دموع .... محمد كارا ...على العالم الراحل ابوسليم ...اقرا المقال ...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-29-2024, 07:13 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-09-2010, 05:06 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
دموع .... محمد كارا ...على العالم الراحل ابوسليم ...اقرا المقال ...

    ابوسليم ... مناحة متأخرة

    بدموع : محمد خليل كاره

    مدخل ...

    بعد الله سبحانه ، ومعه جل شأنه، تشهد زوجتي السيدة عائشة ، كم من الوريقات مزقت ، بعد ان افرغت فيها شحنات تفيض بها الخاطرة في شأن الراحل ، بل المقيم ، الخال ابو سليم ....
    وفضلا عن هذه السيدة الفضلى ، كثيرا ما استفسر اصدقاء كثر باستهجان ، كيف لم اكتب شيئا عن الخال مذ رحل ...وقد كتب ، فيه وعنه، من كتب ..
    وكنت اكاد اهتف : اااه لو تعلمون ....
    ..........
    انا نفسي ظللت اسائل نفسي في (منولوج داخلي) ، كيف لا تفعل ذلك ؟ فترد الاخيرة على الاولى بسؤال استنكاري :
    - ومن هذا حتى يكتب عن ابو سليم ...وهو ابو سليم ..حتى لو كان شقيق امه ؟!!
    ......
    في مرحلة ما ، تنتصر نفسي على نفسي الاخرى ، فاجلس بالساعات.. ادون ما يعن ...
    وحينما افرغ ، تخرج (النفس المهزومة) لسانها مستهزئة لتتهكم :
    - هل هذا منتهى ما استطعت؟ لم تخوض غمار امر لست باهل له؟
    وتضيف : هذا شأن عظيم ..عظيم ..وانت ضئيل ..ضئيل..
    وتصطرع النفسان في دواخلي ..
    و النتيجة : كومة ورق في سلة مهملات..، تعيد ترتيبها السيدة عائشة (رضي الله عنها وارضاها) ..
    تقرأ ما فيها ، وتعجب بها وتأتيني لائمة لوامة ..ان كيف لا اخرج بذلك الى الناس وهي تحاول تشجيعي على الدفع بما كتبت الى النور..فاتصنع الاقتناع ...ولكن ..
    من يقنع النفس "الامارة بالاجادة"؟ ..التي لا تفتأ تحنث بالوعد؟ ..

    .................

    ظللت في هذه الدوامة ..بل قل هذا "الجحيم" الذي يتقد اواره – خصوصا – مع حلول ذكرى رحيل الخال العظيم ، كل عام ..
    الآن ، ومع حلول الذكرى السادسة للفاجعة (القومية) ، هدأت النفس (النقاقة) .. وانطلق القلم ليسطر بعض الشذرات
    من السيرة النيرة ، والمواقف البهية مع الخال الراحل جسدا ، المقيم ابدا بين ظهرانينا ..بعد ان عاهدت نفسي ، بل بعد ان توافقت نفساي ، على لا افرط في وريقة حملت حرفا عن الحبيب الراحل ..
    وانتقيت هنا لقراء (الاحداث) الغراء حلقتين مما كتبته ونشرتا في موقع (ابوسليم - سركمتو ) على الشبكة العنكبوتية (الانترنت).والحلقتان تجسيد درامي واختزال لعمر علاقة بين الكاتب والعاِلم الراحل في مرحلة البداية ومشهد النهاية:


    ......................

    - ويا ووميموشيو ...انكرم ويتردنقوكونو ...انيقو انيقوكا اق تاججنتامن نقو (اواه يا ميموشى لقد مضى من كان قد بقي في اخر المطاف وحيدا مثلك ... قد مضى وهو يناجي ،بل ينادي، امي وامك)..
    على (انغام) هذه المناحة كنت والغا في شهوة البكاء (وان للبكاء لشهوة) ، وانت في احضان خالتك هانم ، الاخت الصغري للراحل المقيم ، تحيط بك من كل جهة نسوة نائحات ما فرزت من بينهن غير السيدة حليمة (رضي الله عنها وارضاها التي باتت ارملة للتو ..وعنها ستسكب حبرا كثيرا في حلقات لاحقات) ويو اشة احمد (تولاها الله برحمته) ويو نبيهة عدلي ويو سلامة كوشة ، اللائي كن يتبارزن في فن ال(اجن كيري) (المناحة) ، وكأنهن عذاراوات تتسابقن في مناجاة عشاقهن في (اريس نودا) ...وعندما (انتزعك) من بينهن انتزاعا ، (النبي الصموت) الذي رحل ايضا لاحقا ، خطيب احمد عبد الرحمن (طيب الله ثراه) ، كنت قد افرغت جل شحنة الحزن المكبوت منذ تواتر اليك الخبر الفاجعة في منتصف الليلة التي قبلها ..
    وكانت ليلة ليلاء ....
    .....
    في تلك الليلة ، غرق صغارك الزغب في الربكة وقد انتفضوا من فراشهم مذعورين على صوت نحيبك ، وجلسوا حولك صامتين محولقين تنهشهم الحيرة ، وهم الذين لم يروك قط حتى مكفهر الوجه ، دعك من دموعك التي تنهمر سيلا... وجلست زوجنك تواسيك بحنان وهي تكفكف دموعها ولا تكف عن الهمهمة بان "هذه حال الدنيا وكل من عليها فان"..وترجوك ان تتجلد "على الاقل رحمة بالصغار"....
    كنت قد تلقيت للتو رسالة هاتفية من صديقك محسوب طيبة يعزيك في خالك "البروف ..فقيد سركمتو والسودان"..فاطلقت نحيبك الداوي قبل ان تهدأ قليلا وتلج في نوبات بكاء مكتوم تتخللها خواطر متداخلة ..ذكريات ..مواقف ..تأملات في الحياة والموت ..صور احباء سبقوه وسبقوك في الرحلة الابدية ..ابوك ..امك ..اختك .. اقارب ..اصدقاء ..
    "والحياة تسير" .. تطلق هذه العبارة في وهدة صبر تخطط خلالها للسفر فورا ..وبينما كنت تصب لعناتك على "سلسفيل" الغربة وانت تسلسل ترتيبات السفر: ..طلب الاجازة .. الجواز ..التذكرة ..الحجز ..تغفو قليلا قبل ان تصحو عند منتصف الليل على صوت قرع الباب .. لتجد امامك صديق عمرك عثمان جودة ومعه رهط من القاطنين معه في امارة الفجيرة التي تبعد نحو 300 كيلومترا.... وتتعانقان على الباب وتنخرطان في البكاء (الجد) لتنضم اليكما زوجتك وزوجة استاذك في الصحافة عباس القاضي وبقية القادمين من الفجيرة ، قبل ان يكفكف احدهم دموعه ويفض عناق الناحبين داعيا الى الصبر متمتما بذخيرة مكرورة مما يلقى على المسامع في هكذا نائبات .. وتنتبه لنفسك لترحب بالقادمين مع صديقك..وتفيض جلسة العزاء الصغيرة في منتصف الليل بسيرة الراحل العظيم وتندهش عندما تجد من بين هؤلاء (الغرباء) من يغالب دموعه وهو يحكي عن جانب من مواقف جمعت بينه وبين الراحل الكبير..يستأذن المعزون المغادرة متعذرين بال(دوام) – العمل - وقد شقشق الصباح .. تودعهم شاكرا، ثم تنهمك وزوجتك في اعداد حقيبة السفر لتنطلق باكرا الى مكتبك .. تستأذن للغياب يومين وتتناول جواز سفرك وتلحق في مطار دبي باول طائرة متجهة الى الخرطوم..
    وداخل الطائرة تنتابك (كاروشة) الكتابة فتمتشق القلم وتكتب الحلقة الاولى من سلسلة تقرر نشرها حال عودتك بعنوان:




    ابو سليم سواق خصوصي لـ(موشى دايان)


    - موشى بسميق اقوق (قول بسم الله..)
    - لا والله مش ممكن..
    - يا ابني اسمع الكلام
    - لا والله مش ممكن
    - خلاص على كيفك .. اركب محل ما يعجبك..


    ..وتتحكر – ايها القروي الساذج – في المقعد الخلفي في السيارة (طراز الموسكوفيتش) ، لتنطلق بكماالى نادي ابناء السكوت في السجانة ..

    السائق هو ابو سليم (تخيّل) ..وانت (متفنجخ)في المقعد الخلفي الوثير..
    يحاول ان يتجاذب معك اطراف الحديث .. يسألك عن اخبارك واخبار دراستك ... واخبار امك واخواتك في البلد ، فتجيب بجمل (تلغرافية)
    - والله كويس ..الحمد لله ...آآي ..لأ ..

    ...كنت يومذاك وصلت للتو من محطة القطار ، ودلك من دلك ، الى منزل خالك (الدكتور) في الخرطوم شرق (قرب السفارة النيجيرية).. صادف وصولك الى المنزل الحكومي (بل القصر) ، عودته - رحمه الله – من العمل .. فاحتضنك هاشا باشا محتفيا بك ..
    - (اهووووو موشى دايان هنا يا مرحبا يا مرحبا)..

    كان - عليه شابيب الرحمة - يناديك موشى دايان مقتبسا (اسم الدلع) الذي اطلقته عليك امك ميموشي)،..
    وكان لموشى دايان وزير الدفاع الاسرائيلي انذاك (شنة ورنة) ...

    وقبل ان (تغير هدومك) نادى بك لتجلس الى جانبه على (سفرة) الغداء .. وبينما كنت تتهيأ لتنهض من مكانك متصنعا الشبع قبل ان تشبع (عملا بنصائح حبوبتك يو اريا في البلد:اكل اكل الجمال وقوم قبل الرجال - وتلك قصة اخرى - )..، سألك عما اذا ما كنت راغبا في ان تصحبه الى النادي بعد ساعة او نحوها ، ريثما يرتاح قليلا ..


    طوال الطريق من الخرطوم شرق الى السجانة لم تكن منشغلا ،وانت الصبي الغر ، ببهرج ( الخرطوم بالليل) ..ايام زمان.. بل كنت غارقا في في تأملات مربكة:
    ها هوذا اذن خالك (الدكتور) الذي طالما (هرتك ) امك بسيرته منذ كنت طفلا طري العود .. بل رضيعا (تلوليك) به ..(انشا الله يا ولدي تكبر تبقى لي زي خالك الدكتور)..(سبحان الله قالو الولد خال .. خالك الدكتور برضو وهو صغير كان كده).. (والله لو عملتو كده اخلي ليكم البيت ده واسافر الخرطوم واعيش مع اخوي الدكتور)..(خالك الدكتور قال ..خالك الدكتور سوى ..خالك الدكتور ...خالك الدكتور...الخ).


    وتعود لتناجي نفسك : ها انت ذا ،لاول مرة، امام خالك الدكتور بشحمه ولحمه ..ليس ذلك فحسب ... بل هاانت ذا - ايها الصرصور- ترافقه لوحدك في مشوار قبل ان تمر ساعات على اول لقاء لك به .. وهاهو ذا يعيد الكرة ليسألك عن احوالك ودراستك وامك واخواتك.. فاحمد الله .. وتأدب وتهذب .. اخفض صوتك .. ولا تتجرأ حتى لتنظر اليه.. وحسنا فعلت عندما رفضت باصرار الجلوس الى جانبه في السيارة ..

    وتفيق من حديثك مع نفسك عندما تقف السيارة امام نادي السكوت في السجانة.. وتجد رهطا من المسقبلين وهم يحملقون فيك وقد الجمتهم الدهشة !!.. يترجل خالك الدكتور من السيارة وينشغل بالسلام على هذا وبمداعبة ذاك ..وتنزل – سعادتك – بهدوء من مقعدك الخلفي متهيئاً للسلام على الناس المحتفين بمقدم الدكتور ، بل متهيئًا لسلام الناس عليك بالاحضان وانت الضيف القادم لتوك الى الخرطوم .. وتفرز من بين هؤلاء عددا من اصدقاء خالك الحميمين (حسبما لاحظت لاحقا) ، محمد ياسين (اطال الله عمره)، وقوديب وعلي شمة (رحمهماالله) ..واخرين ..

    وقبل ان تمد يدك للسلام عليهم ، يطبق عليك شخصان من اقرب اقربائك ، تعرفهما جيدا ، ويشدانك بعنف وينتحيان بك جانبا .. ولدهشتك ، لا يسألانك عن حالك ومتى قدمت ، بل يفاجئك احدهما ليسألك بـ(نهرة):
    - انت عبيط ؟!
    - أنا؟
    - امال انا؟ ايوا انت ..


    وينتابك مزيج من الخوف والدهشة والارتباك لهنيهة ، قبل ان تعرف سبب هذا "الترحيب الفاحش" (استخدمت هذا التعبير عن قصد وسأحكي مِـْلـــحـَة ذات صلة بعد حين) ..

    - انت قاعد ورا عامل (الخال) سواق ليك ؟!



    - امال اقعد وين ؟

    - تقعد جنبو قدام ..


    - انا منو عشان اقعد جنب الدكتور؟انا ما صدقت ركبت معاهو ..كمان اقعد جنبو؟


    وتلجمك انت الدهشة عندما تجد قريبيك (الشرسين) ، وما عهدتهما كذلك من قبل ، يغرقان في الضحك ... قبل ان ُيفهماك – ايها الغشيم – انك ارتكبت كبيرة من الكبائر في فن التعامل المدني ، في غمرة اهتمامك باظهار الاحترام اللائق للخال الدكتور الذي جعلت منه من حيث لا تدري (عم عبده السواق) – حسبما عرفت لاحقا من خلال الصورة النمطية في السينما المصرية لسواق الببيه –

    .. وكان هذا اول درس في (الاوتوكيت) يتلقاه صبي غر قادم لتوه من القرية ، في اول يوم له في العاصمة...كما شكل هذا الموقف اللبنة الاولى للعلاقة (الملتبسة العجيبة) بينك وبين خالك الدكتور، فضلا عن انه(الموقف) بذر في داخلك "عقدة" طالما ستلازمك طوال رحلتك الطويلة معه.. مثلما ستروي تفاصيلها في هذه السلسلة ..ان شاء الله .
                  

02-09-2010, 05:11 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: دموع .... محمد كارا ...على العالم الراحل ابوسليم ...اقرا المقال ... (Re: الكيك)

    sudansudansudansudansudansudansudan40.jpg Hosting at Sudaneseonline.com
                  

02-09-2010, 05:13 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: دموع .... محمد كارا ...على العالم الراحل ابوسليم ...اقرا المقال ... (Re: الكيك)



    أبو سليم.. هل يعود النهر..؟! «2»


    صلاح دهب فضل

    وفي الجزئية المشمولة في الكل السوداني، أي في تاريخ المهدية شطراً من تاريخ السودان، توحدت نظرة أبو سليم إلى هذا الجزء دون تمييز بين حركة الثورة محزومة في يد المهدي في حياته وبين قيام دولته بعد وفاته، وعلة هذه النظرة علة توفيقية مثالية محتكمة الى الثبت والوثائق، او كما قال هو نفسه بأنه تجرد للأحداث على طبيعتها المخطوطة في الوثائق. ومن حق أبو سليم أن يولي المقصد والغاية حقهما من الشأن والتقدير، جمعاً للصف واستشرافاً لمستقبل سوداني تضامني، وان كان ذلك من حق أبو سليم كذلك من حق المطلعين ان يفرقوا بين الثورة في حياة قائدها وبين تأسيس دولة نظامها وفلسفتها بعد مماته، اذا كان في ذلك ما يمكن استخلاصه من دروس مفيدة تضئ معالم الطريق بهدف احداث التقدم والوحدة مستقبلاً.
    تحمل كل سيرة الإمام محمد أحمد المهدي، ومسار ارادته الثورية، ونزعته الانسانية الموحدة، وقيمه الحضارية السامية وتعامله مع الاعداء الاجانب - بشكل ملحوظ مع غردون - أن استقرار ثورته على دولة كان سيصير إلى فتح مبين للسودانيين كافة، لو قدر أن تؤسس هذه الدولة في حياته، كما مثلاً دولة المدينة في حياة الرسول الكريم «صلعم». لكن أكثر الأخطاء خطيئة كان الجنف بالمهدية منذ تأسيس دولتها في أم درمان، فقد جاءت تفرق بين السودانيين، حتى صعدت الفرقة شمالا، وجاء الصدى يحمل مرارات: «ود النجومي التي كانت تؤاكسنا» وما كان ود النجومي القائد العظيم الفذ هو الذي كان يعاكسهم، ولكن ود النجومي الذي كان في حال مهديته الاولى، لابسا رداء امامه، جنى عليه تجرده، غافلا عن الدنيا ومتاعها الزائل وعما حيك له شخصيا فدفع لقيادة جيش انتحاري لا سبيل الا ان يفنى بكامله في مهمة عبثية بلا منجاة.. فحكى حاله حال من كانوا ضحاياه الذين هجوه معذورين بغير دراية، وبلغة لا يحسنونها، فانطبق العذر على العذر، كما انطبق الوزر على الوزر على غيرهم ومغايريهم الذين لم يحسنوا التمهيد للدخول على قوم بسياسات المصانعة والحسنى، وأولى تلك السياسات، إعلاء قدر وتقدير لسانهم الذي توطن في الارض السودانية كما توطنت الجبال.. بل كان السودان الحاضر، منذ تلك العهود التي ارتفقت العبدلاب والفونج، حربا على هذا اللسان وعلى مقدرات وثقافة القوم وتاريخهم وحضارتهم الباكرة التي أسسوها في صدر افريقيا قبل مئات القرون. وفي هذا فقد ظل وسيظل إسفين عدم الولاء الحقيقي «مدقوقا» على جسد السودان الحقيقي، إذ ما من كيان بشري الآن في الوطن الكوشي «السودان بكامله الحالي» إلا وكان فخره انه وفد الى السودان من خارجه طارئا، فطاب له المقام فأقام. ومن خلل هذه الشوفونية المتعالية المفاخرة ـ بأكذوبتها وحقائقها ـ زجر الإرث الحضاري الاصل ـ بلغته ومآثره ـ لينكفئ ويضمر في قاع مهمل.. وفي بعض من الظواهر والاحداث ومنعطفات التاريخ القريب بلغ الامر ضراوة حرب الآثار الشاخصة فوق أرض الممالك القديمة، ليس من الخاصة وقابضي السلطة فقط، بل ومن العامة في مواطنهم التي صادفت مواطن تلك الآثار، بحجة انها آثار وثنية.
    أعود مسترجعا ما اسلفناه بشيء من مغايرة المعنى والمبنى. لا يخامرني مثقال من شك أن مذهب او حزب «أبسليم» وهذا هو النطق الصحيح كما اطلقه عليه اهله، كيان قائم بذاته، مستضيئا بعلم التاريخ. كان من أدرك علمائنا بقوة التاريخ في تشكيل وجودنا، والذين يعتقدون انه كان منفصلا في نشاطه العلمي والاجتماعي عن واقعه ومطاليب بيئته المنصرفة عن المهدية وعن أثرها على وجداننا الجمعي، واستعاض عن ذلك بموالاة الرصد واضفاء الامجاد على تاريخ المهدية، مخطئون خطأً غير مغتفر. من ناحية فما اداه عمل علمي وطني عظيم، من صميم مستحقات الثورة المهدية الشاملة، حيث جاءت حركة نهضوية توحدية انعدم مثيلها في ذلك العصر على امتداد الرقعة الاقليمية الجغرافية التي ينتمي اليها السودان أوسطياً وإفريقياً وإسلامياً. ومن ناحية فهو قوى الصلة بأهله في الشمال النوبي، وامتاز بلغته النوبية الصافية، وليس من ند له وسط المثقفين النوبيين في هذه اللغة الا مقاسمون يعدون على الاصابع، منهم ـ كما اعلم ـ القاضي والمهندس ابراهيم شريف، رحمهم الله جميعا، والفنان محمد وردي اطال الله بقاءه.
    اذن لم تتخاصم الرؤيتان او تصطرعا في فكر «أبسليم»، فقوة انتمائه لنوبيته مشهودة، وليس من باب الإعنات او تكلف القول: ان الارجح هو ان باب الوصول الى الاهتمام بتاريخ المهدية هو ذلك الانتماء لبيئته الاولى في ارض النوبة. ودلالات هذا الاهتمام وقف تقصيها على الباحثين العارفين ممن لازموه طويلا في حياته المهنية، ومع ذلك نقول إن مرجع هذا الاهتمام ذاتي في اطار محدود، وتصالحي في اطار محدود، وتصحيحي في اطار محدود، ووطني في اطار اشمل.
    ومع توالي الغوص في أحداث الثورة المهدية، ومع إلفة البحث والرصد والمتابعة، انغرس في أعماقه ولاء وانتماء قوي للمهدية، وأقل ما يقال في هذا إن الجانب الإنساني حقيقة من حقائق البشر وإلا لما كان استطاع العكوف على هذا العمل الجبار كل هذا العمر، لولا أن أحبه ومنحه مطلق ولائه.
    وخاتمة فإنني ممتن لك أيتها النفس المطمئنة، أذكر في زيارتين لك بدار الوثائق ايها الطيب السجايا، انك مرة شجعتني على تحقيق الرغبة في ترجمة درة حسن دفع الله The Nubian Exodus، وعقبت انك ستستأذن لي أسرته وشقيقه البروفيسور النذير دفع الله، ولظروف لم تتحقق الرغبة، منها انني لست مترجما محترفا. ومرة عندما اتحفتني في السبعينيات برسالة الى الدكتور محمد عثمان ابو ساق لأعمل معه في مجلة فكرية لمايو، ووصفتني له بـ «البربري الفصيح» وهي عبارة كما اذكر اطلقها الدكتور عبد الله علي ابراهيم على شاعر عزة/ خليل فرح، والعبارة مطلقا تاريخية فرعونية: «الفلاح الفصيح».
    ولأنك بعيد عن السياسة لم تكن تعلم أنني لن أسلم هذا الخطاب للدكتور أبو ساق... وأبو ساق أحد أساتذتنا في مادة التاريخ ببورتسودان الثانوية، ولم تكن أنت تعرف ذلك، وكان أبو ساق من أحب المعلمين وأنشطهم وأكثرهم حماسا، وما أردنا له، حين صار، أن يكون من قيادات حزب تتوسل به حكومة عسكرية.
    ثم استميحك، وأنت عند ربك، على ما عاتبتني عليه في وادي حلفا عند انعقاد المؤتمر الشعبي لتعمير المنطقة، أبريل 1984 حيث طلبت من شخصي الضعيف أن نعقد اجتماعا فرعياً لابناء شمال سكوت «عكاشة ـ سركمتو ـ فركة ـ مقركة وكوشة»، ولكن زهدني بعضهم وسافروا بي توا الى عكاشة.. ولم اتمكن من لقائك، فكان العتاب على ما اعتقدته من تقصير.
    ألا رحمك الله، ولا أملك في لحظة معراج روحك إلى باريها إلا أن أردد:
    أطفأ اللحد والثرى لبك الـمـ ٭ سرج في وقت ظلمة الألباب
    خلق كالمدام أو كرضاب الـمـ ٭ سك أو كالعبير أو كالملاب
    وأعلى الجنان لك من ربك بما أسديت.
    ولأسرتك وأهلك ووطنك خالص عزائي... ونعم سيعود النهر في الأجيال.

    الصحافة 8/2/2010
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de