|
صراع الرؤى .. نزاع الهويات في السودان .. (Re: احمد ضحية)
|
صراع الرؤى .. نزاع الهويات في السودان ..
المؤلف : دكتور فرنسيس دينق المترجم : دكتور عوض حسن اسم الكتاب في الإنجليزية : war of visions : conflict of identities in the sudan " الناشر : the brookings institution, washington D.C.1995. الناشر : مركز الدراسات السودانية " طبعة ثانية معتمدة 2001 " . عرض : احمد ضحية .
تمهيد :
منذ أن صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى ( سبتمبر عن مركز الدراسات السودانية 1998- التي تم سحبها لاشتمالها على أخطاء في الترجمة ) وحتى إعادة طباعته منقحا في 1999 و2001 , ظل يثير كثير من الأسئلة , على مدى واسع النطاق داخل السودان وخارجه . إذ اشتعل منهج الكتاب في البحث في احد أكثر الأسئلة حرقا في السودان : سؤال الهوية . باعتباره أس الصراع في السودان والمحور المفصلي للازمة الوطنية الشاملة . وكما أشار دكتور دينق في تقديمه لهذا الكتاب , إن نزاع الهوية يحدث في إطار الدولة عندما تتمرد مجموعات , أو بمعنى أدق عندما يتمرد مثقفوها ضد ما يرونه اضطهادا غير محتمل , تمارسه المجموعات المهيمنة , ويتم التعبير عنه بعدم الاعتراف , والأبعاد عن مجريات الأحداث والتهميش , وربما يعبر عنه أيضا بالتهديد بالتدمير الثقافي , أو حتى بالتصفية الجسدية . وبالاستنتاج _ كما أتصور _ لا يقتصر هذا الكتاب على تفسير ألازمة التاريخية بين الشمال والجنوب , بل يتعدى ذلك إلى ألازمة الراهنة في دار فور . يبقى أيضا أن نعرف أن هذا البحث الضخم , في صراع الرؤى , يأخذ أهميته أيضا من كون أن كاتبه هو دكتور فرنسيس دينتق , من أبناء قبيلة الدينكا , والذي يعمل كزميل رفيع بمعهد بروكنز بواشنطن .
خلفية :
دكتور دينق في الفصل الأول ( من القسم الأول من هذا الكتاب )يقوم بعرض عام للنزاع الذي أدى إلى انقسام السودان إلى شمال وجنوب , من خلال نقضه لبعض المفاهيم الزرائعية , التي ظل علماء التاريخ يتحججون بها ( لا شمال بدون جنوب ) , مستعيدا الجذور العملية التاريخية التي أدت إلى تكوين الشمال العربي المسلم , والجنوب الافريقى ومن خلال عرضه للتأثيرات الثقافية بين السودان والشرق الأوسط , التي تعود لآلاف السنوات قبل الميلاد مرورا بالغزو التركي المصري والدولة المهدية والاستعمار الثنائي ( الانجليزى المصري ) وصولا إلى اندلاع حرب الرؤى بين الشمال والجنوب في أغسطس 1955. اى قبل أربعة اشهر فقط من إعلان الاستقلال , في يناير 1956 . من خلال هذه الخلفية يتوصل المؤلف إلى نتائج أساسية تفسر صراع الرؤى . منها اعتبار السودان قطرا عربيا , الشيء الذي تداعياته على نظام التعليم والبرامج الثقافية والعلاقات الخارجية . ففي هذا السياق تبلور سودان ما بعد الاستقلال . بين السودانيين غير العرب , ممثلين في الحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها . وبين العرب المسلمين , ممثلين في الأنظمة المتعاقبة على الحكم في الخرطوم منذ استئناف الحرب في 1983 , اثر خرق نميرى لاتفاقية أديس أبابا 1973 من جانب واحد , ما فاقم أزمة الهوية وعاظم الحرب , ليؤدى ذلك بالنتيجة إلى بروز اتجاهان عقائديان : الأصولية الإسلامية والاتجاه الراديكالي في كل من الشمال والجنوب .
اعتبارات سياسية :
هناك عدة مداخل سياسية بديلة تطرح نفسها منبثقة من هذه الخلفية , لنزاع ألهويات بين الشمال والجنوب . احد هذه المداخل يفترض أن الهدف المقدم هو الوحدة الوطنية , وبعدها يتم البناء على العناصر , التي يمكن أن تحقق ذلك . ويتمثل العامل الرئيسي لهذا التوجه , في الحجة التي تؤكد بان التكوين الجينى للبلاد لا بقدم اى سند لادعاءات النقاء العرقي والثقافي ناهيك عن التفوق , ويعود ذلك إلى وجود عنصر افريقى مؤثر في الشمال يربط السكان بالمجموعات غير العربية داخل الشمال والجنوب ولهذا فان الهوية الأفريقية تقدم القاسم المشترك , الذي يمكن أن تقوم على أساسه هوية وطنية موحدة . ويمضى دكتور فرنسيس دينق بالقول : أن الرسالة التي تحتويها هذه الحجة , تعبر عن حقيقة مرة يصعب تقبلها من قبل الذين التزموا بالهوية العربية . فهي تعنى في الأساس تذكير الشماليين بان ما ظلوا يحملونه من مفاهيم الهوية العربية ماهو ألا وهم وخيال , وأنها ادعاءات تفتقر إلى السند الوراثى والتاريخي . وأدت إلى انقسام البلاد بصورة يصعب احتمالها . ويمضى دينق في تحليل الحجة الثانية , بأنها تبين بان هويتي الشمال والجنوب ظلتا تتطوران لتعبرا عن مفهومين ذاتيين متناقضين بحدة , في العرق والثقافة والدين . إضافة إلى ذلك يختلف الجنوب والشمال في مستوى المعيشة , وهناك تفاوت في النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي , فالشعور بالعزة والكرامة في الشمال لدى السودانيين العرب المكتسب من نظرتهم الذاتية يقف حائلا دون التخلص من ادعاء انتمائهم العربي , للارتباط بهويتهم الأفريقية التي أسقطوها منذ أمد طويل . ويؤكد دينق أن الدين بالنسبة للسودانيين الشماليين يعد ستارا وقناعا لسياسة الهيمنة العرقية . وعليه فان تحقيق الوحدة الوطنية على الأسس الأفريقية سيكون ثمنه غال جدا . ويتوقف دينق عند فشل الشمال والجنوب في التوصل إلى اتفاق حول هوية مشتركة وشاملة . إذ يقول أن ذلك شكل جزء هاما من النزاع . في خطاب جون قرنق في اجتماع كوكادام مارس 1986قال: أن قضيتنا الرئيسية تتمثل في أن السودان ظل ولا يزال يبحث عن هويته الحقيقية , وعند فشلهم يلجا السودانيون إلى العروبة , وعند فشلهم في ذلك يلجاون إلى الإسلام كعامل للوحدة . ويصيب الإحباط الآخرين لأنهم فشلوا في فهم تحولهم إلى عرب , بينما أراد الخالق لهم غير ذلك . ولهذا يلجاون إلى الانفصال . ينطوي هذا الوضع على الكثير من الغموض والتحريف , مما يخدم المصالح الطائفي المتباينة . وحسب رموز شفرة القاموس السياسي الشمالي الجنوبي يمكن فهم كلمات قرنق على إنها دعوة للفرقة البلاد . ورغم أن نظرته شاملة وجامعة نظريا , إلا انه يمكن وصفها بأنها نظرة جنوبية .
صراع ألهويات :
في الوقت الراهن يبدو السودان في مفترق طرق حرج بين الأصولية والصحوة الإسلامية في الشمال وبين مفهوم حديث لدولة مدنية ديموقراطية علمانية في الجنوب . وكما أشار احد الأكاديميين الإسلاميين السودانيين حديثا : " أن ما نشهده يعبر عن نزاع بين نظرتين ثقافيتين متعاديتين , تعيش كل منهما مرحلة بعث وصحوة جديدة , ويعد تبنى الثقافة الغربية كعامل ديناميكي خارجي يقدم المثل والسند المادي والثقافي للقوى المعارضة للإسلاميين , تطورا حديثا , وبالرغم من انم ذلك لم يكن غائبا تماما منذ بدايات " الصحوة الإسلامية " إلا أن التأثير الغربي يعتبر ألان عاملا مهما , خاصة لتكامله مع قوى داخلية متطورة جدا ." . يتناول دكتور فرنسيس دينق في القسم الثاني من هذا الكتاب التطور الذي شهدته هذه ألهويات المتصارعة . الهوية الشمالية التي لعبت دور الاستيعاب للهويات الأخرى . عبر اليتى الاستعراب والاسلمة , عبر مراحل تاريخ السودان المختلفة . والهوية الجنوبية التي ظلت تلعب دور المقاومة لهذا الاستيعاب منذ الفترة السابقة على الاستعمار الثنائي . وفى القسم الرابع من هذا الكتاب , يكرس دكتور دينق منهجه للبحث حول عن الأمة . متناولا نشأة وتطور الهوية الوطنية المنقسمة , خلال تتبعه للحركة الوطنية منذ بواكير ها والدور الذي لعبته فى هذا المجال . الى جانب حركة الاستقلال والتقليد الطائفي ومشروع التحديث والمسيرة المنقسمة نحو الاستقلال . ما أدى بالنتيجة بعد الاستقلال في 1956 إلى الهيمنة الشمالية أو ما أطلق عليه دينق عودة الاستعمار . الأمر الذي ترتب عليه مقاومة الجنوب لهذه الهيمنة بتصاعد موجات العنف في الجنوب , خاصة من جانب العسكريين ضد السكان المدنيين متناولا بالشرح والتحليل مسيرة اتفاق أديس أبابا 73 , " اتفاق السلام التكتيكى – كما وصفه " وما آل إليه هذا الاتفاق من انهيار في 83 والنتائج التي ترتبت على ذلك .
الاستقطاب :
يقول دكتور دينق : بينما كان ينظر إلى اتفاقية أديس أبابا , على إنها عامل للسلام والوحدة , دعمت ترتيبا سياسيا عادلا متسعا للجميع , رأت بعض المجموعات مواصلة المعارضة واعتبرت الأقسام اليمينية العربية الإسلامية الاتفاقية انتصارا لأعدائها من المسيحيين الجنوبيين والعلمانيين ودكتاتورية جعفر نميرى . وكان هناك بعض الجنوبيين ممن رأوا الاتفاقية بمثابة استسلام واختاروا البقاء خارج التسوية . أشار محمد بشير حامد إلى رد فعل الجانبين معلقا " رغما عن التنازلات الهامة من جانب الأحزاب الشمالية , لم يكن هناك سوى القليل من الأرضية المشتركة . قدم الشماليين نوعا من تفويض السلطة الاقليمى , لكنهم لم يقتربوا من الفدرالية , وبينما قبل الجنوبيون بالسودان الموحد , أرادوا أكثر أنواع الكونفدرالية اتساعا " . ويتتبع المؤلف في هذا الفصل مسيرة التوتر في العلاقات بين الشمال والجنوب بعد الاتفاقية منذ لحظة احتضان النميرى للمحافظين الشماليين وتحالفه مع الأخوان المسلمين , شارحا معضلات الهيمنة الشمالية بسبب سياسات وأفعال الحكومة المركزية . ومع الازدواجية بين تأجيج الحرب مع الرغبة في السلم أو التمسك بمبدأ الوحدة الوطنية مع التفكير في الانفصال كخيار , مع هذه الازدواجية التي تنبع من أجندة خفية ترتبط بدورها بتلك الانشقاقات التي تدعو إلى تقسيم البلاد , ونظرة الأحزاب إلى الانقسامات , وما يبدو من اقتناعها بأنه لا يمكن رأبها , وان أمكن نقاشها يستحيل حلها . مع هذه الازدواجية كانت الهوية الجنوبية في سياق أخر تتخلق وتنشا .
عناصر نظام القيم المحلية :
يشرح المؤلف في هذا الفصل عن نشأة الهوية الجنوبية , عناصر نظام القيم المحلية , باعتبارها من الموضوعات المحورية التي يؤكد عليها الناس أنفسهم , والتي شغلت اهتمام علماء الأجناس , حيث تبرز الجوانب التالية : (1) السعي من اجل هوية ونفوذ دائمين , من خلال التواصل الوراثى وتسلسل الأسلاف والأجيال . (2) وحدة وتجانس المجتمعات كما يتم التعبير عنها في مفاهيم – العلاقات الإنسانية . (3) مبادىء الكرامة والعزة الفردية والجماعية . ويظل النيليون من الدينكا والنوير وأقربائهم من بين اقل القبائل تأثرا بعمليات التحديث والتنمية في أفريقيا , ويعبرون بذلك عن تلك القيم . ساعد التداخل الحميم بين المعتقدات الدينية للنيليين وبين كل مناحي الحياة الأخرى في توضيح القيم الأساسية الدائمة لهوية ونفوذ مجتمع النيلين . ويكاد يكون دور المعتقدات التقليدية في الانتشار والتغلغل مشابها للنظام الاسلامى , ويكمن الفرق في انه , بينما الإسلام مركزي وشامل , تتبع معتقدات النيليين وممارساتها نظاما وراثيا مجزأ مبنيا على الوحدات الإقليمية الذاتية وعلى الوحدات الو راثية العشائرية . ويوفر ذلك الصلة الذاتية والشخصية مع الإله عبر أرواح السلف , مما يسمح بقدر من التعايش الديني والحرية الدينية والتعددية وقد سمحت المرونة الكامنة في تلك القيم للنيلين في الماضي بتبني جوانب من الأديان والثقافات الوافدة بصورة انتقائية . تقبلوا حديثا التبشير المسيحي , كعامل مرتبط بالتعليم والتطور , واعتنقوا المسيحية لتكاملها مع قيمهم الروحية والثقافية الأخلاقية المحلية . وكان التغيير بالنسبة لهم بهذا عملية تبنى وتأقلم مع العناصر المرغوبة , وليس تغييرا جذريا متكاملا للمجتمع . والمواقف التي تم تقييمها على إنها مقاومة للتغيير , تمثل بذلك عملية انتقاء تؤكد على الاستمرارية مع توافقها مع التغيير ومقاومتها للتغيرات الجذرية التي تقوض النظام . إن الاستمرارية في التواصل بين الأجيال لها روابط عاطفية عميقة بموروث السلف , ولكنها قادرة على التكيف مع المتغيرات . أكد الزعيم ارول كاكوك زعيم دينكا جوك , الذي في أواخر السبعينيات من عمره , معلقا على هذه القيم قائلا : " الإله هو الذي يغير العالم بإعطائه الأجيال المتعاقبة أدوارها . وكمثال لذلك فان أسلافنا الذين اختفوا عن حياتنا ألان , امسكوا بتلابيب حياتهم .. ثم غير الإله الأشياء .. إلى أن وصلتنا وسوف يستمر التغيير . عندما يقرر الإله تغيير حياتك فان ذلك سيتم عن طريقك وزوجتك . سوف تنامان معا لتلدان طفلا . عندما يحدث ذلك عليك أن تدرك بان الإله قد أودع في أطفالك , الذين حملتهم زوجتك , الأشياء التي عشتها في حياتك ." . لاحظ افانز بريتكارد أسلوب النوير لحل نزاعاتهم " والعناصر الخمسة الهامة لحل اى نزاع من ذلك النوع بالمفاوضات المباشرة , عبر زعيم تبدو بأنها : - (1) رغبة المتنازعين لحل نزاعهم . (2) مكانة وقدر شخصية الزعيم ودوره التقليدي في الوساطة . (3) النقاش الكامل الحر الذي يقود إلى قدر كبير من الاتفاق بين كل الحاضرين . (4) الشعور بان الشخص يمكن أن يتنازل تقديرا للزعيم والكبار دون انتقاص لكبريائه في الوقت الذي لا يبدى فيه ذلك لخصمه . (5) اعتراف المهزوم بعدالة قضية الطرف الأخر . أن عملية توسط الزعيم بين الأفراد والجماعات مستغلا في الغالب أساليب الإقناع , ظلت مظهرا للمسئولية التي تحتضن الجميع من اجل هذا العالم الثنائي , عالم الإنسان والأرواح . ولكن بمعايير السلطة السياسية والحكم , لم تكن تلك الأساليب اقل أهمية من استعمال القوة . ويمضى دكتور دينق في تتبع تداعيات نظام القيم بما هي إعطاء قضايا الدين الأبدية بعدا دنيويا يجعل الناس شديدي التدين . ويعتقد الدينكا انه إذا أخفى الناس الخصال السيئة فبطريقة ما الإله سيكشفها .ولدى النيليين إحساس ذاتي بعزة النفس تمنعهم فرض النظرة العرقية على الآخرين وعدم قبول فرضها عليهم . والتداعي الأخر الذي نفس الأهمية لنظام التجزئة القائم على النسب هو الشعور العميق بالاستقلالية . كما أن هم – النيليين – يعطون أهمية كبيرة لمفهوم القيادة . إلى درجة تقارب القداسة الروحية المرتبطة بموروث السلف . ويمضى المؤلف في شرح حدود النظام الاجتماعي , كما يتناول المسيحية والثقافة الغربية . باعتبار أن السياسات الإنجليزية شجعت الهوية الجنوبية القائمة على النظام التقليدي وتأثير النفوذ الحديث للمسيحية والثقافة الغربية , الخ .. كما يتتبع دور التعليم والوعي وما ترتب عليه من سعى جاد للخلاص إلى جانب الديناميكية العسكرية خلال الاضمحلال المتزايد لنظام مجموعات العمر – الجنوبي الذي صاحب انهيار المجتمع التقليدي .. ومع تحضر المجتمعات الريفية , كان على الشباب أن يختار بين التمرد أو الهجرة من اجل العمل في الحضر . مستعرضا ضمور الساحة السياسية الحديثة قائلا : في مثل هذا الوضع أصبح إحياء واستغلال تقليد مقاتلي القبيلة لأغراض عسكرية واضحا ومدمرا .
الانقسامات الراهنة داخل الجنوب :
ربما أكثر الجوانب وضوحا في النزاعات داخل الحركة الشعبية , والتي لا تثار حولها خلافات تذكر , يتمثل في أهداف الحركة . أن الهدف المعلن للتيار الرئيسي للحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها , هو تحرير كلب البلاد من كافة أنواع التمييز القائم على العرق , الدين . الثقافة . اللغة أو الجنس . والهدف المعلن لتمرد أكول –مشار – كونق -. هو الانفصال للجنوبي . ديموقراطية الحركة الشعبية لتحرير السودان , مع احترام حقوق الإنسان داخل الحركة . النظرة الفاحصة تكشف عن وضع أكثر تعقيدا , أملته تظلمات وطموحات شخصية ظلت تعتمل لفترة طويلة من الزمن . ومنذ انقسام هؤلاء عن الحركة الشعبية أخذت الانقسامات داخل الجنوب تأخذ في الاتساع والتفشي إذ انقسم وليام نون وكاربينو كوانين وغيرهم . يعترف القادة الجنوبيون , كما يجب أن يكون لام أكول قد أدرك أيضا , بان الانفصال لا يمكن تحقيقه بطلب من السلطة المتحكمة لتمنحه تكرما . ويعتقد التيار الرئيسي للحركة بأنه يتحقق فقط إذا فرضته ظروف المعادلة العسكرية , وانه لمن الخطأ الافتراض بان الجنوبيين بمن فيهم قادة الحركة الشعبية وجيشها قد تخلوا عن خيار الانفصال . وفى هذا الصدد توضح قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها , باستمرار بان لدى كل من الداعين للانفصال والذين يرغبون في سودان جديد هدفا مشتركا , لان الاطروحات الوطنية تتضمن بشكل تلقائي التطلعات المحلية . السودان المتحرر يعنى بالتالي الجنوب المتحرر , ولكن , إذا كان الانفصال هو الهدف فان القتال من اجل سودان جديد ديموقراطي وعادل سوف يحقق دعما إقليميا أعظم من دعم القتال من اجل الانفصال . والانفصال كهدف سوف يستفيد بهذا من حركة النضال من اجل العدالة داخل إطار الوحدة . وإذا ما حدث وفشل الهدف النهائي لخلق سودان جديد , فان الهدف الاقليمى لتحرير الجنوب , سوف يكون تحقيقه ممكنا وبطريقة عملية من خلال ذلك النضال .
التحدي الجنوبي للأمة :
إن دعم وترسيخ نظام القيم الثقافية التقليدي للجنوب , بواسطة قوى التحديث . قد أعطى الجنوب نموذجا منافسا للأمة . ويمكن القول بان هذا النموذج يعد أكثر قابلية للصمود والاستمرارية مقارنا بالنموذج المقترح من جانب الأصوليين في الشمال , لأنه . وبالتحديد أكثر اتساقا مع المفهوم العلماني للدولة الحديثة في الإطار العالمي المتداخل .ومع ذلك فان نموذج الحركة الشعبية المقترح يتعثر لصلته بالجنوب الذي تحده الإقليمية , بالرغم من أن النموذج يكسب أرضيته في أفريقيا السوداء . للنموذج الشمالي تميز مكتسب من حقائق الواقع السياسي على المستوى القومي , مع دعم العالم العربي الاسلامى له , بالرغم من انه يميل إلى عزل أفريقيا السوداء . القوة القومية للنموذج العربي الاسلامى تفسر سبب فشل الحكومات التي أعقبت نميرى في إلغاء قوانين سبتمبر 83 سيئة السمعة التي تم ترسيخها بجهود الحكومة الراهنة ليصبح حكم الشريعة كاملا . ومع هذا فان الحركة الشعبية التي تمثل انصهارا لعناصر من التقليد والحداثة تشكل التحدي لدعاة النموذج العربي الاسلامى . يتناول دكتور فرنسيس دينق في القسم الرابع من هذا الكتاب الشمال والجنوب كعالم مصغر . متناولا علاقة دينكا الانقوك الجنوبيين بالحمر الشماليين و إطار التعايش بينهما , والأسس التي نهض فيها هذا التعايش . منتقلا إلى القوانين التي تحكم القبائل المختلفة في الجنوب والشمال عبر مراحل التاريخ المختلفة , منذ ما يسبق الحكم التركي ومرورا بالمهدية والحكم الثنائي , محاولا شرح أسباب تبنى ألهويات الداعية للفرقة . وتوحد هذه ألهويات المثيرة للفرقة . كما حدث في منطقة دينكا الانقوك وجيرانهم من العرب . ومن ثم يتناول بالشرح والتحليل مسيرة السعي للحكم الذاتي في منطقة ابيى ووضعها كمنطقة متنازعة بين الشمال والجنوب . ويمضى دكتور دينق قائلا : تحولت بؤرة الاهتمام بالا نقوك من المحلية إلى المحافل القومية والدولية . برغم أن الحرب الأهلية دمرت منطقة ابيى , واصلت عائلة الزعيم دينق مجوك عبء تحمل القيادة المحلية , وظلت تسعى لإقامة تفاهم بين المجموعات التي كان عليها أن تتعايش , بصرف النظر عما ألت إليه السياسات على الصعيد القومي . ويؤكد انه يمكن تلخيص الدروس التي يقدمها وضع ابيى للأمة والأهمية المحورية لعامل الهوية فى عدة نقاط : (1) يعتبر وضع الانقوك والحمر نموذجا مصغرا للوضع بين الشمال والجنوب , لان الانقسام يرجع أساسا إلى عامل الهوية الذي يفرق السكان إلى عرب وإفريقيين , وما تثيره هذه القضية من مشاكل ناتجة عن هذا التميز . (2) في هذه الازدواجية ظلت الهوية العربية مهيمنة كقوة خارجية مشابهة للسيطرة الاستعمارية . (3) لم يكن المهيمن والمهيمن عليه متشابهين في تكوينهما فحسب , بل كان كل منهما يؤثر في الآخر , ويعتمد عليه . بينما كان تأثير الجنوب على الانقوك اكبر من تأثيرهم عليه , ظلت الأزمة المستعرة في منطقة الانقوك تلقى بظلالها على الجنوب . (4) بينما كان استئناف العداوات في الجنوب نتيجة لتطورات النزاع بين الشمال والجنوب , إلا انه كان وبدرجة ما , متأثرا بالوضع المتأزم في منطقة ابيى . (5) أصبح الاتفاق السائد في الجنوب , وبالقطع وسط الدينكا , بأنه لايمكن تحقيق سلام دائم بين الشمال والجنوب دون الأخذ في الاعتبار وضع دينكا الانقوك . (6) تجب الموازنة عند حل النزاع بين انتماء دينكا الانقوك للجنوب وبين الاعتماد العملي المادي والاقتصادي للقبائل العربية على المرعى ومصادر المياه في ارض الانقوك , التي لا تمكن الحياة بدونها . (7) يتوقف تحقيق السلام على مقدرة الحكم السياسي الذاتي ( في سودان موحد أو منفصل ) المدعوم بترتيبات اقتصادية , في أن يسمح بالتبادل المشترك الحر وتقاسم الموارد الحيوية عبر الحدود السياسية
دينكا الانقوك :
وأخيرا : وبصرف النظر عن تفاصيل الترتيبات الخاصة بالمشاركة في الموارد الحيوية , يبقى الانقوك جنوبيين في المقام الأول , ويجب أن ينظر لمقدرتهم على التوسط بين الشمال والجنوب داخل هذا الإطار . ويركز المؤلف في القسم الخامس من هذا البحث القيم والضخم على البعد الخارجي ومعضلات الصلات الخارجية من خلال تتبع مسيرة العروبة والإسلام في الفكر السياسي الشمالي , حيث يتوقف عند محطات بارزة 1967واديس أبابا وكامب ديفيد , الخ .. متتبعا أيضا التحولات في المواقف الداخلية على عهد جعفر نميرى خاصة بعد الانقلاب اليميني في 1976ومن خلال موروث ثورة مايو يخلص المؤلف إلى : انه من الواضح أن الربط بين الرموز المحلية للهوية والعلاقات الخارجية يمكن أن يكون داعيا للفرقة وسلبيا أو داعيا للوحدة وبناء . ويكشف معظم تاريخ العلاقات بين الشمال والجنوب عن صلة سلبية انقسامية . .. ولكي تتمكن البلاد مرة أخرى من أن تحقق وتحافظ على وتحسن ما تم التوصل إليه في العهد الذهبي , لابد من الاعتماد على إمكانيات الحل العادل للنزاع الشمالي – الجنوبي الذي اتسع وانتشر ليشمل مناطق أخرى مهمشة غير عربية في الشمال – برغم قيادة الجبهة الإسلامية والحكم العسكري الراهن للبشير – لا يزال ذلك الالتزام متمتعا بقاعدة عريضة , مما يجعل إمكانيات عقد تصالح مماثل بين الشمال والجنوب يبدو حقيقة , أمرا بعيد المنال . ويبقى السؤال الحقيقي عن الكيفية التي سوف يفسر بها هذا الجمود نفسه إقليميا وعالميا والوسائل التي سوف تتحدد بها طرق الدعم أو التحكيم بين الهويات المتنازعة . ناتى إلى آخر أقسام هذا الكتاب الغنى بالمعرفة , القسم السادس .. ويكرسه دكتور دينق لواقع الأزمة بدء من حدود الهوية وتصورات ألازمة حيث يخلص إلى نتائج ما توصل إليه :
خلاصة الرؤى :
تنبع أزمة الهوية الوطنية في السودان , من حقيقة أن السودانيين الشماليين العرب – المهيمنين سياسيا واقتصاديا , رغم أنهم ينحدرون من تلا قح عربي – افريقى , ويشكلون الأقلية بالنسبة لمجموع سكان البلاد – يرون أنفسهم عربا في المقام الأول , يتبراون من العنصر الافريقى فيهم , ويسعون إلى فرض هويتهم على كل أرجاء البلاد , ليشمل المجموعات غير العربية في الشمال وكل سكان الجنوب , الذين يشكلون معا في مجموعهم الأغلبية القومية الساحقة . ولهذا تسعى الأقلية العربية الحاكمة لتعريف الشخصية الوطنية على أسس توجهات نظرتها الذاتية , التي تعتبر نفسها تحريف وتشويه لهويتها المركبة الناتجة عن عرق عربي – افريقى مختلط , ويبدو عنصرها الافريقى أكثر سفورا برغم الحرص الشديد على إنكاره . تتمثل البدائل المقترحة بشكل عام لحل أزمة الهوية , في التكامل على أسس الاستيعاب والتعايش داخل إطار للوحدة يحتضن التنوع . بينما يعد الشمال نتاجا للاستيعاب الافريقى – العربي وبينما يسعى الشمال بعزم دائم لبسط هذه العملية على الجنوب , يؤكد وجود هذه الازدواجية المواجهة العدائية التاريخية التي تمكن الجنوب خلالها من مقاومة استيعابه بواسطة الشمال بنجاح حتى الآن . وبالرغم من أن الجانبين تأثرا بالتبادل الثقافي , الذي يبدو أكثر وضوحا في الشمال عنه في الجنوب , إلا أن التاريخ المرير لم يترك لهما اى رؤية تجاه اى شيء مشترك , سوى رؤية نزاعهم بمنظار يعكس الاحتقار المتبادل . يعد انقسام البلاد إلى هوياتها الأفريقية والعربية نتاجا للاستعراب والاسلمة في الشمال من جانب , وللمقاومة الأفريقية ضد فرض وجهة النظر الشمالية من جانب آخر . يجب رؤية كل من " ثورة الإنقاذ الوطني " وحليفتها الجبهة الإسلامية القومية , والحركة الشعبية لتحرير السودان على أنهما يمثلان الذروة لعملية مرت عبر ثلاثة مراحل : تقليدية , انتقالية وحديثة . تنبع العقبات أمام حل النزاع من الموضوعات الواردة في تحليل القضايا ومن نشؤ وتطور الرؤى المتصارعة الآن حول تلك القضايا . بينما يبرز النزاع في أشكال متعددة ومستويات مختلفة , تعد الحرب الأهلية البعد الأكثر حدة وحسما بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان وجيشها . لقد أصبحت قضية الشريعة مثيرة لأكثر جوانب النزاع صعوبة ولكنها تشكل نموذجا لمجالات خلاف أخرى . ما تشير به الحكمة البديهية , لا يمثل بالضرورة وجهة النشاط العملي الذي يتبعه صناع القرار . الوضع السوداني يعبر عن انعكاس ما ساوى لصدق هذه الحقيقة . فمن جانب , أصبحت قضايا النزاع واضحة جدا للجميع . بمن فيهم أطراف النزاع , ومن الجانب الآخر يعترفون بان الوضع الراهن لا يمكن ان يصون السلام والوحدة . ومع ذلك فان المواقف التي تتخذها الأطراف للمفارقة توسع شقة الخلاف , مما يجعل المساومات صعبة أن لم تكن مستحيلة . أمام السودانيين عدد محدود من البدائل ليختاروا منها من بين المواقف الجلية للأطراف . احدها إعادة تعريف الهوية الوطنية لتكون بصدق موحدة ودا عمة للمساواة التامة في الفرص السياسية , الاقتصادية , الاجتماعية ,والحياة الثقافية للبلاد . وبديل آخر يتمثل في خلق إطار يوفق بين التطلعات المثالية للوحدة والحقائق الموضوعية للتنوع . والثالث , الاعتراف بان العقبات أمام الوحدة الوطنية ربما تكون عصية لا يمكن تخطيها , وبان الانفصال يمكن أن يسمح لكل من الطرفين أن يتقدم ويتطور في مجال المهام الايجابية للبناء والتنمية على أسس نظراته الذاتية وتطلعاته الخاصة .
القاهرة شتاء 2005
|
|
|
|
|
|