الخرطـــــــــــــــــــوم
ليست كأمدرمان,, الخرطوم, ليست كأمدرمان تأتي, في قطار الثامنة, الخرطوم تأتي, علي كل القطارات, وفي كل الدقائق والهنيهات, الخرطوم تأتي, كأطياف الحبيبات العفيفات, كالأمهات, كدعوات - بظهر الغيب - تأتي, طاهرات مخلصات مؤمنات, الخرطوم تأتي, في الصباحات الندية, وحين نضع ثيابنا من الظهيرة, وعند الأمسيات, الخرطوم ليست كأمدرمان, تأتي في قطار الثامنة,, فهي فينا, كالنفس الطالع نازل! كالحلم أن نأتي إليها ذات يوم, ونحن أحرار, كما النوارس والأيائل,
الخرطوم تأتي, ونأتيها, كما تأوي العصافير إلي أوكارها, كما تحن الفراشات إلي أزهارها, الخرطوم لا تفارق, وفية دوما, كقلب أمي في البعيد, صاخبة أبدا, كدماء خضبت صدر الشهيد, والخرطوم لا تعرف السجون, وتمقت الجنود, والرجال المهمين, وتعشقنا, تعشق المشردين والمهاجرين, وتحملنا, في حدقات عيونها الكبيرة, ونحملها, في خطانا المنهكة, وفي قلوبنا المرهقة, وفي حزننا الأبدي عليها, وعلي ما تأملناه دهرا, أن يعود, فلم يعد, وأدمنا القعود!
الخرطوم سيدة المدائن, نبيه النساء, قبلة الثوار, ملجأنا إذا أشتد الأوار, و.. أمنا, خلقت من ضلع حبيبة مغناج, ومن ثغر أنثي ماجنة, فكيف تأتي في قطار الثامنة, فقط لا غير?!!
الخرطوم تأتي في كل شئ حولنا, هي في بيوت المهاجرين, مندسة بعناية, تحت الوسائد, وفي الحقائب, وعلي الأبواب السميكة, رأيتها في مطابخهم, وسمعت صوتها, منبعثا من مسجل سيارة قديم, رأيتها في عيون الناس الغرباء, يغلقون عليها أعينهم في وقار, وحتي وهي تحت القيد, كانت تتسامي ليلا لتلتقينا, وتصطفي الأخيار والثوار, كانت معنا, و " العسكري الفقري " يدوس ببوته عليها, فنبكي وتواسينا!! نبكي قهرنا وعجزنا, وتواسينا!! تخشي علينا, وحشة المدائن البعيدة, قسوة البوليس, فتتقاسمنا,, وتتقاسم نفسها بيننا, كانت قربي, وأنا أعبر الحدود, وأوحت إلي الضابط الغاضب بشئ, فأبتسم في وجهي, وسمح لي بالمرور!! وفي ذات الوقت, كانت بصحبة رفيقي في الزنزانة, كانت تجلس بين أحبابي في " مقهي التوحيد " وكانت ترافق " البنت المدينة " في ركضها المحموم, علي طرقات " السوق العربي " ! كانت مع الشهيد, في المدينة الثلجية البعيدة, لقنته الشهادة, وأغمضت عينيه, وبكته, قبل أن تبكيه أمه,,
ولما أشتد علي الشوق, وسدتني صدرها, فبكيت, بكيت حتي نمت, فتركتني نائما وذهبت, ولم تنس أن تعبئ رأسي, بالأحلام الجميلة,,
كانت في بيوت الأشباح, تطبب الجراح, وتمنح الأمل, كانت في معسكرات التجنيد القسري, ورافقت شهداء " العيلفون " , إلي مثواهم الأخير,, وفي الجنوب, كانت تحتضن المشردين الخائفين, وتقودهم عبر الأحراش, إلي الأمان, ورآها الناس في دارفور, رأتها البنت المغتصبة, تهمس في أذن الجندي المغتصب بشئ, فيقوم عنها, ويولي هاربا,, ورأتها النساء المحتطبات, تماشيهن تحت أجواء الخطر, وفوق رأسها حطب, ولا عجب, فهي موزعة بيننا بالتساوي, تدافع عن السكاري, في الملاهي الليلية, وتشد من أزر المقاتلين, في المناطق القصية, وتصوم مع الفقراء, وتفطر معهم, علي القضية,
الخرطوم - سادتي - منا, آل الشعب,, ولا تمت إليهم بصلة, الخرطوم ليست "كوزة" , كي تمنحهم كفها المخضوب, أو تسمح لهم, أن يعتصروا, من ثديها الحليب,, وكاذب من قال أنها منافقة, أو فاسقة! كيف وهي أمنا, تكون فاسقة! كيف وهي تمقت اللحي الكذوب, وتعريهم, لصا لصا, تصير عندنا منافقة!! كيف ونحن أبناؤها, نصبح فجأة غرباء!! كيف وحبلها السري فينا لم يزل, نصير في عيونهم خونة, ومأجورين!! كيف تحولت أمنا الخرطوم عاهرة, ونحن صرنا, بعض أولاد الحرام المجرمين!!
لا تبتأسي يا سيدتي, فالغرباء هم, والأشقياء هم, والأوغاد هم, وهم, رغم قربهم, أبعدهم منا عنك, وعن السماء, ونحن رغم بعدنا, نعيش فيك! وأنت رغم أنفهم جميعا, لا تمكثين إلا عندنا, لا تنامين إلا بيننا, وحين نسترد أرضنا ونرجع, ستكونين كأي واحد منا, مشردة غريبة, ولكن, مملوءة بالفخر والإعتداد, مرفوعة الرأس في كبرياء, وفي إباء, تقبل السماء, سترجعين, كأي واحد منا, شعثاء غبراء, ومملوءة بالحب, حد الإرتواء, ستبكين - مثلنا تماما - الرفاق الذين رحلوا, قبل أن تكتحل عيونهم بالأرض, قبل أن يحاصرهم, من الوطن الضياء, ستبكين معنا, علينا, وعلي الناس الغرباء, الناس الشهداء, ستلتحمين معنا سيدتي, كما عهدنا بك, وستغنين معنا, بصوتك القوي النقي التقي, أناشيد النصر والحرية, الحرية الحرية الحرية
هم لا يشبهونك يا خرطوم, وأنت تشبهيننا, في تمردنا, في توهجنا, في شوقنا للشمس, في حبنا العميق للسماء, في توقنا المجنون للخروج, في إنعكاس صورة الحبيبة, من عيوننا, في قلوبنا, في فقرنا, في حبنا للناس والحياة, في كل شئ حولنا, تشبهيننا, ولا تشبهينهم, فكوني يا سيدتي, حربا عليهم, وكوني لنا النجمة, كوني لنا, مثلما كنت دوما, أمناالخرطوم....
Gz 17.12.07
هوامش :
* " أمدرمان تأتي في قطار الثامنة " : قصيدة مشهورة للأستاذ كمال الجزولي. * مقهي التوحيد : مطعم ومقهي شعبي, كان يأوي إليه خريجي الجامعات, فلا يتضجر, بل يستقبلهم بكل ترحاب وشوق, شكرا له. * البنت المدينة : صديقة قديمة, كان من ضمن مهامها الوظيفية الطواف بين الشركات الكائنة في وسط الخرطوم, لها الله. * السوق العربي : غني عن التعريف. * شهداء العيلفون : معسكر العيلفون, حيث فتح العساكر النار علي الصبية الصغار, أثناء محاولتهم قطع النهر والذهاب إلي بيوتهم, لقضاء العيد مع ذويهم, يرحمهم الله. * كوزة : لا تحتاج لتعريف. http://www.newsudan.org/vb3/showthread.php?t=18188
|
|