|
عشان خاطر دكتور حيدر اعيد نشر مقالى عن مستقبل العمل السياسى فى السودان
|
عاتبنى الدكتور حيدر بدوى على التركيز فى الكتابة فى الكورة معتقدا اننى تركت الكتابة فيما يخص الوضع السياسى الراهن
اوجزت رأى فى الوضع السياسى الراهن فى مقال سبق أن نشرته هنا ولكنه لم يجد حقه من النقاش و النقد المثمر لقلة اهتمام القراء فى المنبر بهكذا مواضيع. و ها انا أعيد نشره آملا فى نقاش يفضى لما يفيد
مستقبل العمل السياسى فى السودان بعد التمصير
فى اعقاب انقلاب الجبهة الاسلامية الناجح فى يونيو1989م وتمكنها من استلام السلطة اصاب التوتر الشديد المشهد السياسى فى البلاد والذى كان يحضر نفسه لتغييرات ايجابية تدعم الديمقراطية و تجلب السلام.
الانقلاب قطع الطريق امام كل الاحلام السياسية و اقام وضعا سياسيا جديد حظرت فيه كل الاحزاب و التنظيمات النقابية ومنظمات المجتمع المدنى.
بعد مرور اشهر قليلة على الانقلاب كان المشهد السياسى غاية فى الاضطراب فقدإتلفت الاحزاب السياسية جميعا بما فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان فى ما سمى بالتجمع الوطنى الديمقراطى بشقيه النقابى و الحزبى فى مواجهة السلطة العسكرية الجديدة التى كان يدعمها حزب الجبهة الاسلامية القومية بشقيها المدنى و العسكرى.
المخطط الاول للانقلاب و زعيم الجبهة الاسلامية القومية كان مدركا للمخاطر التى سوف يواجهها نظامه العسكرى الوليد لذلك اعد نفسه وتنظيمه جيدا لمواجههتها لأن الفشل فى استلام السلطة او المحافظة عليها كان يعنى نهاية التنظيم.
الترابى كان يدرك أن الخطر المباشر سوف يأتيه من الجيش ومن ثم النقابات فخدع الجيش بالاتيان بمجلس عسكرى ذو طابع اسلامى ولكن ليس كل اعضائه من حزب الجبهة كما ضم اليه شخصية قوية وغير معروفة بالانتماء للجبهة و فى منصب مرموق نائب رئيس مجلس قيادة الثورة. مارس الترابى الخداع بذهابه للسجن مع بقية رؤساء الاحزاب السياسية . استطاع الترابى ان يخدع الجيش و يدخل قادته فى مغالطات ما عدا العارفين ببواطن السياسة وهؤلاء تم اعتقالهم مباشرة بعد الانقلاب و الباقون طالتهم قوائم الفصل فيما كان التنظيم يعين اعضائه و بسرعة كبيرة خاصة خريجى الجامعات الذين يتلقون تدريبا سريعا و من ثم ينضمون للجيش برتب متوسطة وعالية. رغم هذا لم يسلم الامر من محاولات انقلاب كاد بعضها أن ينجح ولكن فشلها مثل فى فترة مبكرة نهاية الخطر الآتى من القوات المسلحة بسبب حملة الاعدامات الكبرى والتى تلتها اكبر الحملات التطهيرية فى تاريخ الجيش السودانى كما مثل االضباط المنظمون المنضمون حديثا للجيش باعداد كبيرة عيون للسلطة داخل المؤسسة العسكرية التى خضعت تماما بعض مضى اقل من عام على الانقلاب ومن ثم سارت عملية الاحلال والابدال بصورة منتظمة حتى اصبح الجيش فى اغلب قياداته تابعا للتنظيم.
النقابات كانت تمثل تاريخيا الواجهة الجماهيرية للعمل الحزبى النشط فى السودان فالاحزاب من خلال عضويتها فى النقابات استطاعت فى مناسبتين هامتين اشراع سلاح العصيان المدنى فى وجه حكومتين عسكريتين مما ادى الى اسقاطهما.
فى مواجهة النقابات نفذت الحكومة ترتيبات اعدها الترابى بدقة لآفراغ النقابات رأس الرمح فى العمل الجماهيرى من زخمها وقو تها وقدرتها على المقاومة بدأت هذه الترتيبات أولا بحل النقابات.
ساعدت المقاومة التى وجدها الانقلاب من الحركة النقابية واعلانها الاضراب فى نوفمبر 1989م على التسريع بتنفيذ مخطط الترابى للحركة النقابية فبينما استخدمت الحكومة العسكرية قوتها القمعية دون حدود ضد النقابات كان يتم تنفيذ تحويل النقابات الى كائن مدجن وواجهة للسلطة ولم يذهب الترابى بعيدا ايضا فقد طبق التجربة المصرية بحذافيرها الشئ الذى نتج عنه اتحاد عمال عام يضم كل عمال وموظفى الحكومة وغيرها و موالى تماما للسلطة.
فى نفس الوقت لم ينسى الترابى السيطرة على كل مواقع العمل الحساسة فقام بحملات طرد جماعية واحلال كوادر الحزب مكان الكوادر الموجودة محتاطا بذلك لكل عمل يمكن أن يهدد السلطة.
بعدما تم الانتهاء من الخطر االذى تمثله النقابات بمصرنتها اى ترتيب اوضاعها على الطريقة المصرية سعى الترابى ايضا الى تنفيذ الجزء الخاص بمصرنة العمل الحزبى نفسه فهو فى النهاية يريد ان تستب له الامور كرئيس لجمهورية رئاسية قادم بصناديق الاقتراع .
الترابى بادراكه أن المال يمثل عصب العمل السياسى و بدونه لا يمكن لأى عمل سياسى حزبى أن يتم كما لجأت السلطة الحاكمة لضرب كل اشكال الاتثمارات أو الاعمال التجارية التى تشك فى مالكيها فحرمت الاحزاب من مصدر دخل مهم خاصة حزبى الامة والاتحادى فقد فقد معظم التجار الذين ينتمون لهذين الحزبين مواقعهم فى السوق ودخل بعضهم السجون. اما باقى الاحزاب التى تعتمد على التمويل الذاتى بواسطة اشتراكات الاعضاء فإن تدهور الوضع الاقتصادى فى السودان الذى اصاب فى مقتل الطبقة المتوسطة بطرفيها الاعلى و الادنى جعل امر التمويل الذاتى للاحزاب امرا عسيرا جدا بل و مستحيلا فى بعض الاحيان.
تلخيصا استطاعت الحكومة أن تضغط وبشدة على شريان حياة الاحزاب مما افقدها القدرة عمليا على التحرك و بالتالى افقدها دينميتها و هى احد اهم اركان العمل السياسى لأى حزب.
كما لم تضع السلطة جانباا العصا الغليظة التى تستعملها الآن اثناء الضرورة وكانت قد استعملتها بشدة أثناء المرحلة التى تسميها بمرحلة الشرعية الثورية التى تلتها مرحلة التمكين واستيلاء الحاكمين واتباعهم على كل مصادر الثروة فى السودان.
فاصدر قانون التوالى السياسى الشهير فى العام 1998 م الذى سمح بموجبه بانشاء احزاب سياسية بشرط أن يتم تسجيلها لدى الحكومة وكان الترابى يعرف وقتها أن الطريق لمصرنة العمل الحزبى ليس سهلا كمصرنة العمل النقابى وذلك لوجود احزاب كبيرة واخرى لها باع طويل فى العمل السياسى و الجماهيرى ولم تكن تلك الاحزاب قد فقدت زخمها بعد كما أن وجود الحركة الشعبية لتحرير السودان و استعار حرب الجنوب كانا من معوقات التمصير . لذلك عمل الترابى جاهدا على شق التجمع الوطنى الذى كانت الاحزاب مؤتلفة فيه ضد الحكومة فقابل الصادق فى جنيف فى نفس العام و عقد معه البشيربعدها بشهور اتفاق جيبوتى الذى ادى الى عودة السيد الصادق المهدى للخرطوم و خروج حزب الامة من التجمع الوطنى الديمقراطى مما ادى الى اضعافه. بعدها عمدت الحكومة الى تسجيل احزاب صغيرة منشقة عن الاحزاب الام واشراكها فى الحكومة واعطائها مناصب وزارية و مغانم اخرى ليشجع كل ذو مطمع شخصى و يريه ثمرة التوالى و الانضمام للحكومة. الترابى و الذى كان مشغولا بدرجة كبيرة فى احكام السيطرة على المسرح السياسى واعادة ترتيبه كما يريد لم ينتبه لم يجرى حوله من مؤامرات انتهت باقصائه من الحكم فى ديسمبر 1990 م.
بعدها واصل تلاميذه فى نفس الطريق ترغيب المنضمين للحكومة و العمل على شق واضعاف الآخرين. القارئ للوضع السياسى الحالى بالسودان لابد أن يكون قد لاحظ الآتى
1- السيطرة المطلقة للبشير و جماعته على مقاليد الحكم و تهميش دور خصومهم داخل المؤتمر الوطنى. 2- صعف الاحزاب السياسية السودانية المتنامى و اضمحلال دورها فى الحياة السياسية السودانية. 3- الجماعات المسلحة خاصة بدارفور ( ربما تقلق السلطة لكن لا تشكل تهديدا مباشرا لها ) اجنحتها السياسية ايضا ضعيفة. 4- الحركة الشعبية الشريك الخصم بالحكومة ضعف دورها السياسى بسبب اختفاء قائدها التاريخى المفاجئ و ما فرضته عليها المؤتمر الوطنى من صراعات داخل الحركة نفسها و فى الجنوب مع العوامل الذاتية و الصراعات داخل الحركة نفسها .
اذن نجحت السلطة بعد اتفاقية السلام السودانية مع الحركة الشعبية و اتفاق القاهرة مع التجمع الوطنى على انجاز وضع سياسى يشبه الوضع السياسى فى مصر. احزاب سياسية موجودة بالقانون موضوعة بما فيها الكبيرة سابقا تحت السيطرة التامة بحرمانها من مصادر التمويل مع استخدام المال فى استمالتها او استمالة اعضائها و تحقيق انقسامات كبيرة او صغيرة بها تؤثر بالتأكيد على مقدرتها السياسية فتصبح هذه الاحزاب مجرد واجهات ضعيفة لا تعبر عن احد او عن قطاعات صفوية او ضيقة و تمثل نوع من انواع الديكور تماما كما يحدث فى مصر.
الحكومة الآن فى وضع مريح قبل الاتتخابات انجزت فيه اغلب ما عليها من استحقاقات خاصة بها تضمن لها الفوز بنتائجها وو قفت باقى الاحزاب عاجزة عن عمل اى شئ ال سوى مؤتمر جاء فى نهاية توصياته التهديد بمقاطعة الانتخابات وهو تهديد لن يخيف الحكومة لأن لها اسليبها المجربة فى تبديل المواقف والالتفاف على قرار مقاطعة ضعيف كهذا جاء فى زمن ضعف فيه اصلا العمل السياسى وماهو متاح لهذه الاحزاب لا يكفى لأنجاز ادنى التغييرات التى تصبو اليها.
اذا كان المشهد السياسى قاتما فإن المشهد الاقتصادى اكثر سوءا والذى نتج عن سياسات اقتصادية موجهة و متحكمة كانت الاكثر رعونة فى تاريخ السودان الحديث سياسات اضعفت كل قطاعات الانتاج الزراعى و الرعوى و الصناعى ( التقليدى) لحساب قطاع البترول.
ضعف القطاعات المنتجة واضمحللاها ادى الى تفشى البطالة بين المواطنين والى استفحال الهجرة للمدن دون جدوى مقرونة مع غلاء الاسعار كل هذا ادى لأزدياد معدلات الفقر بين المواطنين بدرجة غير مسبوقة درجة وصل معها اهتمام المواطن بما يجرى حوله من الاحداث ضيئلا جدا فى ظل صراعه اليومى لسد رمقه ورمق اطفاله ناهيك عن توفير التعليم واحتياجات الحياة الاخرى من ادوية وخلافه لهم.
إذن تجئ الانتخابات فى زمن لا تستطيع فيه الاحزاب السياسية سوى المؤتمر الوطنى أن تفعل شيئا و فى وضع سياسى واقتصادى عسير يقل فيه اهتمام المواطن بالعمل السياسى بما فى ذلك الانتخابات و بمن تأتى و النتيجة المتوقعة فوز صريح للمؤتمر الوطنى و رئيسه السبل له ممهدة من الآن و الاستعدادات وضعت و الاموال خصصت بما فيها ميزانية الطوارئ والوسائل الاخرى لضمان النتيجة.
رغم أن المشاكل السياسية لا تزال تحاصر الحكومة لكن الحكومة التى تعتمد على رصيد كبير من المناورات و الدهاء السياسى و استعمال كل الطرق للوصول لما تريد لن تهمها هذه المشاكل ولا يهمها مستقبل العمل السياسى فى السودان. ما يهمها هو كما كان من قبل:استمرار السلطة رغم استمرار الحلقة الحاكمة فى الضيق يوما بعد يوم.
كل المؤشرات تذهب لسيطرة تامة لرئيس المؤتمر الوطنى وحزبه على المدى القريب مع اضمحلال و فتور كبير ونفور عن العمل السياسى فى البلاد وسط تردى الوضع الاقتصادى للجماهير بصورة مضطردة مع عزوف الحكومة عن استثمار دخل البترول فى مشاريع مباشرة او غير مباشرة تقيل الفقر وترفع من مستوى حياة الناس وهذه نذر سوء وشر مستطير
|
|
|
|
|
|