|
|
"تبكيك الجوامع وحِلَقْ الذكر" صديقى ياسر يرثى والده عثمان حامد.
|
Quote: تبكيك الجوامع وحِلَقْ الذكر
جوف الليل يسأل عنك,
والثلث الأخير من الليل يفتش عنك,
والمآذن العتيقة تناجيك,
والفجر يسأل عن تراتيلك الرخيمة,
والمسجد يسأل عن حمامته التي طارت في السماء,
وأنا أسأل الله لك القبول والدي العزيز.
كان يوماً عبوساً قمطريرا حين دقت ساعة الرحيل وبلغت الحلقوم وأنا اناظر المَكْ الأصيل ذو الجسم النحيل مسجّىً في هدوءٍ, حينها علمت أن طيفاً قد رحل وحزناً قد أطل, وأن نخلةً باسقةً قد هوت, وأن رجلاً بقامة الشمس قد انتقل, وأن ستاراً لمسرح حياة قد إنسدل فيا وجعي ووجع المُقل, سبحانك ربي فيما اخترت ولا اعتراض في حكمك, لكني حينها فقدت توازني وتحسست الأشياء من حولي وأول ما تحسست الهواء الذي نفد من صدري فكيف لي بمخرج من فوهة الحزن, فقبعت حينها في قوقعة بلهاء!! ولكنَّ الله كان بي لطيفاً حين أفرغ عليَّ صبراً جميلاً وثباتاً محروساً وأحسست بهذا الرحيل الموجع كنسمة هبت من النافذة وعبرت من الباب!
الفقد عظيم لا سيما أن الرجل كان عظيماً, عشا ضيفان, مكافحاً كعم عبدالرحيم الحُر وصحبه الذين خاضوا معاركاً كثيرة مع الحياة وكابدوا الجوع والمسغبة بحفنات من الورع والتبتل والزهد بما لا يتجافى مع ديدنهم في علو الهمة وشموخ الجبين, فلا يستطيع أحد أن يسرق دفء الشمس منهم في زمهرير العاديات من الأيام, ولاتستطيع قوة أن تقهر تقدمهم في مسيرة حياتهم وتعليم أبناءهم وتربيتهم على طريقتهم, دخلوا فقراء الى الدنيا وعاشوا فيها دراويشاً عفيفي اليد واللسان وبعفتهم انتثر العطرالجميل وفاح أرج الرجال, وخرجوا كما دخلوا منها.
كان إيثار النفس عقيدةً راسخةً عندهم والإباء عمامة لاتفارق رؤوسهم العالية وكان سلاحهم آيات الله التي سكنت قلوبهم وحفظوها في الشغاف قرباناً الى الله فحفظتهم وحفظت جوارحهم الى أن سكن الخفقان وانقطع الهواء. ما أروع أن تتعلم دروس الحياة من الذين رسموا أجمل لوحات الحياة, وما أروع أن ترشف من سواني بيت السقيا.
بعد التغلب على الحزون والشجون أحسست باليُتْم بَيْدَ أنَّ هذا الرحيل الموجع ترك في نفسي فجوةً سحيقة تؤرقني كلما هبت عليها نسمات الذكرى, أحسست بانقطاع الأنس الجميل والطلة البهية والبساطة الراقية والقفشة العفوية, أحسست بأن الشمعة التي هزمت العتمة قد خبت, أحسست بأن كل المدائن قد هاجرت, أحسست بأن المنافي والمسالك المغلقة قد أصبحت حائلاً, أحسست بالتوهان في أفلاك البعاد السرمدي, أحسست بالحزن النبيل, أحسست باليُتْم الحقيقي سيما وتربطني أُلفة خاصة بوالدي من نوع يصعب تفصيله, فهو والدي وشيخي وصديقي وتُمامة كيفي, ولكني سرعان ما أهرب من هذه الكؤوس الملئى بالسراب حيث مجرد التفكير فيها يرهق النفس ويذهب بالعقل في أغوار الميتافيزيقيا, والحشا المحترق والدمع المسفوح يتماشىيان مع فرضية الواقع بعيداً عن الحبور!
الدعاء متصل والذكر قائم في حِلَقِه, ومكانك والدي هوةٌ تهِبُّ فيها رياح الجنة .. تراتيلك أسمعها في عالمي الخاص .. عبقك مختزنٌ في خياشيمي .. همهماتك اسفير في اذني .. فأنت حاضر مقيم في ذاتي .. ياله من فقد .. ويا له من خُسران!
ربي أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحد من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن ترحم عبدك الفقير اليك وأن تسكنه أعلى فراديس الجنان وأن تجعل ملائكتك المقربين يدخلون عليه من كل باب .. سلام عليه بما صبر ونعم عقبى الدار وأن تنقله من ضيق اللحود والقبور الى الدور والقصور في سدرٍ مخضودٍ و طلحٍ منضودٍ وظلٍ ممدودٍ وماءٍ مسكوبٍ وفاكهةٍ كثيرةٍ لا مقطوعةٌ ولا ممنوعة, وفُرشٍ مرفوعةٍ مع الذين أنعمت عليهم من الصديقين والشُهداء وحَسُنَ أولئك رفيقاً.
والدي العزيزي نُم قرير العين تؤنس وحشتك الزهراوان وتحرسك أم الكتاب والسنام وتنير ظُلمتك النازعات والفرقان, وتوسد مرقدك برا وسبحان, ومن خلفك الزخرف والدخان, ومن أمامك الواقعة والرحمن, وعلى يمينك الأعراف والإنسان, وعلى يسارك الحاقة والعمران حرساً شديداً من كل دابةٍ أو شيطان, أُنساً جميلاً الى يوم الجمع الذي فيه نلتقيان.
كان لا بد لي أن أشكركل من شاركنا الأحزان في جميع مناكب الأرض وأخص بالذكر الأخوة والأخوات أعضاء منبر كردفان أونلاين وسودانيز أونلاين والجالية السودانية وأصدقائي بمدينة جدة الذين كان لوقفتهم معي أثر بالغ في نفسي وأهالي مدينة الأبيض العظماء الذين تقاسموا معنا الأحزان وجعلوها تتراخى, وزملاء وأصدقاء إخواني وأخواتي وأحباب الوالد ومُريديه .. ولا أراكم الله مكروهاً في عزيز, وانشاء الله آخر الأحزان. |
|
|

|
|
|
|