، لولا رحمة الله، ثم عناية صديق المنكوبين سبدرات والفريق عبد الرحيم محمد حسين والشاعر كامل عبد الماجد واللواء عبد الجليل المشرف وآخرين.. فخرج من وعكته ممتلئاً باليقين مؤمناً بتداول الفقر والغنى والليل والنهار..
جمع شاعرنا مالاً (زي دم الحجامة) ليشتري به (رقشة)، ــ غاية العبقرية الهندية لأماني الفقراء السودانيين ــ ولأن الرقشة مصابة بالطاعون في عرف السلطات، بالتالي لايحق لها دخول البلدة الآمن أهلها، سحبها (الجوكي) ليلقط بها (حبة) الدراهم المتناثرة في أطراف أركويت.
(5)
في أول مشوار للرقشة، تقابلت مع وحش ياباني كاسر من ذوات الأربع في زقاق ضيق، فإحتضن الرقشة في عناق (جسيم) فرتقتها حتة .. حتة..!
(6)
هل سمعتم بكلب الباشا الذي عض الفلاح؟
الباشا أوكل محامين اقنعوا القاضي بأن الفلاح هو الذي عض الكلب..!
والفلاح هنا هو (الرقشة) التي لو عضاها (قندران) لطلعت ستين غلطانة..!
ما علينا.. نعود لرقشة إبراهيم الرشيد الغلطانة، كانت مثل القطة أدخلت صاحبها النار، فدخل إبراهيم الرشيد الى الحراسة لأنه لم يستطع سداد 450 ألفاً من جنيهات السودان القديم جداً..ما قبل ميلاد السيد قرنق وآرثر أكوين وآخرين..!
مكث الشاعر ابراهيم الرشيد في الحبس ثلاثة أيام يندب الحظوظ السود والليل الضرير حتى تصادف ان شاهده المحسن د. عبد المحسن البدوي وسدد عنه الغرامة..
(7)
حين حكى لي إبراهيم الرشيد ملهاة البؤس به، مستنكراً سماح السلطات للرقشات بأن تقطع البحر الاحمر والابيض والاصفر والميت حتى تصل الديوم الشرقية ثم تحرم عليها ان تقطع بحر أبيض ونيل غردون وخور ابو عنجة، قلت له لماذا لاتخاطب المتعافي شعراً، لعله يعطيك رخصة، ضحك الرجل وقال:
ــ الرخصة في شنو؟
ــ للركشة.
لم تعد هناك رقشة اصلا حتى يُسأل لها رخصة.. فلماذا لا يقتطع المتعافي من قوت ولايته الشبعانة (حق رقشة) إكراماً للرجل الذي يقول متعففاً حيث لا ركشة:
ما قلت داير بص
لا حافلة لا أمجاد
او قطعة في الطايف
أو رخصة استيراد
انا لي طلب هايف
بس رخصة للرقشة
لي عيشة الاولاد
ما عندي يا دكتور غير الشعر مهنة
القلتوا ما بشفع تمنحني استثنا؟
(8)
وسام شرف يا والي وما كان خطر بي بالي
ادخل حراسة الحركة واعزف هناك موالي
واقعد مع الشماسة فوق البريش البالي
ويسألني زول مسطول يا (فردة) شن سويت؟
ونحنا في الزنزانة ناقصانا بس (فردة)
جابونا ناس الحركة في كشة في جردة
دا الوالي صغرنا وقرارو حيرنا
خلانا في لحظات، كم تهنا، كم ودرنا
من عهد (روبرت هاو) ما حدّ حقرنا
يا حليلهم اولاد (جون) الفاتو بندرنا
أنا ماني داير بيت او عزبة في المنشية
او فيلا في كافوري اغشاها ليل وعشية
داير لي رخصة رقشة نتاري في الدغشية
تجيب عشا الاولاد وتتقرش العصرية
وكتبنا للريس ما جانا منو جواب
حردلو قال يا ناس منعول ابوها بلد
ما بتنصف المبدع معاها كتب وسرد
واخر المطاف يا ناس تلقوه غاب وشرد
(9)
* حاشية:
خمسة عشر رجلاً التي عنيناها في المقدمة، هم الذين كانوا (يعتاشوا) من الرقشة المكلومة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة