لن يطالكم منه إلا الفقر والمسغبة ـ د.عثمان إبراهيم عثمان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-28-2024, 11:57 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-03-2010, 07:27 AM

زهرة حيدر ادريس
<aزهرة حيدر ادريس
تاريخ التسجيل: 11-26-2004
مجموع المشاركات: 1139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
لن يطالكم منه إلا الفقر والمسغبة ـ د.عثمان إبراهيم عثمان

    دشن حزب المؤتمر الوطني حملته الانتخابية لرئاسة الجمهورية، وولاية الخرطوم من إستاد الهلال بأم درمان مساء السبت 13/2/2010م، فخاطبه المواطن عمر حسن البشير، مرشح الحزب للرئاسة، مرتجلاً برنامجه الانتخابي، أو بالأحرى مفصحاً عن مواصلة برنامج الإنقاذ، الذي بدأ منذ أكثر من عشرين عاماً، والذي سوف نعرض لتحليله في عدة مقالات – لنرى أن كان يقول الصدق أم لا - تحت عنوان: (لن يطالكم منه إلا....)، فنسلسلها بإكمال النقاط بكلمات وصفية لكل عنوان مقال؛ إذ سيتناول المقال الأول الفقر والمسغبة التي لاقاهما الشعب السوداني منذ قيام انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989م وحتى الآن؛ ومع ذلك يود مرشح المؤتمر الوطني أن يوردنا إياهما لخمس سنوات حسومة، قادمة.
     تحدث مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة عن صفوف الرغيف، والبنزين في العهد الديمقراطي، وانعدامها تماماً بعد قيام الإنقاذ. ففي هذا الصدد نود أن نعقد مقارنة بسيطة: في العهد الديمقراطي كان سعر الرغيف اليومي لأسرة متوسطة الحال يبلغ حوالي ستة قروش، والتي لا تتعدى نسبة 0.005% من الدخل الشهري (1200 جنيهاً – قبل استبداله بالدينار"الممحوق")؛ أما اليوم فنفس هذه الأسرة تحتاج لمبلغ4000 جنيهاً لتغطية تكاليف الرغيف اليومي،أي بنسبة 0.33% من دخلها الشهري البالغ 1200000جنيهاً؛ أي أن سعر الرغيف تضاعف حوالي 70 مرة بالمقارنة مع الارتفاع في الدخل الشهري؛ بمعنى آخر، وحتى تتضح الصورة أكثر، نجد أن المرتب الشهري في العهد الديمقراطي يعادل سعر الرغيف لمدة 20000 يوم، في حين أنه لا يغطي أكثر من 300 يوم في عهد الوفرة الإنقاذية. فالكل يتذكر قبل الإنقاذ  أن من سبقك ليشتري رغيفاً بجنيه واحد فقط – لغرض التجارة بالطبع - ، فلن تكفيه كل "الخبزة"، نظراً لتدني سعره المدعوم من قبل الدولة الديمقراطية الميمونة؛ أما اليوم فلن يستطع كائناً من كان شراء كل "الخبزة" بسبب ارتفاع سعره الذي تعرض لسحب الدعم عنه بواسطة الدولة الإنقاذية المشؤومة. إذن وفرة رغيف الإنقاذ المزعومة هي نتاج ارتفاع سعره، مقرونة مع الفقر الذي رعته الإنقاذ منذ يومها الأول، ليصرع اليوم أكثر من 90% من الشعب السوداني، فصاروا من الجوعى (أكل وجبتين بدل ثلاث وجبات حسب التعريف العالمي للجوعان)؛ ما عدا، بالطبع، أهل المشروع الحضاري، الذين أثروا على حساب الشعب السوداني، فبدلوا مباني الطين بالفلل ذات الحدائق الغناء، والمسابح الخضراء.
     أما فيما يختص بالبنزين، فان الشعب السوداني لم يحس البتة إلى الآن: أن السودان أصبح من مصدري النفط، علي الرغم من مرور أكثر من عشرة أعوام على ذلك. من المؤكد أن سعر البنزين إبان الفترة الديمقراطية كان أقل من سعره الآن، وذلك لسبب بسيط جداً وهو أن حكومة الإنقاذ قد رفعت الدعم بالكامل حتى عن الإنتاج المحلي؛ إذ يبلغ سعر اللتر منه الآن حوالي 1.4 جنيهاً، في حين أن سعر اللتر بالخليج لا يتجاوز 0.306 قرشاً؛ أي أن سعر اللتر من البنزين في السودان يساوي حوالي خمسة أضعاف سعره بالخليج؛ فما تدفعه لشراء لتر واحد في الأول يشتري لك جالوناً في الثاني. المفارقة أنه حتى في الندرة المزعومة إبان الديمقراطية الثالثة، كان المواطن يشتري البنزين بالجالون لأنه يمتلك من المال ما يمكنه من شراء أكثر من جالون، مما يساعد على زيادة الطلب عليه؛ أما الآن وبرغم الوفرة المدّعاة فإن الفرد يشتري البنزين باللتر لأنه في أغلب الأحيان لا يمتلك أكثر من سعر لترات لا تتجاوز الجالون، أو الجالونين، الأمر الذي يقود إلى نقصان الطلب عليه، بسبب الفقر الذي أثقل كاهل الشعب كوليد شرعي لسياسات الإنقاذ الخرقاء.
     قبل أن أبرح هذه الجزئية، أود أن استعرض نوع الحياة التي كنا نعيشها نحن كأكاديميين في فترة الديمقراطية الثالثة، المفترى عليها؛ ومقارنتها بما نشهده وشهدناه منذ بواكير فجر الإنقاذ الكاذب، لندلل على كذبهم الصراح، والمستند على فقه التقية.
    كنت ضمن عدد كبير ممن ابتعثوا لنيل الدرجات العليا ببريطانيا، وأمريكا، وغيرها من دول العالم الأول، فعدت إلي السودان في أواخر عام 1986م، لتتولى جامعة الخرطوم مسؤولية استقراري بالبلاد، فخاطبت جهات داخلها، وخارجها، لتسهيل هذه المهمة؛ فأصدرت لي وزارة التجارة رخصة لاستيراد سيارة - كنت قد تمكنت أثناء البعثة، من شراء سيارة تويوتا كراون ديزل من بلجيكا – واستخرجت لي الجامعة تذاكر سفر بالطائرة إلي بورتسودان لتخليص أغراضي المنزلية، بعد أن صرفت لي بديلاً نقدياً محترماً لتأثيث سكن يليق بالأستاذ الجامعي، والذي جرت العادة أن يظل فيه طالما كان قادراً على العطاء. كما كان الأستاذ الجامعي يتمتع بتذاكر سفر سنوية بالطيران له ولأسرته، تمكنهم من قضاء عطلاتهم بالخارج، بعد أن يصرف لهم بدل السكرتارية المجزي، لإعانتهم على تحمل نفقات هذه العطلة. ليس ذلك فحسب، بل أن العلاقات الثقافية الخارجية الطيبة التي يتمتع بها السودان عامة، وجامعة الخرطوم على وجه الخصوص، تمكننا من قضاء إجازات التفرغ العلمي، واتفاقيات البحث العلمي الأخرى، بأرقي الجامعات العالمية، فتصير الفائدة ليست علمية فقط، وإنما اقتصادية على حد سواء. كما كان نادي الأساتذة مزدهراً بأهله من مختلف الكليات، وعامراً بأشهى المأكولات، والمشروبات ذات الأسعار الزهيدة جداً؛ فكانت الوجبة تتكون من صنفين من الطعام على الأقل، بالإضافة إلي المشروب البارد، والساخن. ولذا كنا لا نذهب إلي المنزل لتناول طعام الغداء، إذا كان هنالك بحث نتابعه، أو محاضرة نؤديها، في العصر، أو المساء.
    والآن عزيزي القارئ، أود منك أن تلاحظ التردي المريع الذي ألحقته الإنقاذ بمستوى معيشة أستاذ جامعة الخرطوم، الذي يفترض أن يكون رأس الرمح فيما أسميته أنا بثورة "التحطيم العالي" المزعومة. بدءاً أحالت خيرة الأساتذة إلي الصالح العام بقرار رئاسي من مرشح المؤتمر الوطني الحالي لرئاسة الجمهورية، وبدون إبداء لأي أسباب؛ غير الاختلاف في وجهة النظر السياسية، ولكنه بغرض إفساح المجال للتمكين؛ وأوقفت إرسال مساعدي التدريس إلي الخارج لنيل الدرجات العليا بالجامعات الغربية، بحجة تشرب الثقافة الغربية الكافرة، مما جعل وظيفة عضو التدريس بالجامعات غير جاذبة؛ وقصرت التأهيل، والتدريب علي الداخل، رغم مضاره البينة على التلاقح العلمي. فشطبت بجرة قلم كل الفوائد العلمية، والثقافية، والاقتصادية التي كان يجنيها مساعد التدريس من الابتعاث إلي الخارج؛ فلم تعد هناك فرصة لاستيراد سيارة من الخارج؛ كما تآكلت كل البدلات حتى صارت لا قيمة لها، بفعل التضخم الفاحش الذي ضرب البلاد. ليس ذلك فحسب، بل أوقفت، أو جمدت أنشئت، تذاكر الطيران السنوية حتي صار للأساتذة ديون على الدولة تقدر بالمليارات، تضن عليهم بها حكومة المرشح الرئاسي رغم حاجتهم الماسة لها. دخلت كذلك دولة "أمريكا روسيا قد دنا عذابها" في عداء سافر مع كل دول العالم – ما عدا بعض الدول المارقة علي الإجماع العالمي– فالطيور علي أشكالها تقع – ففقد السودان، وجامعة الخرطوم، علاقاتهم الثقافية الحسنة مع دول العالم المتحضر، الأمر الذي أثر سلباً على انسياب موارد مالية كانت داعمة لمستوى معيشة الأساتذة. حرمان الأساتذة من هذه المعينات، وتآكل البدلات التي كانوا يتقاضونها، مع تدني المرتبات، وتعدد واجهات الاستقطاعات غير المأذونة، مثل: الزكاة (هل تجب الزكاة على راتب شهري لا يمكث في جيب صاحبه أكثر من أسبوع،  يا علماء السلطان؟)، ودمغة الجريح، والنقابات؛ مصحوبة بارتفاع الأسعار؛ أفضت جميعها إلي إفراغ جيوبهم من أي قرش مدخر، فغادروا الطبقة الوسطي، وغدوا لا يملكون قوت يومهم بعد مرور الأسبوع الأول من بداية كل شهر. فلجأ بعض الأساتذة، من الذين يملكون سيارات خاصة إلي العمل بالنقل الطارئ، حتى يؤمنوا قوت أسرهم لبقية الشهر. كما هجر الأساتذة ناديهم العامر في السابق، والذي أصبحت فيه وجبات الفول، أو العدس المفردة، هي سيدة الموقف، كما دخلت "القراصة بالويكة" قائمة طعامه، بكل ما تحمل هذه الخطوة من دلائل. هذا الوضع دفع كثير من الأساتذة، وأنا منهم، إلي الهجرة بغية البحث عن حق الحياة، وليس بغرض تشييد الفلل الفاخرة، كما كان يطمح الذين هاجروا قبل الإنقاذ. واذكر أنني أجبرت، في سنين الإنقاذ الأولى، ضد رغبة إدارة جامعة الخرطوم، على الاغتراب بدولة واحدة – كغيري من الزملاء - شتائم المدعو يونس محمود الصباحية لم تترك للسودان "صليحاً"- تتميز بتوفر الغذاء الرخيص، ولكنها كانت تعاني من انعدام الأمن، فقد تتعرض لحادث نهب، وسلب في رابعة النهار يمكن أن يزهق روحك. بعد أن قضيت حوالي الشهرين بعملي الجديد، أبرقني البروفسير على محمد خير – متعه الله بالصحة والعافية – بأن السيد المدير، آنئذ، قد وافق على إعارتي بشرط حضوري إلي السودان لاستكمال الإجراءات بنفسي. أضمرت في نفسي بأن أنتهز هذه الفرصة بالذهاب للسودان، وألا أعود لعملي الجديد مطلقاً، ليس فقط بسبب انعدام الأمن، ولكن لأنني حتى ذلك التأريخ لم أستلم منهم قرشاً واحداً، ولم يكن من المنظور تحقيق ذلك إلا بعد انقضاء ما يقارب العام، حسب إفادة من سبقونا إلي ذلك البلد الميمون. بمجرد وصولي إلي المنزل، كنت قد تركت أسرتي خلفي بالسودان، أبلغت زوجتي بعزمي علي عدم الرجوع لذلك البلد، بعد أن أوردت لها أسبابي، السالفة، لذلك القرار. لم تتردد زوجتي لحظة حين قالت: الموت الفجائي مع الشبع خير من موت الجوع البطيء، فالحياة المعيشية بالسودان أصبحت لا تطاق مطلقاً. فتوكلنا علي الحي الذي لا يموت ففضلنا الخوف علي الجوع؛ اتساقاً مع قوله تعالي: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).هكذا ساق حكام الإنقاذ السواد الأعظم من الشعب السوداني إلي الفقر المدقع في العشر سنوات الأولي من حكمهم القهري؛ وهي فترة تعادل ما يقارب ثلاثة أضعاف حكم الإمام الصادق المهدي في فترة الديمقراطية الثالثة، ومع ذلك يوسمونه بالفشل، من غير أن يرمش لهم جفن، وفي تناغم تام مع المثل:"رمتني بدائها وانسلت". أما ما يردده الإنقلابيون، والأمنجية؛ بأن الإمام الصادق المهدي قد أخذ فرصتين ولم يفعل شيئاً، فهو حديث مردود؛ إذ كان ينبغي أن يترك ليكمل فترته، التي نعارضه حينها بكل آليات الديمقراطية المتاحة، ومن ثم يقول الشعب كلمته فيه عبر الانتخابات العامة، وليس من قبل الذين يدبجون الحجج للانقضاض على الديمقراطية.
     في سنوات الإنقاذ العجاف تلك، كان مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة يقطع أرزاق طوابير من السودانيين بإحالتهم للصالح العام، مبتغياً في ذلك ثواباً، وأجراً عظيماً، ومن ثم تترك أسرهم، من نساء، وأطفال، وعجزة، يتضورون جوعاً، وحسرة. فحينها كان الدكتور "نافع"، مدير جهاز الأمن، آنئذ، ومرشح حزب المؤتمر الوطني الحالي للدوائر الجغرافية بالمجلس الوطني، قد أعتقل أستاذه الدكتور فاروق محمد إبراهيم ليترك أسرته دون عائل، وليعذبه في بيوت الأشباح، بسبب أنه كان يدرس لطلابه نظرية التطور – التي أقرها مجلس الأساتذة بجامعة الخرطوم – ، وما في ذلك من دعوة للإلحاد، من وجهة نظره المتزمت. كما أرسل منسوبيه، في ساعات الصباح الأولي، إلي حيث يسكن الدكتور محمد رجب عبد الله - زميله بكلية الزراعة جامعة الخرطوم- ليأخذوه إلي بيوت الأشباح، وليتركوا زوجته وطفله الصغير بالشقة لوحدهما، ومن دون أن يبلغوا أحداً إلي أي مكان سيأخذونه؛ في صورة لا تمت  للأخلاق السودانية الموروثة بصلة. أما البروفسير التيجاني حسن الأمين، مدير جامعة الجزيرة آنئذ، وبعد أن غفر الله له "ما تقدم" من ذنبه، فقد ابتغي الثواب العظيم عند الله تعالى عبر طلبه إلي المجلس البريطاني إنهاء كفالته المالية للأستاذ مصطفي آدم أحمد، حتى لا يتمكن من إكمال دراسته؛ والذي كان قد أحيل بقرار رئاسي سابق للصالح العام، وهو مازال يحضر لدرجة الدكتوراة ببريطانيا، على نفقة المجلس البريطاني، وليس على حكومة السودان. كل هذا الثواب لم يرض طموح العصبة المنقذة، بل تاقوا للمزيد بإرهاب مؤسسات التعليم الأهلية حتى لا تطلب  خدمات الأستاذ مصطفى. فلا يهم عندهم إن تضورت طفلة الأستاذ مصطفي الصغيرة جوعاً، طالما أنهم يبتغون وجه الله في كل حركاتهم، وسكناتهم.
    هذا غيض من فيض ما فعله حكام الإنقاذ بالشعب السوداني؛ قصدنا فيه تسليط بعض الضوء على أمثلة محددة للعنت، والتضييق في الرزق، الذي أذاقه أصحاب المشروع الحضاري لأساتذة الجامعات؛ وهي أمثلة لا تمثل، بالضرورة، أبشع ما تعرضوا له من ظلم، وتعذيب. فإذا كان هذا حال الفئة التي كانت تجلس على قمة الطبقة الوسطي، فما بالك بما لحق بالسواد الأعظم من الشعب السوداني من ضائقة معيشية خانقة، وبطالة مستشرية، وتضخم فاحش، لترتفع معدلات الفقر، ويعم الجوع؛ فيتمظر كل ذلك في شكل انعدام واضح للأمن، وجرائم لم يألفها الشعب السوداني، مثل: ظاهرة الأطفال مجهولي الأبويين، واغتصاب الأطفال وقتلهم، وجرائم السرقات المنظمة، والشيكات الطائرة بسبب الإعسار، الذي لم يطال أهل الحظوة، والسلطان، بسبب استفرادهم بقروض بنك أم درمان الوطني الحسنة، والمحسنة عند الطلب. 
      أفصح مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة كذلك بالعمل علي رفع مستوى المعيشة، ومكافحة الفقر عبر ديوان الزكاة، ومؤسسات التكافل، التي تعتبر، بلا استثناء، واجهات حزبية تهدف لخدمة أهل المشروع الحضاري وأسرهم؛ وفي هذا يحضرني أحد الأمثلة الصارخة؛ بأن أبرز لنا أحد الطلاب الجدد المقبولين بكلية العلوم على النفقة الخاصة، في إحدى السنوات، صكاً مالياً مسحوباً علي حساب ديوان الزكاة، ليسدد به مصروفاته الدراسية. وللعلم فإن المقصد الأول للدراسة على النفقة الخاصة هو: التمويل الجزئي للجامعات  من الطلاب الموسرين، بأن يدفعوا مصاريف دراسية عالية في مقابل قبولهم بالجامعات بنسب تنافسية أقل من زملائهم بالقبول العام. فهل تسديد مصاريف الدراسة على النفقة الخاصة يندرج تحت مصارف الزكاة المحددة شرعاً؟ إن كانت الإجابة بلا، فأترك لك (أعانك الله) استقراء الأسباب التي جعلت ديوان الزكاة يرق قلبه إلي الحد الذي يدفعه لتجاوز حدود الله في مصارف الزكاة، فيقوم بتسديد المصاريف الدراسية لهذا الطالب؛ في حين أنه يستنكف عن تمويل تكاليف العلاج  لمرضي، هم في أشد الحاجة لعونه.
     مما سبق يتضح أن الإنقاذ قد أفقرت السواد الأعظم من الشعب السوداني؛ في حين أنها أغدقت المال على من كان لا يملك من خشاش ألأرض شيئاً، من منسوبيها؛ فأسسوا الشركات المتنوعة، والمشاريع الزراعية، والمصانع من عرق الشعب السوداني الصابر. ولكي لا نطلق الكلام على عواهنه هنا، فمثلاً نجد: أن عشيرة مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة تمتلك، أو تساهم في أكثر من عشرين شركة؛ وأن وزير الزراعة دكتور المتعافي يحوز على أكثر من ستة عشر شركة؛ ولجمال الوالي حوالي العشر شركات؛ كما أن لوداد يعقوب إبراهيم أكثر من سبعة شركات؛ وغيرهم الكثير ممن لهم مساهمات مؤثرة في شركات هجين (حكومية/خاصة). فكل هذه الشركات والمصانع قد حالفها "النجاح" نظراً لترك الحبل على الغارب لها فيما يختص بتحديد الأسعار، التي ارتفعت بشكل جنوني مما جعل السودان من أغلي البلدان معيشة في العالم؛ كما أن كل مشتريات، وعطاءات الدولة توجه لها بحكم أنها مملوكة لهذه العصبة المنقذة، فجمعوا المال، وعددوه.
     في ختام هذا المقال، وبعد كل الذي أوردناه؛ هل تعتقد، عزيزي القارئ، أن مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة يقول الصدق عندما يتحدث عن وعوده برفع مستوى المعيشة، ومحاربة الفقر؟ أترك الإجابة لفطنتك، ولكني أقول وبالصوت العالي: لن يطالكم منه إلا الفقر والمسغبة.
                  

03-03-2010, 02:48 PM

مريم عزالدين صديق
<aمريم عزالدين صديق
تاريخ التسجيل: 11-26-2004
مجموع المشاركات: 955

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: لن يطالكم منه إلا الفقر والمسغبة ـ د.عثمان إبراهيم عثمان (Re: زهرة حيدر ادريس)

    Quote:
    دشن حزب المؤتمر الوطني حملته الانتخابية لرئاسة الجمهورية، وولاية الخرطوم من إستاد الهلال بأم درمان مساء السبت 13/2/2010م، فخاطبه المواطن عمر حسن البشير، مرشح الحزب للرئاسة، مرتجلاً برنامجه الانتخابي، أو بالأحرى مفصحاً عن مواصلة برنامج الإنقاذ، الذي بدأ منذ أكثر من عشرين عاماً، والذي سوف نعرض لتحليله في عدة مقالات – لنرى أن كان يقول الصدق أم لا - تحت عنوان: (لن يطالكم منه إلا....)، فنسلسلها بإكمال النقاط بكلمات وصفية لكل عنوان مقال؛ إذ سيتناول المقال الأول الفقر والمسغبة التي لاقاهما الشعب السوداني منذ قيام انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989م وحتى الآن؛ ومع ذلك يود مرشح المؤتمر الوطني أن يوردنا إياهما لخمس سنوات حسومة، قادمة.
    تحدث مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة عن صفوف الرغيف، والبنزين في العهد الديمقراطي، وانعدامها تماماً بعد قيام الإنقاذ. ففي هذا الصدد نود أن نعقد مقارنة بسيطة: في العهد الديمقراطي كان سعر الرغيف اليومي لأسرة متوسطة الحال يبلغ حوالي ستة قروش، والتي لا تتعدى نسبة 0.005% من الدخل الشهري (1200 جنيهاً – قبل استبداله بالدينار"الممحوق")؛ أما اليوم فنفس هذه الأسرة تحتاج لمبلغ4000 جنيهاً لتغطية تكاليف الرغيف اليومي،أي بنسبة 0.33% من دخلها الشهري البالغ 1200000جنيهاً؛ أي أن سعر الرغيف تضاعف حوالي 70 مرة بالمقارنة مع الارتفاع في الدخل الشهري؛ بمعنى آخر، وحتى تتضح الصورة أكثر، نجد أن المرتب الشهري في العهد الديمقراطي يعادل سعر الرغيف لمدة 20000 يوم، في حين أنه لا يغطي أكثر من 300 يوم في عهد الوفرة الإنقاذية. فالكل يتذكر قبل الإنقاذ أن من سبقك ليشتري رغيفاً بجنيه واحد فقط – لغرض التجارة بالطبع - ، فلن تكفيه كل "الخبزة"، نظراً لتدني سعره المدعوم من قبل الدولة الديمقراطية الميمونة؛ أما اليوم فلن يستطع كائناً من كان شراء كل "الخبزة" بسبب ارتفاع سعره الذي تعرض لسحب الدعم عنه بواسطة الدولة الإنقاذية المشؤومة. إذن وفرة رغيف الإنقاذ المزعومة هي نتاج ارتفاع سعره، مقرونة مع الفقر الذي رعته الإنقاذ منذ يومها الأول، ليصرع اليوم أكثر من 90% من الشعب السوداني، فصاروا من الجوعى (أكل وجبتين بدل ثلاث وجبات حسب التعريف العالمي للجوعان)؛ ما عدا، بالطبع، أهل المشروع الحضاري، الذين أثروا على حساب الشعب السوداني، فبدلوا مباني الطين بالفلل ذات الحدائق الغناء، والمسابح الخضراء.
    أما فيما يختص بالبنزين، فان الشعب السوداني لم يحس البتة إلى الآن: أن السودان أصبح من مصدري النفط، علي الرغم من مرور أكثر من عشرة أعوام على ذلك. من المؤكد أن سعر البنزين إبان الفترة الديمقراطية كان أقل من سعره الآن، وذلك لسبب بسيط جداً وهو أن حكومة الإنقاذ قد رفعت الدعم بالكامل حتى عن الإنتاج المحلي؛ إذ يبلغ سعر اللتر منه الآن حوالي 1.4 جنيهاً، في حين أن سعر اللتر بالخليج لا يتجاوز 0.306 قرشاً؛ أي أن سعر اللتر من البنزين في السودان يساوي حوالي خمسة أضعاف سعره بالخليج؛ فما تدفعه لشراء لتر واحد في الأول يشتري لك جالوناً في الثاني. المفارقة أنه حتى في الندرة المزعومة إبان الديمقراطية الثالثة، كان المواطن يشتري البنزين بالجالون لأنه يمتلك من المال ما يمكنه من شراء أكثر من جالون، مما يساعد على زيادة الطلب عليه؛ أما الآن وبرغم الوفرة المدّعاة فإن الفرد يشتري البنزين باللتر لأنه في أغلب الأحيان لا يمتلك أكثر من سعر لترات لا تتجاوز الجالون، أو الجالونين، الأمر الذي يقود إلى نقصان الطلب عليه، بسبب الفقر الذي أثقل كاهل الشعب كوليد شرعي لسياسات الإنقاذ الخرقاء.
    قبل أن أبرح هذه الجزئية، أود أن استعرض نوع الحياة التي كنا نعيشها نحن كأكاديميين في فترة الديمقراطية الثالثة، المفترى عليها؛ ومقارنتها بما نشهده وشهدناه منذ بواكير فجر الإنقاذ الكاذب، لندلل على كذبهم الصراح، والمستند على فقه التقية.
    كنت ضمن عدد كبير ممن ابتعثوا لنيل الدرجات العليا ببريطانيا، وأمريكا، وغيرها من دول العالم الأول، فعدت إلي السودان في أواخر عام 1986م، لتتولى جامعة الخرطوم مسؤولية استقراري بالبلاد، فخاطبت جهات داخلها، وخارجها، لتسهيل هذه المهمة؛ فأصدرت لي وزارة التجارة رخصة لاستيراد سيارة - كنت قد تمكنت أثناء البعثة، من شراء سيارة تويوتا كراون ديزل من بلجيكا – واستخرجت لي الجامعة تذاكر سفر بالطائرة إلي بورتسودان لتخليص أغراضي المنزلية، بعد أن صرفت لي بديلاً نقدياً محترماً لتأثيث سكن يليق بالأستاذ الجامعي، والذي جرت العادة أن يظل فيه طالما كان قادراً على العطاء. كما كان الأستاذ الجامعي يتمتع بتذاكر سفر سنوية بالطيران له ولأسرته، تمكنهم من قضاء عطلاتهم بالخارج، بعد أن يصرف لهم بدل السكرتارية المجزي، لإعانتهم على تحمل نفقات هذه العطلة. ليس ذلك فحسب، بل أن العلاقات الثقافية الخارجية الطيبة التي يتمتع بها السودان عامة، وجامعة الخرطوم على وجه الخصوص، تمكننا من قضاء إجازات التفرغ العلمي، واتفاقيات البحث العلمي الأخرى، بأرقي الجامعات العالمية، فتصير الفائدة ليست علمية فقط، وإنما اقتصادية على حد سواء. كما كان نادي الأساتذة مزدهراً بأهله من مختلف الكليات، وعامراً بأشهى المأكولات، والمشروبات ذات الأسعار الزهيدة جداً؛ فكانت الوجبة تتكون من صنفين من الطعام على الأقل، بالإضافة إلي المشروب البارد، والساخن. ولذا كنا لا نذهب إلي المنزل لتناول طعام الغداء، إذا كان هنالك بحث نتابعه، أو محاضرة نؤديها، في العصر، أو المساء.
    والآن عزيزي القارئ، أود منك أن تلاحظ التردي المريع الذي ألحقته الإنقاذ بمستوى معيشة أستاذ جامعة الخرطوم، الذي يفترض أن يكون رأس الرمح فيما أسميته أنا بثورة "التحطيم العالي" المزعومة. بدءاً أحالت خيرة الأساتذة إلي الصالح العام بقرار رئاسي من مرشح المؤتمر الوطني الحالي لرئاسة الجمهورية، وبدون إبداء لأي أسباب؛ غير الاختلاف في وجهة النظر السياسية، ولكنه بغرض إفساح المجال للتمكين؛ وأوقفت إرسال مساعدي التدريس إلي الخارج لنيل الدرجات العليا بالجامعات الغربية، بحجة تشرب الثقافة الغربية الكافرة، مما جعل وظيفة عضو التدريس بالجامعات غير جاذبة؛ وقصرت التأهيل، والتدريب علي الداخل، رغم مضاره البينة على التلاقح العلمي. فشطبت بجرة قلم كل الفوائد العلمية، والثقافية، والاقتصادية التي كان يجنيها مساعد التدريس من الابتعاث إلي الخارج؛ فلم تعد هناك فرصة لاستيراد سيارة من الخارج؛ كما تآكلت كل البدلات حتى صارت لا قيمة لها، بفعل التضخم الفاحش الذي ضرب البلاد. ليس ذلك فحسب، بل أوقفت، أو جمدت أنشئت، تذاكر الطيران السنوية حتي صار للأساتذة ديون على الدولة تقدر بالمليارات، تضن عليهم بها حكومة المرشح الرئاسي رغم حاجتهم الماسة لها. دخلت كذلك دولة "أمريكا روسيا قد دنا عذابها" في عداء سافر مع كل دول العالم – ما عدا بعض الدول المارقة علي الإجماع العالمي– فالطيور علي أشكالها تقع – ففقد السودان، وجامعة الخرطوم، علاقاتهم الثقافية الحسنة مع دول العالم المتحضر، الأمر الذي أثر سلباً على انسياب موارد مالية كانت داعمة لمستوى معيشة الأساتذة. حرمان الأساتذة من هذه المعينات، وتآكل البدلات التي كانوا يتقاضونها، مع تدني المرتبات، وتعدد واجهات الاستقطاعات غير المأذونة، مثل: الزكاة (هل تجب الزكاة على راتب شهري لا يمكث في جيب صاحبه أكثر من أسبوع، يا علماء السلطان؟)، ودمغة الجريح، والنقابات؛ مصحوبة بارتفاع الأسعار؛ أفضت جميعها إلي إفراغ جيوبهم من أي قرش مدخر، فغادروا الطبقة الوسطي، وغدوا لا يملكون قوت يومهم بعد مرور الأسبوع الأول من بداية كل شهر. فلجأ بعض الأساتذة، من الذين يملكون سيارات خاصة إلي العمل بالنقل الطارئ، حتى يؤمنوا قوت أسرهم لبقية الشهر. كما هجر الأساتذة ناديهم العامر في السابق، والذي أصبحت فيه وجبات الفول، أو العدس المفردة، هي سيدة الموقف، كما دخلت "القراصة بالويكة" قائمة طعامه، بكل ما تحمل هذه الخطوة من دلائل. هذا الوضع دفع كثير من الأساتذة، وأنا منهم، إلي الهجرة بغية البحث عن حق الحياة، وليس بغرض تشييد الفلل الفاخرة، كما كان يطمح الذين هاجروا قبل الإنقاذ. واذكر أنني أجبرت، في سنين الإنقاذ الأولى، ضد رغبة إدارة جامعة الخرطوم، على الاغتراب بدولة واحدة – كغيري من الزملاء - شتائم المدعو يونس محمود الصباحية لم تترك للسودان "صليحاً"- تتميز بتوفر الغذاء الرخيص، ولكنها كانت تعاني من انعدام الأمن، فقد تتعرض لحادث نهب، وسلب في رابعة النهار يمكن أن يزهق روحك. بعد أن قضيت حوالي الشهرين بعملي الجديد، أبرقني البروفسير على محمد خير – متعه الله بالصحة والعافية – بأن السيد المدير، آنئذ، قد وافق على إعارتي بشرط حضوري إلي السودان لاستكمال الإجراءات بنفسي. أضمرت في نفسي بأن أنتهز هذه الفرصة بالذهاب للسودان، وألا أعود لعملي الجديد مطلقاً، ليس فقط بسبب انعدام الأمن، ولكن لأنني حتى ذلك التأريخ لم أستلم منهم قرشاً واحداً، ولم يكن من المنظور تحقيق ذلك إلا بعد انقضاء ما يقارب العام، حسب إفادة من سبقونا إلي ذلك البلد الميمون. بمجرد وصولي إلي المنزل، كنت قد تركت أسرتي خلفي بالسودان، أبلغت زوجتي بعزمي علي عدم الرجوع لذلك البلد، بعد أن أوردت لها أسبابي، السالفة، لذلك القرار. لم تتردد زوجتي لحظة حين قالت: الموت الفجائي مع الشبع خير من موت الجوع البطيء، فالحياة المعيشية بالسودان أصبحت لا تطاق مطلقاً. فتوكلنا علي الحي الذي لا يموت ففضلنا الخوف علي الجوع؛ اتساقاً مع قوله تعالي: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).هكذا ساق حكام الإنقاذ السواد الأعظم من الشعب السوداني إلي الفقر المدقع في العشر سنوات الأولي من حكمهم القهري؛ وهي فترة تعادل ما يقارب ثلاثة أضعاف حكم الإمام الصادق المهدي في فترة الديمقراطية الثالثة، ومع ذلك يوسمونه بالفشل، من غير أن يرمش لهم جفن، وفي تناغم تام مع المثل:"رمتني بدائها وانسلت". أما ما يردده الإنقلابيون، والأمنجية؛ بأن الإمام الصادق المهدي قد أخذ فرصتين ولم يفعل شيئاً، فهو حديث مردود؛ إذ كان ينبغي أن يترك ليكمل فترته، التي نعارضه حينها بكل آليات الديمقراطية المتاحة، ومن ثم يقول الشعب كلمته فيه عبر الانتخابات العامة، وليس من قبل الذين يدبجون الحجج للانقضاض على الديمقراطية.
    في سنوات الإنقاذ العجاف تلك، كان مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة يقطع أرزاق طوابير من السودانيين بإحالتهم للصالح العام، مبتغياً في ذلك ثواباً، وأجراً عظيماً، ومن ثم تترك أسرهم، من نساء، وأطفال، وعجزة، يتضورون جوعاً، وحسرة. فحينها كان الدكتور "نافع"، مدير جهاز الأمن، آنئذ، ومرشح حزب المؤتمر الوطني الحالي للدوائر الجغرافية بالمجلس الوطني، قد أعتقل أستاذه الدكتور فاروق محمد إبراهيم ليترك أسرته دون عائل، وليعذبه في بيوت الأشباح، بسبب أنه كان يدرس لطلابه نظرية التطور – التي أقرها مجلس الأساتذة بجامعة الخرطوم – ، وما في ذلك من دعوة للإلحاد، من وجهة نظره المتزمت. كما أرسل منسوبيه، في ساعات الصباح الأولي، إلي حيث يسكن الدكتور محمد رجب عبد الله - زميله بكلية الزراعة جامعة الخرطوم- ليأخذوه إلي بيوت الأشباح، وليتركوا زوجته وطفله الصغير بالشقة لوحدهما، ومن دون أن يبلغوا أحداً إلي أي مكان سيأخذونه؛ في صورة لا تمت للأخلاق السودانية الموروثة بصلة. أما البروفسير التيجاني حسن الأمين، مدير جامعة الجزيرة آنئذ، وبعد أن غفر الله له "ما تقدم" من ذنبه، فقد ابتغي الثواب العظيم عند الله تعالى عبر طلبه إلي المجلس البريطاني إنهاء كفالته المالية للأستاذ مصطفي آدم أحمد، حتى لا يتمكن من إكمال دراسته؛ والذي كان قد أحيل بقرار رئاسي سابق للصالح العام، وهو مازال يحضر لدرجة الدكتوراة ببريطانيا، على نفقة المجلس البريطاني، وليس على حكومة السودان. كل هذا الثواب لم يرض طموح العصبة المنقذة، بل تاقوا للمزيد بإرهاب مؤسسات التعليم الأهلية حتى لا تطلب خدمات الأستاذ مصطفى. فلا يهم عندهم إن تضورت طفلة الأستاذ مصطفي الصغيرة جوعاً، طالما أنهم يبتغون وجه الله في كل حركاتهم، وسكناتهم.
    هذا غيض من فيض ما فعله حكام الإنقاذ بالشعب السوداني؛ قصدنا فيه تسليط بعض الضوء على أمثلة محددة للعنت، والتضييق في الرزق، الذي أذاقه أصحاب المشروع الحضاري لأساتذة الجامعات؛ وهي أمثلة لا تمثل، بالضرورة، أبشع ما تعرضوا له من ظلم، وتعذيب. فإذا كان هذا حال الفئة التي كانت تجلس على قمة الطبقة الوسطي، فما بالك بما لحق بالسواد الأعظم من الشعب السوداني من ضائقة معيشية خانقة، وبطالة مستشرية، وتضخم فاحش، لترتفع معدلات الفقر، ويعم الجوع؛ فيتمظر كل ذلك في شكل انعدام واضح للأمن، وجرائم لم يألفها الشعب السوداني، مثل: ظاهرة الأطفال مجهولي الأبويين، واغتصاب الأطفال وقتلهم، وجرائم السرقات المنظمة، والشيكات الطائرة بسبب الإعسار، الذي لم يطال أهل الحظوة، والسلطان، بسبب استفرادهم بقروض بنك أم درمان الوطني الحسنة، والمحسنة عند الطلب.
    أفصح مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة كذلك بالعمل علي رفع مستوى المعيشة، ومكافحة الفقر عبر ديوان الزكاة، ومؤسسات التكافل، التي تعتبر، بلا استثناء، واجهات حزبية تهدف لخدمة أهل المشروع الحضاري وأسرهم؛ وفي هذا يحضرني أحد الأمثلة الصارخة؛ بأن أبرز لنا أحد الطلاب الجدد المقبولين بكلية العلوم على النفقة الخاصة، في إحدى السنوات، صكاً مالياً مسحوباً علي حساب ديوان الزكاة، ليسدد به مصروفاته الدراسية. وللعلم فإن المقصد الأول للدراسة على النفقة الخاصة هو: التمويل الجزئي للجامعات من الطلاب الموسرين، بأن يدفعوا مصاريف دراسية عالية في مقابل قبولهم بالجامعات بنسب تنافسية أقل من زملائهم بالقبول العام. فهل تسديد مصاريف الدراسة على النفقة الخاصة يندرج تحت مصارف الزكاة المحددة شرعاً؟ إن كانت الإجابة بلا، فأترك لك (أعانك الله) استقراء الأسباب التي جعلت ديوان الزكاة يرق قلبه إلي الحد الذي يدفعه لتجاوز حدود الله في مصارف الزكاة، فيقوم بتسديد المصاريف الدراسية لهذا الطالب؛ في حين أنه يستنكف عن تمويل تكاليف العلاج لمرضي، هم في أشد الحاجة لعونه.
    مما سبق يتضح أن الإنقاذ قد أفقرت السواد الأعظم من الشعب السوداني؛ في حين أنها أغدقت المال على من كان لا يملك من خشاش ألأرض شيئاً، من منسوبيها؛ فأسسوا الشركات المتنوعة، والمشاريع الزراعية، والمصانع من عرق الشعب السوداني الصابر. ولكي لا نطلق الكلام على عواهنه هنا، فمثلاً نجد: أن عشيرة مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة تمتلك، أو تساهم في أكثر من عشرين شركة؛ وأن وزير الزراعة دكتور المتعافي يحوز على أكثر من ستة عشر شركة؛ ولجمال الوالي حوالي العشر شركات؛ كما أن لوداد يعقوب إبراهيم أكثر من سبعة شركات؛ وغيرهم الكثير ممن لهم مساهمات مؤثرة في شركات هجين (حكومية/خاصة). فكل هذه الشركات والمصانع قد حالفها "النجاح" نظراً لترك الحبل على الغارب لها فيما يختص بتحديد الأسعار، التي ارتفعت بشكل جنوني مما جعل السودان من أغلي البلدان معيشة في العالم؛ كما أن كل مشتريات، وعطاءات الدولة توجه لها بحكم أنها مملوكة لهذه العصبة المنقذة، فجمعوا المال، وعددوه.
    في ختام هذا المقال، وبعد كل الذي أوردناه؛ هل تعتقد، عزيزي القارئ، أن مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة يقول الصدق عندما يتحدث عن وعوده برفع مستوى المعيشة، ومحاربة الفقر؟ أترك الإجابة لفطنتك، ولكني أقول وبالصوت العالي: لن يطالكم منه إلا الفقر والمسغبة.
                  

03-07-2010, 09:37 AM

زهرة حيدر ادريس
<aزهرة حيدر ادريس
تاريخ التسجيل: 11-26-2004
مجموع المشاركات: 1139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
لن يطالكم منه إلا التجهيل والبطالة ـ د. عثمان إبراهيم عثمان (Re: مريم عزالدين صديق)

    سيتناول المقال الثاني من هذه السلسلة التجهيل والبطالة التي لاقاهما الشعب السوداني منذ قيام انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989م وحتى الآن؛ ومع ذلك امتدح المواطن عمر حسن أحمد البشير مرشح حزب المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية ثورة التعليم العالي كإحدى الانجازات العظيمة للانقاذ، فأوضح أن عدد الجامعات قبل الإنقاذ لم يتعد الخمس جامعات: ثلاث بالخرطوم، وواحدة بالجزيرة، في حين أن جامعة جوبا كانت نازحة بالخرطوم. أما الآن فقد غطت الجامعات كل ولايات السودان الخمسة والعشرين، وأن العدد الكلي لمؤسسات التعليم العالي الحكومية، والخاصة، قد بلغ حوالي المائة والعشرين جامعة، وكلية؛ مما يدل على أن برنامج الحزب للانتخابات العامة في مجال التعليم، سوف يستند على هذه الانجازات غير المسبوقة، أو كما قال.

    قبل أن نرد على الدعاية الإنتخابية التي تفضل بها مرشح حزب المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية؛ ولكى "نعمل فرشة" لردودنا تلك، نستميح القارئ عذراً بالسماح لنا باستعراض أوضاع الجامعات الخمس قبل الإنقاذ من حيث تنميتها، وتطورها، المادي، والبشري، ورعايتها للطلاب. سوف أتطرق لأوضاع جامعة الخرطوم فقط، كمثال، بحكم أنني كنت لصيقاً بها لفترة تقارب الثلاثين عاماً؛ وأحسب أن الأمر كذلك ينسحب على بقية الجامعات، والمعاهد، الحكومية.

    في البدء لابد أن أشير أن الدولة السودانية، سواء في عهودها الديمقراطية أو الشمولية (حكومتا نوفمبر ومايو)، قبل إنقلاب الإنقاذ المشؤوم، كانت تلتزم إلتزاماً صارماً ببنود ميزانيتها السنوية، وأن الصرف من بند على آخر يعتبر فساداً يعاقب عليه القانون. ففي جامعة الخرطوم، وحتى قيام الإنقاذ، كانت الأقسام العلمية المختلفة تضع احتياجاتها السنوية، والتنموية، والتطويرية، من أساتذة، ومساعدي تدريس، وكتب، وأجهزة، ومعدات، وكيماويات، وحتى النثريات اليومية، وغيرها، وترفع لوزارة المالية عبر إدارة الجامعة العليا، وعمادة الكلية، لتضمن الميزانية العامة للدولة، بفصولها: الأول المعني بالمرتبات، والأجور، والثاني(أ) المتعلق بالتسيير، مثل: توفير مستلزمات العملية التعليمية والثاني(ب) لجلب السلع الرأسمالية، من أجهزة، ومعدات، وعربات، وغيرها ، والثالث الذي يهتم بالتنمية في شكل مشروعات عمرانية، وتطويرية. وعندما يبدأ العام المالي، يتم الصرف منها حسب البنود الواردة فيها. يتم ذلك بمراقبة لصيقة من قبل المراقب المالي للجامعة. وأذكر أنه في أوائل ديسمبر 1988م – آخر ميزانية قبل قيام الإنقاذ -، طلب وكيل الجامعة، وسكرتير شؤون الأفراد من رؤساء الأقسام الحضور للإدارة كي يلتمسوا احتياجات إضافية، حسب بنود الميزانية، بغرض صرف ما تبقى من أموال تخص تلك البنود. بغير ذلك سوف تسترجع تلك الأموال، التي لم تصرف، لوزارة المالية، وفي الغالب تخصم من ميزانية العام المقبل، بحسبان أن ميزانية ذلك العام كانت متضخمة. تقوم عمادة شؤون الطلاب كذلك برفع كل المستلزمات السنوية الخاصة بسكن، وإعاشة جميع طلاب الجامعة بغير استثناء، بالإضافة إلي مستلزمات كل الأنشطة اللاصفية، وبما في ذلك، بالطبع، ميزانيات الاتحاد، والروابط الأكاديمية. أما أمين المكتبة بالجامعة فيرفع كذلك احتياجاتها – حسب منظور الأقسام العلمية – من كتب مرجعية، ودراسية، ومعاجم، ودوريات علمية عالمية محكمة.

    أما فيما يختص بتأهيل، وتدريب أعضاء هيئة التدريس، فتعين الجامعة أميز خريجيها كمساعدي تدريس – لن يثبتوا كأعضاء هيئة تدريس إلا بعد حصولهم على درجة الدكتوراة، وليس الماجستير-، فتبتعثهم، دون تأخير، إلى أرقى الجامعات العالمية المرموقة لنيل الدرجات العليا من ماجستير، وزمالة، ودكتوراة، في مختلف التخصصات العلمية، والأدبية، والعلوم الإنسانية والطبية، والهندسية، والزراعية. اللافت أن معظم هؤلاء المبعوثين كانوا على نفقة حكومة السودان، مع قلة منهم يحصلون على تكاليف دراستهم، ومعاشهم عبر اتفاقيات ثنائية مع مؤسسات عالمية. عند عودتهم، وبعد حصولهم على درجة الدكتوراة، تعقد لهم لجنة تعيينات برئاسة مدير الجامعة تفحص جميع شهاداتهم – بكالوريوس، ماجستير، دكتوراة، بالإضافة إلى تقرير المشرف على رسالة الدكتوراة، وتقارير رئيس القسم، وعميد الكلية المعنيين، وعميد كلية الدراسات العليا؛ بغرض مضاهاتها مع لائحة الجامعة الصارمة لتعيين أعضاء هيئة التدريس؛ مما يضمن انضمام أميز الحاصلين على درجة الدكتوراة لهيئة التدريس. ولي تجربة شخصية مع هذه اللجنة لا بد من إيرادها لتوضيح الصورة: بعد حصولي على درجة الدكتوراة، وعودتي إلى السودان تقدمت بتفاصيل شهاداتي لتلك اللجنة، فرفضت تعييني بوظيفة عضو هيئة التدريس المخصصة لقسم الكيمياء، ولم يشفع لي أنني كنت مبعوثاً من قبل الجامعة، على نفقة الدولة للتحضير في ذلك التخصص، الذي حدده القسم، فأوصت بإعلانها في الصحف اليومية، فقد يأتي شخص آخر يحمل نفس التخصص الدقيق الذي طلبه القسم، وبشهادة بكالوريوس (Basic Degree) خالية من أي رسوب، بحجة أن تفاصيل شهادة البكالوريوس خاصتي تضم رسوباً في مادة برمجة الحاسوب المساعدة(Ancillary) لمادة الكيمياء. حدث ذلك رغم علمهم بعدم وجود شخص بهذا التخصص الدقيق، وأن مادة برمجة الحاسوب هي مادة إضافية، وملحقة بدراسة الكيمياء، ولذا لم تقف حجر عثرة في حصولي على درجة البكالوريوس بمرتبة الشرف الأولى، ولم تكن عقبة في تعييني مساعداً للتدريس، لأبتعث إلى بريطانيا لنيل الدرجات العليا على نفقة حكومة السودان. يعكس هذا التمرين حرص إدارة الجامعة على تميز أساتذتها، والذي يتمظهر في مستوى درجة البكالوريوس (الدرجة الأساسية)، أو عنق الزجاجة، وليس بأي درجات عليا من ماجستير أو دكتوراة، التي لا تعكس أي نبوغ أو عبقرية كما يتخيل البعض.
    إن إيفاء جامعة الخرطوم في الماضي، مثلها مثل بقية الجامعات، والمعاهد العليا الحكومية، بكل متطلبات العملية التعليمية، في أشكالها المختلفة، ومكوناتها البشرية، والمادية، هو ما قاد لتميز، وبروز خريجيها أكاديمياً، وسياسياً، وهو أمر متوقع كنتيجة طبيعية لهذا التعليم النوعي المجود؛ ساعدهم في ذلك، بالطبع، إجادتهم للغة الإنجليزية، التي كانت لغة التدريس بمؤسسات التعليم العالي. ولذا فلا غرابة في: أن تتخطفهم المؤسسات الحكومية، والخاصة، حتى قبل أن يكمل بعضهم متطلبات تخرجهم بصفة رسمية؛ كما كانت وفود الدول العربية تزور السودان في أزمنة التخرج هذه للتعاقد مع الخريجين الجدد كل عام. فتعيين هؤلاء الخريجين المتميزين لم يكن حكراً على المؤسسات الوطنية أو العربية، ولكن كان هناك نصيب للشركات العالمية؛ فأذكر أن شركة شيفرون الأمريكية كان تعين كل عام عدد من خريجي قسم الجيولوجيا، ليس كي يعملوا في مشاريع استكشاف البترول بالسودان، ولكن أيضاً بمناطق العالم المختلفة التي تعمل بها، ولذا لم تستغن عنهم عندما انسحبت من السودان كنتيجة لحرب الجنوب، وإنما وزعتهم على مناطق عملها في أفريقيا، وآسيا وأوروبا؛ ليس ذلك فحسب بل إنها أهلتهم لنيل الدرجات العليا على نفقتها. مثال آخر: الدكتور محمد جمال الذي أبتعث من قبل قسم الجيولوجيا لنيل درجة الدكتوراة بالولايات المتحدة، بعيد قيام الإنقاذ، والآن يعمل بوكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، بعد أن أقنع الأمريكان بعلو كعبه العلمي، والبحثي. وهنالك أيضاً خريجون كثر من كلية العلوم وكليات الجامعة المختلفة يحتلون مواقع مرموقة في المؤسسات العالمية العلمية، والبحثية، والمهنية.

    لقد استطال سردنا لحال مؤسساتنا التعليمة العالية، وكذلك المستويات الراقية لخريجيها، قبل انقلاب الإنقاذ المشؤوم. والآن أسمح لي عزيزي القارئ، باستعراض ما فعله مرشح المؤتمر الوطني لرئاسة الجمهورية، وعصبته المنقذة، من تخريب لمؤسساتنا التعليمية الراسخة، وما نتج عن ذلك من مخرجات بائرة على المستوى المحلى، والإقليمي، والدولي، ليس ذلك فحسب بل يريدون استكماله في الخمس سنوات القادمة.

    استهلت الإنقاذ ثورة "التحطيم العالي" عام 1989/1990م، بمضاعفة القبول بالجامعات الخمس القديمة، دون أن توفر أي مستلزمات، بشرية كانت أو مادية، لمقابلة الزيادة في أعداد الطلاب، كما فرضت تعريب المناهج، مع إهمال تام لبرامج بناء القدرات، وتوفير الكتب، والمراجع، لمقابلة مطلوبات إنفاذها، مع علمهم التام ـ دكتور إبراهيم أحمد عمر وزمرته - بالآثار السالبة، والمدمرة لتلك الخطوتين على المستوى الأكاديمي للخريج. فحتى مستوى كرة القدم يتدنى إذا لم يصرف عليها بسخاء؛ فما بالك بالمستويات التعليمية إذا لم تتوافر معيناتها. فهل كان صعباً إصدار هذين القرارين، دون أي التزام بمتطلباتهما؟ وهل إصدار هذين القرارين بصورتهما تلك يعد إنجازاً؟

    الخطوة التالية في "إنجازات" الإنقاذ المزعومة، كانت في العام الذي يليه، وذلك بمضاعفة عدد الجامعات فصارت عشراً؛ حيث ظل متوسط الإنفاق العام على التعليم العالي كنسبة من الدخل القومي (46,0%) ثابتاً تقريباً؛ ولكن تمت الخطوة على حساب الدعم الذي كان يقدم لطالب جامعة الخرطوم؛ حيث انخفض الإنفاق عليه بنسبة 38%؛ عند إنفاذ برنامج ترشيد السكن، والإعاشة بالجامعة، عام 90/1991م؛ وعلى حساب كل الميزات التي كان يتمتع بها في عام 1991/1992م، فانخفض الإنفاق عليه مجدداً بنسبة 49%؛ عندما ألغي برنامج الإعاشة بالكامل، وصار السكن نفسه لا يتم إلا بمقابل رسوم يدفعها الطالب.

    تمادت العصبة المنقذة في "عواستها" بزيادة عدد الجامعات بنسبة 130% في عام 1993/1994م، لتصير ثلاثة وعشرين، بزيادة ضئيلة (21%) في نسبة الإنفاق علي التعليم العالي من الدخل القومي (0,51%)، وعلى حساب المعينات التعليمية التي كان يتلقاها طالب جامعة الخرطوم، والتي انخفض الدعم الحكومي لها في الفصل الأول ليبلغ 32%، فتلجأ الجامعة لسده من مواردها الذاتية؛ كما تساهم الدولة فقط بحوالي 4% من موازنة الفصل الثاني (أ): التسيير، مثل: توفير مستلزمات العملية التعليمية، فيتوجب على الجامعة توفير 96% من تكاليفها، الأمر الذي عادة ما يربكها. وتغطي الدولة فقط حوالي 1,0% من موازنة الفصل الثاني (ب): السلع الرأسمالية، من أجهزة، ومعدات، وغيرها؛ فتسد الجامعة العجز (9,99%) فيه من مواردها الذاتية. أما موازنة التنمية للمشروعات العمرانية، والتنموية فتغطى بنسبة 100% من موارد الجامعة الذاتية، حيث لم تشارك الدولة منذ عام 93/1994م، بأي مبالغ في تمويل مشاريع الجامعة التنموية. وضع كهذا حرى به أن يرتبط بتدن مريع في المستويات الأكاديمية. فبرغم عجز الدولة البين، إلا أنها ما فتأت تطلب كل عام، زيادة في الأعداد المخططة للقبول بكليات الجامعة المختلفة.

    الجدير بالذكر بأن الصرف علي الفصل الثاني بشقيه، لا يتم وفق خطط، وميزانيات، تعدها الأقسام، والكليات حسب حاجتها، كما كان في الماضي، وإنما عبر أمزجة، أو أوعية، غير مؤسسية؛ فتغيب بنود الميزانية، ويختلط الحابل بالنابل - حال الإنقاذ في كل مرافق الدولة - فيعم الفساد، والإفساد، ليصير السودان من أكثر دول العالم فساداً.

    قد يسأل سائل: كيف حلت الإنقاذ معضلة المشروعات العمرانية للجامعات الجديدة بولايات السودان المختلفة؟ تفتقت عبقرية العصبة المنقذة عن فكرة ألمعية توهم بها الشعب السوداني بإعمال فلسفة تربوية حديثة تقتضي إعادة هيكلة السلم التعليمي للتعليم العام بزيادة سنوات التعليم الأساسي لأقصى حد ممكن، لتصير ثمان، ومن ثم زيادة عدد السنوات التي يقضيها الفاقد التربوي بالمدرسة، فتصبح سنوات التعليم الثانوي ثلاثاً فقط، وليس ستة. بهذه الفكرة المبتكرة، يمكن بناء فصلين من القش، أو الطين، أو الطوب - حسب المنطقة: العمارات، الحاج يوسف، رفاعة، عد الفرسان - بمدارس الأساس، وإحلال المدارس الثانوية العليا بمباني المدارس الثانوية العامة، لتسكن الجامعات الجديدة في مباني المدارس الثانوية، التي أصبحت غير مشغولة تماماً، ومن ثم فلا حاجة لتشييد مباني الطوابق المسلحة، باهظة التكلفة، ومن ثم فإن كل المطلوب هو لافتات مضيئة تدل على اسم الجامعة وسنة التأسيس، لتصبح رقماً ضمن أهم إنجازات الإنقاذ في العقدين الماضيين. هكذا تتم الانجازات في العهد الإنقاذي "المبروك"، بكل هذه البساطة، والأريحية.

    يتسق نوع ذلك التفكير مع كشفه الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد بأن انقلاب الإنقاذ كان بسبب خوفهم من المحاسبة، وليس لأن لهم مشروعاً حضارياً يستند علي الشريعة الإسلامية يودون تطبيقه. فنسوا أمر الشريعة تماماً لسنوات خلت، والآن يعودون إليها لاستغلال العاطفة الدينية عند الناخب السوداني، ولكن هيهات، فقد خبرنا ألاعيبكم طوال العقدين الماضيين.

    هذا ما كان من أمر توفير المستلزمات المادية لثورة "التحطيم العالي" الذي اضطلع به مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة في العقدين الماضيين؛ أما فيما يتعلق بالإيفاء بمتطلبات الموارد البشرية، فصدرت التوجيهات للجامعات القديمة باستنساخ شهادات الماجستير، والدكتوراة، ضعيفة المستوي، ليلتحق حملتها بالهيئات التدريسية لتلك الجامعات؛ فلم يعد حملة الدكتوراة وحدهم الذين يضطلعون بالتدريس، والبحث العلمي، فقد لحق بهم أيضاً حملة الماجستير الذين أصبحوا يتولون كذلك مهام رؤساء الأقسام، وعمداء الكليات. ولم لا؟ أفلم تصبح هذه الجامعات مدارس ثانوية عليا جداً؟

    اللافت أن حملة الدكتوراة صاروا يعينون من غير أي فحص لشهاداتهم الأساسية، وليدرسوا كل المواد بالقسم؛ ولما لا؟ أفلم تتمازج التخصصات بالجامعات بعد التدهور الذي أصابها جراء إنفاذ سياسة التعريب، وإدخال مطلوبات الجامعة. وهذه أيضاً فكرة مشرقة لحل عقدة التخصصات التي أثقلت كاهل الجامعات؛ ولا يهم أن انحطت المستويات، فالعبرة بعدد الخريجين،وليس بنوعهم، عند أهل هي لله لا للسلطة ولا للجاه؛ الذين صاروا يرتلون فصولاً من الكتاب المقدس، عقب تلاوة آيات من الذكر الحكيم، كما حدث عند تدشين مرشحهم الرئاسي لحملته الانتخابية باستاد الهلال؛ فما رأي هيئة علماء المسلمين في ذلك؟

    بعد كل الذي سردته، لست في حاجة لأقول أن إنجازات الإنقاذ في محور التعليم العالي، قد قادت لتدني المستويات، فالحكم لك، أعزك الله. ولكن أود، قبل أن أختم مقالي هذا، أن الفت انتباهك لأمور بسيطة عبر أسئلة من شاكلة: هل قرأت الرسائل النصية التي يرسلها المشاهدون – جميعهم من مخرجات ثورة "التحطيم العالي" - لقنواتنا الفضائية؟ ألم تصبك بالقيء؟ هل تابعت ما يكتبه طلاب الجامعات بفعاليات أسابيعهم الثقافية؟ ألم تلحظ ضحالة أفكارها، وركاكة لغتها العربية؟ هل تعلم أن حوالي ألف خريج تقدموا لوظائف بإحدى المؤسسات فلم ينجح منهم إلا قلة لا تفوق أصابع اليد الواحدة؟ هل سمعت بأن دول الخليج لا تعترف إلا بستة من مؤسساتنا التعليمية التي تفوق المائة؟ هل تعلم أن الليبيين الذين تحصلوا على شهادات عليا من إحدى جامعاتنا العريقة قد ووجهوا بعدم الاعتراف بها في بلادهم؟ وأنا هنا لا لكي أوجه اللوم للطلاب، فهم ضحايا هذه السياسات، بقدر ما ألقي بالمسؤولية على واضعيها، الذين نالوا أرقى أنواع التعليم، واستمتعوا بالسكن، والإعاشة المجانيتين، فضنوا بها جميعاً على أبناء شعبهم من الغبش، والمهمشين.

    قد نلتمس العذر لمهندسي ثورة "التحطيم العالي" إذا ما أوجدوا وظائف لجيوش خريجي هذه الجامعات قديمها وحديثها، ليس ذلك فحسب، بل إنهم وقفوا حجر عثرة في سبيل توظيفهم فيما أتيح من وظائف، تارة بإشهار الملف الأمني – يعده زملاؤهم الطلاب من منسوبي المؤتمر الوطني - في وجوه السواد الأعظم من مخالفيهم في الرأي، وتارة أخري بوصمهم، إقليمياً، وعالمياً، بتدني المستوي الأكاديمي؛ فلا أطعموهم، ولا تركوهم يأكلون من خشاش الأرض؛ لتصل نسبة البطالة بين الخريجين إلي 48%، حسب آخر تقرير عن وزارة العمل؛ وأترك لك عزيزي القارئ تقديرها إذا كنت من الذين يساورهم الشك حيال التقارير الحكومية.

    إن ما يدعو للأسف أن المهندسين الزراعيين في بلد المليون ميل مربع ذو الأراضي الخصبة المنبسطة، والمياه الوفيرة؛ إما عاطلون عن العمل أو يمتهنون مهناً أخري مثل قيادة "الركشات". ينطبق نفس الحال علي الأطباء في بلد يعاني الفقر، والمرض خاصة في الأقاليم؛ فتجدهم زاهدين عن مواصلة المشوار، بسبب تخلي وزارة الصحة عن استيعابهم وفق هياكل وظيفية مجزية، ناهيك عن الاضطلاع بمهمة تدريبهم، وتأهيلهم المكلفة. أما خريجو كليات العلوم، والآداب، والاقتصاد، والقانون، وما أكثرهم، فالشارع أولي بهم؛ ما عدا "أولاد المصارين البيض" منسوبي المؤتمر الوطني، فالوظيفة في انتظارهم، حتى وإن كانوا أقل كسب أكاديمي، وأدني مستوى من رصفائهم. أما يدعوا للشفقة على مصير هذا الشعب المغلوب على أمره، فهو ما أدلى به وزير الدولة للعمل بأن هنالك 450 ألف وظيفة شاغرة بقطاعي التعليم العالي، والصحة، لا ترغب العصبة المنقذة في شغلها؛ ربما بسبب الملف الأمني لبقية الخريجين بعد أن تم توظيف جميع منسوبيهم، أو أنها محجوزة للمساومة في معترك الانتخابات؟ فإلي هذا الحد تبغض العصبة المنقذة الشعب السوداني، ولا تريد له الخير؟

    مما لاشك فيه أن العصبة المنقذة تعلم علم اليقين بفشل سياساتها في محور التعليم العالي، ومع ذلك تصر على تسويقها كأحد أهم إنجازاتها (صحيح الاختشو ماتو). ليس هذا ما يبعث على القلق، ولكنها مأساة تعويق الموارد البشرية لأجيال قادمات، هي ما يغض مضاجع من في قلبه ذرة من حب لهذا الوطن. ألم أقل لكم: لن يطالكم منه إلا التجهيل والبطالة.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de