|
Re: زمن الجنا ئز الجميلة (Re: Osman Musa)
|
عدوان في نهاية "المخاض"
سوسن الأبطح (بيروت)
عن عمر يناهز 63 عاماً، رحل ممدوح عدوان ابن قيرون السورية، وهولا يريد أن ييأس ولا يستطيع أن يصدّق الأمل، متألماً حزيناً لما وصلت إليه حال أمته، متيقناً أن تأثير المثقف العربي بات هزيلاً، ومصراً، في الوقت ذاته على أن يبقى يمارس واجبه الأدبي حتى النفس الأخير. أيام قلائل بعد ان كرّمه مهرجان المسرح في دمشق، وسنوات بعد أن خذلته الأحلام أغمض عينيه وكأنه يسخر من دنيا اختار فيها الصراع والمشاكسة والغضب، فشاكسته بدورها ولعله انتصر.
عدّد ممدوح عدوان "الكارات"، لكنها كانت تدور جميعها في دائرة الكتابة والأدب. ناضل بالقلم، رغم انه حمل البندقية عام 1976 حين كان في الجيش الشعبي. ومثّل في المسرحيات التي كان يكتبها بداية حياته، وحشر أنفه في كل شاردة وواردة حين كانت مسرحياته توضع على الخشبة، وعمل صحافياً في مطبوعات سورية وفلسطينية، ومارس المهنة مراسلا حربيا وذهب أكثر من مرة مع الفدائيين في عملياتهم، وغطى معارك أيلول عام 1970، كما عمل مراسلاً في القطاع الشمالي من الجبهة السورية طوال حرب تشرين عام 1973. كما اشتغل عدوان في الترجمة، ودرّس حتى أيامه الأخيرة في الجامعة، وذاب مع طلاّبه في معهد الفنون المسرحية، وبقي طوال عمره مشدوداً إلى السياسة ينتقم من مكائدها في نصوصه، وناقداً كيفما تحرّك أو تكلّم أو كتب، حاد النزعة قاسي الألفاظ، وقد شرح ذات يوم وجهة نظره قائلاً: "لا مانع لدي أحياناً من المباشرة، إن فهم البعد السياسي لمعاناتي ومعاناة شعبي هو الذي يقف أمام كل محاولة لي للتقرّب من أي مشكلة أعيشها. وأنا في كتاباتي أميل إلى استخدام أي عنصر أتقنه لخدمة غرضي: أستخدم التراث أحياناً والمادة الواقعية اليومية والسخرية أحيانا أخرى والخطاب الاستفزازي المباشر أيضاً".
لهذا ربما بدأ عدوان حياته شاعراً مسرحياً من خلال كتاب طبعه على نفقته الخاصة في دمشق تحت عنوان "المخاض" عام 1966، ثم صدر ديوانه الشعري الأول عن وزارة الثقافة السورية عام 1967 بعنوان "الظل الأخضر" لتكر السبحة بعد ذلك، فكفّ بعد حين، عن المسرحيات الشعرية لاجئاً إلى النصوص المسرحية النثرية إيماناً منه بأن الزمن تغيّر والأدب ليونة وديناميكية. وإضافة إلى مجموعاته الشعرية التي بلغت الـ17 وكلها موزونة، جمع الرجل شعره النثري الذي سجّله في مراحل متفرقة وأصدرها أخيرا في ديوان عنوانه يشي بمضمونه، إذ سماه "حياة متناثرة"، ويبدو أن ثمة قصائد نثرية اخرى لم يجمعها عدوان ما تزال تنتظر أن تبصر النور. وبنشر قصائده النثرية إضافة إلى الروايتين اللتين نشرهما "الأبتر" عام 1969 و"أعدائي" عام 2000، وترجماته التي بينها "الشاعر في المسرح" لرونالد بيكوك، و"تقرير إلى غريكو" لكازانتزاكي، نقع على أديب تعددي يتخطى الأشكال كلها ويخترقها بنهم، ويمتطيها كفارس ليصل إلى غاياته التعبيرية التي تختلج في صدره، ولم تسلم منه المسلسلات التلفزيونية التي كتبها هي الأخرى.
نصف قرن وهو ينحت في جسد الكتابة، حتى حين كان السرطان ينحت في جسده، مدى السنتين الأخيرتين، فأصدر أربعة مؤلفات بينها "حيونة الإنسان" عن ظاهرة الاستبداد، فيه توثيق وبحث، وهو مجموعة مقالات كانت قد نشرت من قبل.
وخلّف الرجل وراءه حوالي سبعين مؤلفاً في كل مجال أدبي. ورغم التعب والجهد الذي كان يبدو عليه لم يهدأ ولم يطلب الراحة بل بدا كمن يريد أن يستنفد كل دقيقة بقيت له، وهو بذاك السلوك الشره للكتابة، ومغالبة الموت يذكّر بمواطنه سعد الله ونوس الذي أمهله المرض فترة أطول من تلك التي فاز بها عدوان.
عُرف عدوان واشتهر، وهو ما يزال ابن سورية البار، لم يكن يخرج من بلاده أو يسافر. وكما يقول نفسه، فإن ثقافته الأساسية جاءت من القراءة باللغتين العربية والإنجليزية، ومن الأفلام التي حضرها وما نقله إليه التلفزيون واستطاع الاطلاع عليه من الفرق المسرحية الزائرة لدمشق. خرج عدوان بعد ذلك من دمشق لكنه كره الغربة والهجرة ولم يتقبلها، وفضّل التعايش مع هامش الحرية المتاح له التعامل معه بما يستطيع، فلم يهرب او يبتعد، بل بقي مقيماً حانقاً وساخطاً، وكأنما الكتابة عنده كانت المتنفّس والتعويض الذي يحتاجه. فقد كان الرجل غزيراً، سيّال القلم، فمن المسرحيات كتب "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" و"هملت يستيقظ باكراً" و"حال الدنيا والخدامة" و"كيف تركت السيف". ومن دواوينه "تلويحة الأيدي المتعبة" و"لا بد من التفاصيل" و"للخوف كل زمان" و"أمي تطارد قاتلها". وقد صدرت "أعماله الشعرية الكاملة" ـ التي أصبحت ناقصة بسبب إصداراته التي لم تتوقف ـ عام 1986 عن "دار العودة في بيروت". وبرحيل ممدوح عدوان الذي كان الممثل والمخرج اللبناني المعروف رفيق علي أحمد قد وضع له "زواريب" على المسرح منذ عدة سنوات، وشاءت الصدف أن تعرض منذ أيام فقط ولمرة ثانية في بيروت، يكون الرجل قد أغمض عينيه لكن زواريبه والطرق العريضة التي شقّها وآهاته وحكاياه والحكواتية الذين عشقهم، قد أمن لهم موقعاً في حيواتنا الشقية.
الشرق الأوسط- 22- 12- 2004
***
|
|
|
|
|
|
|
|
|