|
مع الأحداث ... سوق "أبو جهل" بقلم / بابكر عيسى *
|
عندما يمتلئ أفق السياسة بالأكاذيب والادعاءات يبحث المرء عن مسارب للهروب بعيداً عن هذا الواقع وبعيداً عن تلك الادعاءات والأكاذيب عله يتنفس هواء عليلاً لا يحمل في أحشائه ملوثات تصيب العقل والقلب والأعصاب، ولعل من أفضل الساحات التي يهرب إليها الإنسان هي ساحة التراث، علّ تراب الماضي المتوهج يزيل صدأ الحاضر المتراكم في صدور الناس. خلال صيف العام الذي مضى، وأنا أنعم برؤية الأهل ودفء القبيلة، طلب مني أن أحاضر عن مدينة الأبيّض حاضرة مديرية كردفان، عن ماضي وحاضر ومستقبل تلك المدينة التي كانت بوابة التاريخ وأصبحت متاهة للضياع.. كان من الصعب استرجاع كل الصور القديمة والمواقف والأحداث التي شهدتها المدينة على مسار معارج التاريخ منذ الحكم التركي والحكم الثنائي والمهدية والاستقلال، كانت هناك محطات كثيرة يذكرها الوطن على امتداده لعروس الرمال وهو الاسم الذي اشتهرت به عاصمة كردفان والتي تعرف «بالغرة أم خيراً بره». تذكرت مواقف لرجال عظام أثروا حاضرهم بابداعات باقية وشعراء سجلوا أروع القصائد في حب الوطن ومنشدين ورجال طرق صوفية وأعيان الاسماعيلية وقبة إسماعيل الولي ومزارات الصالحين وذلك التزاوج الرائع بين الأصالة والمعاصرة وبين العروبة والزنوجة وبين الغابة والصحراء، فقد كانت مدينة الأبيّض بوتقة ينصهر فيها وبداخلها كل شيء حتى باتت أيقونة تمثل كل أهل السودان. توقفت طويلاً خلال الحديث عن المدينة عند واحد من أقدم الأسواق، أو يمكن أن يطلق عليه شيخ الأسواق وهو "سوق أبو جهل" الذي يضم كل ثراء كردفان من الصناعات إلى المنتوجات إلى أفخر أنواع العسل الأصلي والسمن البلدي وكل ما يعبر بين الاثنين مما تنتج الأرض، وسعدت كثيراً بحرص أهل المدينة على الحفاظ على هذا السوق بطابعه القديم والأصيل، وساءني أن سمعت أنباء تتردد عن نية الحكومة المحلية لهدم هذا السوق وإعادة بنائه على النمط الحديث، وقلت إن هذه حماقة يجب ألا يطول السكوت عنها، وأن أي تعدٍ على هذا السوق هو تعدٍ على الأصالة والتاريخ، وهو جريمة سيسأل عنها شباب الزمن الحاضر. تحدثت بأسى عما أسمعه همساً وأرصده تلميحاً، وأعدت لذاكرة الحضور اهتمام الأمم والشعوب في شرق العالم وغربه بالتراث، وقلت لهم كيف أن الأمم الحية تحولت أسواقها القديمة إلى مزارات وإلى شواهد حاضرة تستذكر الماضي وتطل على المستقبل بثقة واقتدار. دعوت كل أبناء كردفان وخصصت بالذكر أبناء مدينة الأبيض أن يتصدوا لأي محاولة لازالة "سوق أبو جهل" أو تشويه نمطه التراثي الفريد، وأن يشكلوا روابط لحماية التراث، وأنا على ثقة أن "سوق أبو جهل" سيبقى صامداً حتى ولو تطاولت عليه أيدي الجهلاء أو أولئك الذين لا جذور لهم في الماضي ولا في الحاضر ولا يعني لهم التراث شيئاً. *مدير تحرير الراية
|
|
|
|
|
|
|
|
|