|
الاستبداد السياسي وجذر العطالة الفكرية- منبر الحرية
|
الاستبداد السياسي وجذر العطالة الفكرية بقلم نبيل علي صالح * تعاني مجتمعاتنا العربية حالياً من مجموعة أزمات تتصل بملفات شائكة، تنتقل من عام إلى آخر من دون البحث الجدي عن حلول جدية ودائمة لها. وإذا ما أردنا أن نكون أكثر دقة في توصيف المأزق الراهن الذي نعانيه، فإنه يمكننا تحديده في الأمور التالية: 1. تغييب الثقافة النقدية التي يمكن من خلالها تسليط الضوء على مواقع الخلل والاهتراء في جسم الأمة. 2.عدم فهم الناس عندنا لمختلف أنماط وصور ومفاهيم الاستبداد الظاهرة والمخفية. 3. فقدان الإرادة السياسية والكتلة الجماعية (النوعية المؤثرة) التي تهدف إلى إصلاح وتغيير أرضية وقواعد العمل السياسي نفسه، وإلى تكوين تاريخ سياسي وثقافي جديد تتفتح فيه كل ألوان الحياة، وتجف معه كل منابع الاستبداد. وقد أدت تلك العوامل المسيطرة على مجتمعاتنا إلى مسخ هوية الإنسان وتقزيم وجوده المادي والمعنوي، وتدمير الأخلاق العملية، وقتل العلم وخنق الإبداع. الأمر الذي أدى بدوره إلى تأخر نمو تلك المجتمعات قياساً بالمجتمعات المشابهة لها، وليس قياساً بالمجتمعات والدول المتقدمة.. إذاً نحن نقف في مواجهة "أم الأزمات" العربية، والرهانُ على التخلص منها وجوديٌ بامتياز.. إذ هل يعقل –ونحن نعيش في عصر الحريات العامة والحداثة والتطور والانفتاح والثقافات العابرة والمصائر الواحدة- أن تبقى الشعوب العربية بعيدة عن ذلك كله، وعرضةً -على مدار تاريخها السياسي الحديث- لهيمنة أفكار وثقافة الاستبداد والرأي الواحد الذي يختزل الأمة كلها في شخص الحاكم المتفرد؟!!.. وللوقوف على الأسباب التي أدت إلى تركيز فكرة الاستبداد في الواقع العربي الحديث، ومن ثم وعي الأساليب التي يمكن من خلالها تعرية وكشف أسسها وركائزها، لا بد من معرفة عوامل بقاء ومظاهر استمرارية الاستبداد التي يتم اللجوء إليها بهدف إعادة إنتاجها باستمرار في مجتمعاتنا.. مع العلم أن لاستمرارية الاستبداد حالياً خلفية ثقافية تاريخية قديمة تمتد على طول مسيرة هذه الأمة منذ بدايات الدعوة الإسلامية، وانفجار الخلافات والانقسامات السياسية والفكرية الأفقية والعمودية في جسم الأمة التي كانت تشتد وتائرها وتضعف بحسب الوقود المستخدم هنا وهناك.. ولكننا بالإجمال العام لن نتطرق إلى هذه الخلفية في هذا المقال المقتضب على أن نعود إلى معالجته في دراسات ومقالات لاحقة.. ولكننا الآن سنحاول فهم العوامل المهيأة لنمو بذور الاستبداد في اجتماعنا الديني العربي و الإسلامي حالياً، وهي: 1. عدم قناعة النخب الحاكمة في مجتمعاتنا أصلاً بفكرة التغيير السلمي والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. حيث أنه من المعروف أن الأصل في الدولة أن تكون محايدة ومستقلة كرابطة مدنية تحترم استقلالية الفرد الحر المتساوي مع غيره، والقادر على تسيير أموره بنفسه، وتحديد أهدافه العليا بإرادته. وأن الحكومات يجب أن تخضع للمراقبة والمساءلة، وأن الحكام بدورهم يجب أن يخضعوا للقانون والمحاسبة المستمرة، وأن الأمة هي مصدر السلطات (وهي ولية على نفسها) وليس الفرد الحاكم بمزاجه وجشعه وتكالبه على الكرسي والسلطة والثروة. 2. العمل على تفتيت وإذابة ما تبقى من علاقات اجتماعية إيجابية قائمة بين الناس، كالعلاقات الأسرية، وعلاقات التآلف والتعاضد والتعاون والتكافل الاجتماعي التي قدمتها مختلف الثقافات والحضارات والأديان للإنسان، وحضته على تعزيزها وترسيخها في أنظمة سلوكه الفردي والاجتماعي. 3. وجود إعلام رسمي كثيف دعائي وغوغائي (وحالياً غير رسمي، إذ أصبحت كثير من وسائل إعلامنا العربية الخاصة مرتبطة بهذه الجهة أو تلك) تنحصر مهمته الرئيسية في التطبيل والتزمير لنخب الحكم، والتعبئة لأفكارهم وقناعاتهم، وتزييف عقول الناس وحجب الحقائق عنهم، وتسمية الأسماء بغير مسمياتها الحقيقية... 4. التضييق على الأحزاب وباقي مؤسسات وبنى المجتمع الأهلي والمدني (وأحياناً إلغاؤها بالكامل) التي يفترض أن تكون شبه مستقلة عن الدولة. والعمل على استبدالها بعلاقات مصلحية انتهازية لا يمكن أن تقود إلا إلى تعميق النوازع الفردية الأنانية على حساب مصلحة الجماعة والمجتمع.. 5. تمييع وتغييب القوانين والمؤسسات السياسية والاقتصادية كلها، وتبديلها عملياً بقانون واحد هو قانون الاستثناء والطوارئ الذي يقوم على قاعدة سوفياتية قديمة وهي: "يجب أن يفسد من لم يفسد بعد ليكون الجميع مداناً تحت الطلب"، وبخاصة إفساد الجهاز القضائي والتعليمي التربوي. 6. إن نظام الاستبداد ينصّب من نفسه وصياً على مصالح الناس والأوطان، ويقدم لهم نموذجه الفريد في الوطنية وخدمة المجتمع وهذا النموذج هو الولاء الأعمى والطاعة الكاملة للحاكم الفرد، بحيث يتمكن دائماً من سحق وتفتيت بذور الحرية والتعددية السياسية، بدعوى أنها تهدد أمن المجتمع وتضعفه في مواجهة قوى الخارج التي تريد نهب أوطاننا وغزو بلداننا وانتهاك كراماتنا ومقدساتنا.. وفي محصلة إجمالية لما آلت إليه النتائج المباشرة لتطبيق تلك السياسات الاستبدادية في مجتمعاتنا العربية، فقد وجدنا أنفسنا جميعاً أمام واقع مدمر ومحطم نفسياً ومادياً (عنف رمزي وعضوي)، وانتقالات سريعة من أزمات إلى أخرى، مما قاد إلى ما نحن عليه اليوم من انسداد كل أفق ممكن لإيجاد حلول ومعالجات ناجعة. خصوصاً وأن الوقت يمضي مسرعاً، ولا يرحم ولا ينتظر أحداً، وهو ليس في مصلحة القاعدين والمتقاعسين والمنهمكين في حرتقات وهلوسات داخلية هنا وهناك تشتت القوى وتبعثر الطاقات وتبددها عن الهدف الكبير.. وحتى الآن ليس معلوماً متى سينطلق العرب والمسلمون بجدية شاملة نحو الإصلاح الكلي الشامل المرتكز على مشروع نهضوي حقيقي قبل فوات الأوان، وقبل أن يواجهوا أوضاعاً أكثر سوءاً من الأوضاع السيئة والمزرية التي يعيشونها حالياً قد يتعرضوا من خلالها لخطر الانقراض الفردي والمجتمعي، إذا لم يستدركوا ويقف بقوة لمعالجة مهمات ثقيلة بانتظار مجتمعاتهم وشعوبهم، تنوء تحت حملها الجبال كما يقال، وهي: •ملف بناء الدولة من الداخل قبل الحديث عن الخارج ومخططاته ومؤامراته. أي تفعيل التغيير السياسي المتمحور حول إعادة السياسة وإدارة الشأن العام إلى حضن المجتمع، وتمكين الشعوب من المشاركة المنتجة في صناعة قراراتها وتقرير مصيرها وصناعة وجودها. • ملف الانقسامات الداخلية بين الدول العربية. •النزاعات المتفجرة في الداخل بين الدول والشعوب. • ملف الأمن الإقليمي وأمن كل شعب من شعوب المنطقة •ملف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. ولا شك أن هذه المسؤوليات الكبيرة تتطلب قيادات نوعية أخلاقية مضحية ومؤمنة عملاً لا قولاً بمسؤولياتها، تعمل بوحي مبادئ وقيم وغايات إنسانية لا مصلحية نفعية. وهذا التاريخ كله يشهد على أنه لم تنطلق أمة أو شعب من سباته من دون وجود مثل هذه الطبقة القيادية المضحية والمنكرة لذاتها في سبيل بناء الصالح العام والحفاظ عليه وتطويره. والأمر الذي تنعقد عليه الآمال –في هذا المجال- يكمن في دفع القوى الحية والجماهير الواسعة (صاحبة المصلحة الحقيقية في الإصلاح والتغيير السلمي الديمقراطي) إلى أن تؤمن بأن الهدف الكبير دونه أثمان وتكاليف وتضحيات جسام.. وما أعنيه هنا هو ثمن الحرية حتماً. ------------------------------------------------------------------ هذا المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org. *نبيل علي صالح كاتب و باحث من سوريا.
|
|
|
|
|
|