|
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م (Re: خالد أحمد بابكر)
|
قصة قصيرة
القَوْسُ المكسور
بقلم: بدر الدين عبد العزيز
أجحفت بحقه الأيام.. كان ذلك إحساسه وهو ينظر إلى واقعه المر بعين حزينة وخاطر مجروح لم تترك له الأيام شيئاً يقتاته.. من ذكريات لمواقف ومشاهد كانت هناك خلفها وراءه ثم غسلتها المدينة من دماغه.. مخيلته الآن فارغة.. فارغة تماماً من كل الماضي الذي حمله معه إلى المدينة.. بهذه الصرامة في التفكير ناحت دواخله باكية على فقده الكثير من الماضي والكثير من الأشياء الحيوية التي تتطلبها المدينة, وبرغم ذلك تبدو الخرطوم زاهية أمام عينيه في ثوبها الحضري الفاخر والفخم.. بكل متطلباتها الهائلة الضاغطة والتي لا قبل له بها مما عمق إحساسه بقزميته أمامها... ضآلة وجوده الشاحب أمام بريقها الأخّاذ الذي استحوذ على كل خياله وتفكيره.. حتى من قبل أن تطأ قدماه أرضها الصلدة القاسية المكسوة بالأسفلت الأسود اللامع كما أبنيتها بزجاجها الملون والمزينة الجدران من الداخل والخارج بالسيراميك بواجهات محلاتها التجارية الشفافة.. الغارقة شفافية حيث يبين كل ما وراءها عارضاً بهاءه ورونقه إغراء لكل الحضور الحاضر والغائب لذهنية المشاهدين المارين في عجل لم يفقه أسبابه هو, وهو الذي كان يمثل قمة من قمم الوعي والذكاء والمعرفة ببلدته, بعدما تحصَّل على نسبة نجاح معقولة في الشهادة الثانوية بالمساق الأدبي.
يذكر الآن حين أصر على الرحيل مندفعاً صوب المدينة كانت الذرة والسمسم قد شارفت على النضج... كانت الطيور فرحة بقرب أوان الحصاد.. وهي تزدحم بالسماء تهب مثل غمامة تثقب الأفق, جزلة في غنائها المتواصل والبقرة التي أهدتها إليه جدته لأمه توشك على وضع عجلها الأول.. كل المؤشرات كانت تشير إلى النماء والخصب.. وبرغم كل ذلك انفلت مندفعاً صوب المدينة التي رسمها بخياله مراراً.. وفي كل مرة كانت تتخذ ثوباً أجمل من الذي سبقه.
لم يضجر أو يتبرم رغم معاناته ومما لاقاه بالمدينة رغم تحطم أحلامه في مواصلة الدراسة التي فوجئ بفداحة تكاليفها فصرف النظر عنها وأيضاً من فقد المدينة لحميمية العلاقات وسطحيتها بين أفرادها ومن أنماط الخدع وألوان التملق والرياء المبثوثة بنسق التواصل داخل كيانها المترهل.
هذا ما قالته جدته له عندما أزمع الرحيل مغادراً إذ قالت: ناس المدينة زي البقر بلحس بعضو.
كل هذا الإجحاف الذي قابلته به المدينة إلا أنه ظل صامداً والهاً بها وممجداً لها. هذا العاشق المتمرد على ذاته. المتمهد لكل غرس ينمو على جدرانها.. المنصاع لأعنف صور سحقها وهو يعدو لاهثاً متقطع الأنفاس رهقاً.. متقلباً بين مناهج طرق كسب عيشها... تألَّم كثيراً حين سرق هاتفه الجوال الذي اقتناه لتكتمل به صورته المدينية ليحلو به أمام أقرانه من شباب المدينة ولم يكن هناك غريب بينهم كما يرى هو... كانوا كلهم زملاءه وإخوته في العمل. ولكنهم سرقوه ولم يراعوا كل ما يحمله لهم من سماحة وود وإخاء وبرغم استيائه إلا أنه تمنى ألا ينكشف السارق.. وأن يبني كل شيء للمجهول حتى لا تحترق الصورة الطيبة المرسومة بذهنه للإخاء والصداقة.
هو يرفض الامتثال لانحرافات المدينة. وبنفس الوقت يتقبلها ولا يتبرم منها هو يرى نفسه قد أصبح "تفتيحة" بأسلوب المدينة ولكنه عاجز عن حماية مصالحه داخل أسلوب ذات المدينة, هو لا يثق بفتيات المدينة, قالت له إحداهن جمعت بينهما علاقة عاطفية, قالت تسأله بكل جرأة علاقتنا دي حتستمر لي بتين؟.. كان رده أنا عايزها تستمر لي بتين؟.. لم ترد عليه فأردف هو: خليها على الله.. خليها للأيام. كان ذلك رده قاله بكل طيبة وبساطة وعفوية.
هو الآن يحس بنفسه ورقة تحترق داخل سلة مهملات المدينة, أن يضع كفيه داخل جيوب بنطاله الجينز ويتبختر متناغماً والنسق العام بشارع النيل, ذلك أصبح لا يهم الآن.
أحس بنفسه ينتقل نقلة جريئة باتجاه الأمام ناسفاً الخط الأحمر المضروب حوله من قبل المدينة هو الآن يرفض الظلم والتهميش, أجل مفهوم التهميش قافية جديدة تزيل كل مقطع اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي هو يرتكز عليها الآن بكل ثقله جاعلاً منها قارباً يمخر به بحر المدينة الهائج في تيه شعوريات العنف والغبن على كل مراسيم تعالي المدينة..... وببخورها المحروق زراً للعيون كي لا ترى بشاعتها, هذه الغشاوة المصنوعة من بريقها الفاتن الزائف.
وصل لهذه النقطة واحتدم إلى حد الانفجار من شدة توتره... ولكنه في اللحظة التالية للاحتدام انكسر... قبع كالقوس المكسور بداخله.. هل انهزمت، سأل نفسه بينما لا تعي نفسه في أي موضع تكون الآن.
شغلت ذهنه مشاهد الجند المدججة بالسلاح... بعرباتها المصفحة تجوب شوارع الأسفلت الفارغة من المارة كان ذلك بعد يومين من أحداث موت زعيم الحركة الشعبية.. بعد مشاهد العنف والدخان الكثيف الذي غطَّى سماء العاصمة. طرأ بذهنه سؤال طرحه مباشرة على نفسه بعنف, لقد دمرنا الغابة قبل ذلك.. اليوم ندمِّر المدينة, الغابة من صنع الطبيعة والمدينة من صنعنا نحن، أيُّ الحدثين أقسى علينا؟.
ثم فكّر بصوت مسموع.. المدينة قد نصنع غيرها والغابة قد نزرع أشياء بدلاً منها.. ونحن نفنى بعضنا البعض في كل ذلك.. إذن.. من أين نجييء ببعضنا الذي هلك.
عند هذه النقطة طرقت دواخله موجة حنين مباغتة للأرض ولأهله والأبقار والحقول.. بينما وبغتة أيضاً وقفت المدينة سداً منيعاً يحجب الرؤية, تمارس تكثيف غشاوتها كعادتها بتفعيل بريقها.
ألقى بمرساته على سواحلها ونهض ليعدو بمضمار سباقها.. ورئيس المجموعة العاملة بمكان العمل والواقف بالقرب من آلة الخلط.. يصرخ بأعلى صوته.. رملة.. خرسانة.. موية.. أسمنت, بس وينقلب جردل الخلاطة الفولاذي الضخم إلى الجهة الأخرى يسكب الخليط الخرساني منساباً على قضبان السيخ يشكل قاعدة لبناء جديد يزين وجه المدينة بديع التصميم.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | خالد أحمد بابكر | 11-17-09, 12:57 PM |
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | خالد أحمد بابكر | 11-17-09, 01:04 PM |
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | Bushra Elfadil | 11-17-09, 01:14 PM |
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | Alsadig Alraady | 11-17-09, 01:38 PM |
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | محمد سنى دفع الله | 11-17-09, 01:19 PM |
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | ابوعسل السيد احمد | 11-17-09, 02:10 PM |
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | خالد أحمد بابكر | 11-19-09, 09:53 AM |
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | خالد أحمد بابكر | 11-19-09, 09:54 AM |
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | خالد أحمد بابكر | 11-19-09, 01:29 PM |
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | خالد أحمد بابكر | 11-19-09, 03:01 PM |
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | خالد أحمد بابكر | 11-19-09, 03:31 PM |
Re: رحيل القاص والروائي بدر الدين عبد العزيز 1964-2009م | mustafa bashar | 11-19-09, 03:50 PM |
|
|
|