|
عزلة المبدع .. نكوص أم إغواء؟!..صلاح شعيب و أبوعسل ...
|
هنالك في البرزخ القائم بين حياة يحياها وأخرى يحلم بها، يُـقيم المبدع، قريباً من تلك الردهة المضاءة المسماة كتابة، مستمتعاً بجحيم هذا الإنحدار الروحاني، يبحث عن لسعة نار ولو أحرقته، ينتعل الشمس فقط كي يزرع حقوق الآمال والأحلام في أرض يباب جرداء، ويُـقاوم قتلة ضوء الشمس. لا يطأطئ رأسه أبداً لليل اللامعنى، مهما كثرت نجومه، أو طال سمره، أو كثر عشاقه. يحترق بروحه المتوهجة، الخفاقة، الملحقة، المتمردة، المولعة بالسفر في عوالم الصفاء والإشراق المألوفة والجاهزة، والاحتراق بصوفيته ورهبنته وتوحده مع ذاته ومع الكون، يجز خنجر الغربة وروحه الشفافة أحياناً، فيقول أبوالقاسم الشابي: "إنني طائر غريب بين قوم لا يفهمون كلمة واحدة من لغة نفسي الجميلة"، يتألم أحياناً بسعير غربة لطالما احترق بها أبوحيان التوحيدي، فيقول بعد قيامه بحرق كتبه: وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح من أحدهم وداد؟ ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء. وقد يصير المبدع حلاج عصره ويحترق بنار التجاهل واللامبالاة واللاعتراف، حين يصرخ أنا الجمال، أنا العمق، وحين يشق صدره للعامة، قد يرى مثلما رأى المتنبي أن دهره ليس جديراً به، قد يُـتهم بالأنانية والتعالي والهرطقة، لكن سرعان ما تنكسر النصال على النصال، ويمضي المبدع ليرخي سجف عزلة ارتضاها لنفسه، حين رفض الانخراط في ببغائية الجوقة، والإذعان لقيم مستهلكة ومعلبة. هو مثل بطل قصة ويلز "بلد العميان" الوحيد القادر على الإبصار، هو ذلك اللامنتمي لكولن ولسون الذي يشعر "بأن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقاً وتجذراً من النظام الذي يؤمن به قومه، إنه ليس مجنوناً، هو فقط أكثر حساسية من الاشخاص المتفائلين صحيحي العقول". وعزلته ليس نكوصاً أو هروباً أو جنوناً أو عجزاً عن ترميم الصدع الفاغر فاه بين المبدع ومحيطه، بل هي رفض الانصياع لجحيم اللامعنى ولمحيط وجودي مبتذل، وتضخم الإحساس لديه بتفاهة العالم، فغدت عزلته فناً وبرجاً وجودي خلاقاً ومنتجاً. وانخراطاً طفولياً لنداء مجنون جارف. وإغواء موحشاً عذباً. ولا أظن أن المبدع سينزعج إذا أحس بأيد ملائكية هادئة تطرق عزلته بهدوء وشفافية، وتشاطره شطحاته وعنف فرحه، دون أن تشوش على حريته، يلجان معا عوالم الماوراء، يبحثان عن نبتة الخلود، يرفضان معاً كل متاهة حقيقة تحرض على اللامعنى ويوتران حياة موشاة ببهاء الكلمة والعمق والصفاء، خلوداً جلجامشياً هادئاً في حضن التاريخ.
نواصل ...
|
|
|
|
|
|
|
|
|