|
الشارع السوداني والسيناريوهات السياسية القادمة (2)
|
بقلم : صلاح الباشا : [email protected] قلنا في الحلقة الماضية أن هنالك عدة سيناريوهات سياسية تتوقعها بلادنا وقد بدأ يتداولها الشارع السوداني هذه الأيام بجرأته وصراحته في مسيرة حياته اليومية.. وهو شعب معروف عنه أنه يعشق تناول همومه السياسية بكل صدق ودون مداراة مهما كان ثمن ذلك .. فنراه يجهر برأيه في الشارع العريض وفي المكتب بل وفي المساجد وأمام البقالة في الحي حين يذهب ليبتاع أغراضه منها .. فهو شعب محترف في التحليل السياسي ولا يحتاج لفلاسفة لينتقدوا له السلطة نيابة عنه .. بل حتي مشاكله الإقتصادية ظل يتناولها بالمفتوح ودون تحفظ أو خوف من أية ضغوط .. حيث لم تستطع كل محاولات الحكومات التي مرت علي البلاد وحتي اللحظة من السيطرة علي أشواق هذا الشعب وعلي عشقهِ لتناول الفعل السياسي .. وقد تحمـّل الكثير والكثير في سبيل الجهر بآرائه التي تتفاعل وتعتمل داخل الصدور للدرجة التي أجبرت كل الحاكمين والقابضين علي جميع الأجهزة الضاغطة – الأمنية منها والعسكرية – في مختلف الحقب السياسية من أن تستجيب لرغبات هذه الجماهير للدرجة التي جعلت كل تلك الأجهزة تنادي مؤخراً من أجل التعافي الوطني ونسيان كل آلام الماضي .. بل وتعتذر عنه بكل الصراحة . __________________________________________ وقد لوحظ في الأونة الأخيرة أن أخبار السودان الدارفورية ظلت تطغي علي كافة أشكال الميديا العربية والدولية ( إذاعات – وكالات أنباء – فضائيات – مراكز تحليل – منظمات حقوق ) إلي آخر القائمة . غير أن الحراك ومتغيراته داخل أوساط صناع القرار والمحللين والمنظمات المعنية أصبحت تتضارب في تقييمها للموقف السوداني الرسمي من أزمة دارفور .. بالرغم من أن بعض المحللين والنافذين تغشاهم أحياناً صحوات ضمير بأن الماكينة الإعلامية الأمريكية والبريطانية باتت تجهد نفسها لتغيير مسارات الإعلام العالمي الذي ظل مشدوداً ولأربع سنوات كاملة بمسألة العراق وبالإخفاق الأمريكي الذي ظل يراهن علي حكم الشيعة هناك بعد تدمير البنيات التحتية لذلك البلد الجميل . وهذا التضليل كان يتحين أي فرصة لأبي حدث جديد ليشغل به الأنظار عن غباء القرارات الأمريكية البريطانية في المسألة العراقية ..فلم يصدقوا أن تطل عليهم مسألة دارفور التي أطلت عليهم في طبق من ذهب .. حتي أن الإستراتيجية الإسرائيلية برغم ذكائها المعروف قد أخفقت حين قامت بتحريض القوي الكبري لضرب العراق لتحقيق سلامة المنطقة من الخطر النووي .. ولكن سرعان ما إنكشفت أكاذيب ذلك التقييم ومجافاته للواقع .. فماكان منها إلا وأن تحول مسار التحريض نحو تدمير الصناعة النووية لجمهورية إيران .. غير أن الإيرانيون وبسبب توحد جبهتهم الداخلية قد اثاروا ذعر الولايات المتحدة وبريطانيا علي السواء من الخوض في معارك حربية ستكون خاسرة وستخلق واقعاً إقليمياً جديداً ينذر بمخاطر جمة حيث تحتقن المنطقة بمخزون طاقة نفطية جبارة قد يصيبها الحريق.. فأكتفي مجلس الأمن إصدار عقوبات علي إيران التي باتت تتوقع ذلك منذ زمن . توقعات الشارع السوداني والسيناريوهات المتشائمة إن السيناريوهات التي ظلت تسيطر علي أخيلة الشارع السوداني العريض والمتابع لكل مايجري تجعل أكثر التوقعات تنحصر في عدة خطوات تنوي الإدارة الأمريكية تحريكها من داخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع للمنظمة بحيث تمارس بها سياسة لي ذراع للنظام الحاكم بالخرطوم كي يتسجيب لمطلوبات واشنطن ولندن والمتمثلة في أهمية قبول دخول قوات أممية إلي إقليم دارفور لنزع سلاح الحركات المتصارعة ولمراقبة وقف إطلاق النار تمهيداً لإعادة النازحين إلي قراهم التي إلتهبت بسبب الحرب الكارثة .. وهذا هو ظاهر الأمر .. غير أن بعض الهسمات تقول أن لإسرائيل مطلوباتها الأخري من الخرطوم !! وقد ظلت بعض تلك المطلوبات أو الأمنيات الإسرائيلية تأتي منذ زمان الإنقاذ الأول .. وفي مقدمتها مياه النيل العذبة .. وذلك موضوع آخر سنتناوله في وقت لاحق . وتلك السيناريوهات التي تتداولها الجماهير في مفاصل حياتها اليومية لا تخرج عن ثلاثة إحتمالات .. غض النظر عن قبولها شعبياً أو رفضها شعبياً أيضاً وهي مرفوضة حكومياً بالطبع : أولا: صدور قرار من مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات إقتصادية تتمثل في حظر تجاري شامل علي السودان .. وهو مايعرف بإصطلاح : trading embargo . ثانياً : إنزال بالقوة لقوات أممية تتكون من دول فقيرة في إقليم دارفور والسيطرة عليه . ثالثاً : يبدأ الضغط علي نظام الخرطوم لقبول شروط الحركات الدارفورية كلها .. برغم درجات الصعوبة في قبول معظمها لعدم توفر ظروف تنفيذها علي أرض الواقع . التردد الأمريكي البريطاني ومعدل نجاحات الحل السوداني إذا تناولنا بالتحليل والتقييم كل تلك السيناريوهات سالفة الذكر والتي يتداولها الشارع السياسي بالسودان دون وجل .. سنجد أن التردد الأمريكي البريطاني وعدم قدرته علي إرسال قوات لتنفيذ القرار 1706 والإستعاضة عنها بطلب قوات لاحول لها ولاقوة من دول فقيرة لا تعرف شيئا غير الحرص في الحصول علي ( شوية دولارات أممية ) شأنهم شأن نظام المرتزقة الذي كان سائداً خلال حقب قديمة سابقة في العالم .. يجعل عشوائية تنفيذ ذلك القرار مصاباً بالفشل الذريع.. خاصة إن قامت الحكومة السودانية بمواجهته عسكرياً كما حدث في الصومال وفي الجزائر قبل الإستقلال وفي فيتنام قبل أربعين عاماً .. دعك عن المد الشعبي الدارفوري الذي سيعرف كم هو مؤلم تعامل القوات الأممية المرتزقة مع تقاليد أهل درافور ومع أعرافهم الإجتماعية التي سترفض وبعنف شديد ممارسة القوات المرتزقة مثلما سبق أن مارسته من قبل في حق مجتمعات جنوب السودان مؤخراً .. بحيث أخجل الأمر كل الأسرة الدولية .. لكنها غضت الطرف عنه. وهذا وحده يجعل الأمريكان والبريطانيين يتوجسون من إرسال قوات ( بيضاء ) حتي لا يحدث فشل عراقي آخر بدارفور السودانية .. كما أن الحركات الدرافورية المسلحة ربما تنقسم علي نفسها وتتساءل في حيرة : هل تقف علي الحياد أم إلي جانب الجيش الحكومي أم إلي جانب القوات البنقلاديشية والسيرلانكية والسلفونية المتوقع إستجلابها إلي محرقة دارفور القادمة مثلما ظلت تكتبه بعض صحافة أمريكا ومحلليها .... نعم إنها ظروف عصيبة قادمة تستوجب جهدا فكريا خلاقاً يعيد الأمور إلي نصابها بعدالة تامة إلي شعب دارفور ويحق الحق ويحاكم محلياً كل المتجاوزين من كافة الأطراف دون مجاملة أو تردد لتفويت الفرصة علي المخطط الأجنبي الذي بات مكشوفاً بكل وضوح ، فلاتزال فرص توفير الحل السوداني بحواره الدارفوري – دارفوري يعتبر أنجع السبل بعد أن جربناه في الجنوب وفي الشرق مؤخراً .. بدلاً عن الدخول في الإنفاق الأممية المظلمة والتي أصلاً لم توفق في حل مشكلات الشرق الأوسط . أما عن سيناريو الحصار التجاري علي السودان .. فإن جمهورية الصين لن ترضي بأن يكون ناتج إستثماراتها بالسودان يذهب سـُديً مع الريح هكذا .. فهي ظلت تعلق آمالاً عريضة علي سياساتها الإستثمارية بقارة أفريقيا حيث يـُعتبر السودان نموذجاً ناجحاً يصعب التفريط فيه .. وبالتالي ربما تخرج الصين من ترددها الطويل في مثل هذه المواقف بالمنظمة الدولية وتبدأ في توظيف وإستخدام حق الفيتو لأول مرة لإفشال أي قرارات لعقوبات دولية جائرة .. تساندها في ذلك مواقف روسيا الأخيرة حيث أخرج رئيسها فلادمير بوتين كل الهواء الساخن من جوفه خلال الفترة الماضية في إجتماعات ميونيخ الأوربية ضد السياسة الأمريكية والبريطانية بالمنطقة ، الشيء الذي أحدث إرتباكاً لدي صناع القرار في واشنطن ولندن وبرلين وباريس وتل أبيب علي السواء . وربما تقول بعض التحليلات بأن فرص متاجرة الصين مع دول الغرب وأمريكا تمنعها من إستخدام حق النقض بمجلس الأمن حتي لاتخسر متاجرتها الناتجة من جراء صادراتها العديدة لتلك الدول سواء كانت تلك المتاجرة من خلال منظمة التجارة الدولية أو غيرها .. لكن من جانب آخر فإن الصين تعلم تماماً بأنه من الصعوبة بمكان أن يتخلي التجار المستوردون الأوربيون والأمريكيون عن إستيراد السلع والبضائع الصينية التي تغرق بها أسواق تلك الدول لسنوات طويلة ماضية ، حيث لا توجد سلع بديلة بذات أسعار وكميات وحجم تلك البضائع التي تبدأ من المواد الغذائية المعلبة وتنتهي برقائق الإلكترونيات وأجهزة الكهرباء .. بل والسيارات الصغيرة ذات الكلفة الإقتصادية المتواضعة .. فيصيب الكساد والإضطراب التجاري أسواق دول أوربا وأمريكا في مقتل ... ولكن برغم ذلك فإن كافة الإحتمالات متوقعة سيناريوهات الحلول وتحركات سلفا كير إذا عدنا لسنوات قليلة إلي الوراء وتذكرنا مقترح الراحل الدكتور جون قرنق بشأن أزمة دارفور ، فلابد من الوقوف عند ذلك المقترح الذي كان ينوي القائد الراحل السير فيه بتنسيق مع حكومة الخرطوم وهي شريكته النافذة في السلطة بكافة مكوناتها . فقد كان يفكر في خلق قوات مشتركة بين الجيش الشعبي والجيش القومي للسيطرة علي جميع جبهات القتال وجمع السلاح من مليشيات الحركات المناوئة والمتقاربة مع الحكومة علي السواء .. وبالتالي يسهل تطويق النار وتمهيد الطريق لمفاوضات جادة تضع الحلول الواقعية للمشكلة الدارفورية التي لا تستند علي جذور خلاف تاريخي طويل المدي كقضية الجنوب. وهاهو اليوم يقوم خليفته القائد الفريق سلفاكير ميارديت النائب الأول لرئيس الجمهورية ببذل جهد يقترب من الذي كان سيبذله الراحل قرنق .. حيث سافر سلفاكير إلي أنجمينا وقابل فيها السيد أحمد إبراهيم دريج لتوصيل رسالة إلي قادة الحركات الدارفورية للدخول في مفاوضات أخري جادة وحاسمة في العاصمة الجنوبية جوبا بعد توحيد خطابها المطلبي . ولعل هذا الجهد يعتبر واحداً من أهم وأسرع السيناريوهات التي تعمل علي الخروج من هذه الأزمة إذا تواضعت الشروط من الحركات الدارفورية وخرجت من طور التعجيز بالنظر إلي واقع الحال الإقتصادي السوداني حتي لا تكون هناك حلول يتم التوافق عليها ثم يصعب تنفيذها عمليا علي أرض الواقع بسبب العجز المالي مما يؤدي إلي إنهيار الإتفاقيات عند أول محطة مبكرة . كما أن طبيعة المشكلة الآن باتت تنحصر في الإسراع بمعالجة أوضاع النازحين وإعادتهم إلي قراهم التي هجروها حيث من الممكن إعادة تأهيلها ومدها بالبنيات التحتية وفق برنامج إسعافي عاجل تشارك فيه المجموعة الدولية والمانحين جنبا إلي جنب مع الحكومة السودانية . لذا ... وجب الإنتباه مبكراً للحفاظ علي جسد الدولة السودانية من الإنهيار الكامل بتحريك مبادرة الحل السوداني القادم من مقترحات وتحركات النائب الأول للرئيس . أما مادون ذلك فإن الإرادة السودانية قادرة علي إدارته بكامل الحرص والكفاءة الجادة الملتزمة بالأجندة الوطنية المتمثلة في تعميق الحريات ومحاربة الفساد وسيادة حكم القانون بقضائه المستقل لخلق دولة قادرة علي توفير أساسيات الحياة الشريفة للجماهير . وعند تحقق كل ذلك .. ستـتـفتح ملايين الزهور في ساحات بلادنا الواسعة ،،،،،، ****** نقلاً عن صحيفة الخرطوم
|
|
|
|
|
|