خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم )

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-15-2024, 10:49 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-17-2009, 03:00 PM

عاطف عبدون
<aعاطف عبدون
تاريخ التسجيل: 02-27-2008
مجموع المشاركات: 3701

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) (Re: عاطف عبدون)

    عزّة في هواك: الإشارات والتّنبيهات

    قد يتّفق أغلب الباحثين في الإحالات الدّلاليّة والرّمزيّة التي ينطوي عليها اسم "عزّة" عند الخليل. فاسم "عزّة" إشارة ورمز للوطن الكبير، فضلاً عن كونه إشارة للوطنيّة السّودانيّة ممثّلة في أمدرمان، ثمّ إمكانيّة أن ينطوي على إشارة جوّانيّة للوطن الأصغر، جزيرة صاي. ثمّ اسم "عزّة" هو رمز للمرأة السّودانيّة في حال كونها نفسها رمزاً للوطن. وهذا لعمري منحى صوفي في شعر الخليل فيه تصبح المرأة (عزّة) شوقاً وطنيّاً مثلما أصبحت المرأة (ليلى) عند الصّوفيّة شوقاً إلهيّاً. كلّ هذا متّفق عليه في أغلب وجوهه العامّة. لكن، ومع كلّ هذا، هل يمكن أن يكون للمسألة وجه آخر لم نطّلع عليه؟ والسّؤال بصيغة أكثر وضوحاً هو: هل كانت هناك امرأة حقيقيّة لحماً ودماً اسمها "عزّة" أعلاها الخليل وأسمى من قدرها بتجريدها حتّى تكون رمزاً لكلّ هذا؟ في هذا الجزء سنحاول أن نُجيب على هذا السّؤال، متلمّسين لاحتمالات المصادر الحياتيّة اليوميّة التي يمكن أن تكون قد دفعت بالخليل إلى أن يتّخذ من اسم "عزّة" بالذّات دونما عداه من أسماء رمزاً لكلّ هذا. ويستند كلامنا على فرضيّة أساسيّة تذهب إلى أنّ الخليل ربّما علِق بالاسم جرّاء ملابسة واقعيّة ضلعت فيها شخصيّة نسائيّة تحمل اسم "عزّة". وتمتدّ بنا الفرضيّة لتزعم بترجيح أنّ هذه المرأة الحقيقيّة ربّما كانت العازّة (عزّة محمّد علي) زوجة علي عبد اللطيف ببيّنة كونها أوّل امرأة تخرج في المظاهرات، ثمّ تقودها، حسبما سيرد لاحقاً.

    نبدأ بقولنا إنّ اسم "عزّة"، كيفما كانت إمكانيّات تأويله، ذو ارتباط أوّلي بالمرأة السّودانيّة، وذلك ببيّنة كونه اسماً أنثويّاً. ولعلّ أوّل ارتباط لمفهوم "العزّة" بالمرأة ما ورد في قصيدته (المدرسة) والتي نُظمت عام 1919م [علي المك: 136-137] والتي يقول في مطلعها:

    يللاّ نمشي المدرسة ** سادة غير أساور غير رسا

    ففي هذه القصيدة يرد:

    دارسة ماك جاهله مُحنّسه ** قادله بي كتابه مؤنّسه

    حاشا ما اتّربّيتي مُدنّسه ** لسّه لسّه عزّك ما اتنسى

    ولكن ليس في هذا ما يمكن أخذه كبيّنة دالّة على الاسم "عزّة"، إذ يبدو كما لو كان استخداماً عفويّاً سابقاً لاستخدامات الخليل الموحية لاسم "عزّة" كما أُثر عنه فيما بعد. ولكن ما يجعلنا نُشير إلى هذا ما ورد في أغنية (فلق الصّباح ـ المرجع السّابق: 146) من ارتباط بين اسم "عزّة" ومفهوم العزّة والفخار:

    عزّة شوفي شباب قومِكْ ** سبقوكِ على كومِكْ

    بـت رجـال ولْـدوكْ ** للقبيـلة هـدوك

    إنتِ عز وفخار

    إذن استخدام الاسم "عزّة" في أغلب الظّنّ قد استدعته دواعي وظيفيّة واقعيّة بجانب الدّواعي الشّاعريّة. واسم "عزّة" ذو شاعريّة لا تخفى في الأدب العربي القديم والحديث، وذلك منذ أن شبّب الشّاعر الأمويّ كُثيّر بامرأة يُقال لها "عزّة" حتّى لُقّب بها. ولكن برغم كلّ هذه الشّاعريّة لم يُؤثر عن الخليل تغنّيه بأيٍّ من قصائد كُثيّر عزّة؛ هذا بافتراض أنّه علق بالاسم جرّاء هذه الشّاعريّة الأخّاذة فحسب. فالخليل، مثلاً، تغنّى للشّاعر عمر بن أبي ربيعة قصيدته التي يقول مطلعها:

    أعبدةُ ما ينسى مودّتَك القلبُ

    ولا هُوَ يُسليـه رخـاءٌ ولا كـربُ

    قُطوفٌ من الحور الأوانس بالضّحى

    متى تمشِ قَيْسَ الباع من بُهرِها تربو

    ولا يفوتني هنا أن أُشير إلى ما أشار لي به أستاذي الهادي حسن هاشم (وهو الذي أفنى سنيًّ شبابه الأوّل دارساً وجامعاً لأدب الخليل) من أنّ الخليل قد أدخل بعض التّعديلات على قصيدة عمر بن أبي ربيعة لتذليلها غنائيّاً. ففي ديوان الأخير تبدأ القصيدة بقوله:

    أعاتِكَ ما ينسى مودَّتك القلبُ

    فغيّرها الخليل إلى "أعبدةُ" [ينطقها بالفتح في الإسطوانة]، وكان في إمكانه أن يقول: "أعزّةُ" لو أنّ تعلّقه بالاسم كان لمغزىً شاعريٍّ فحسب. ثمّ يقول ابن أبي ربيعة في ديوانه:

    قطوفٌ من الحور الجآذر بالضّحى

    فجعلها الخليل:

    قطوفٌ من الحور الأوانس بالضّحى

    وهذه لعمري أجمل وأجرى لساناً عند حال الغناء ـ كما يقول الهادي. ثمّ ليس أيسر للخليل من أن يتغنّى بإحدى قصائد كُثيّر عزّة، إن كان تعلّقُه بالاسم ناجماً عن حالة تماهٍ شاعريٍّ فيه فحسب. كما لم يستخدم الخليل اسم "عزّة" في أيٍّ من أشعاره العاطفيّة، من ذلك، مثلاً، قصيدة (هجرك يا سعاد ـ علي المك: 36-39):

    هجرك يا سُعاد مرّر علينا حُلانا

    بي مُرواد مكاحيل السّهر كاحلانا

    إذن في تلمّسنا للأسباب التي تكمن وراء اصطفائه للاسم "عزّة" كيما يكون رمزاً جامعاً لأشواق الوطن والرّوح علينا أن نبحث ونُنقّب في تلافيف الظّروف الموضوعيّة التي أحاطت به وبالوطن في فضاء زَمَكاني بعينه. فماذا يا تُرى ينتظرنا هناك من آفاق ورؤى؟

    أوّل ما يلفت نظرنا هنا احتمال أنّ الخليل لم يستخدم اسم "عزّة" في أيٍّ من القصائد التي سبقت ثورة 1924م. فجميع القصائد التي يرد فيها الاسم قام بتأليفها ترجيحاً بعد ذلك التّاريخ. ليس هذا فحسب، بل حتّى القصائد التي قام بتأليفها قبل أو إبّان ثورة 1924م لا يرد فيها اسم "عزّة". من القصائد التي سبقت الثّورة، مثلاً، قصيدة (تعليم المرأة ـ المرجع السّابق: 73-74)، والتي يذكر علي المك [المرجع نفسه: 192] أنّها نُشرت في جريدة حضارة السّودان يوم 27/1/1921م، ويقول فيها مشبّباً بسُليمى دون عزّة:

    أترى يا دهرُ يُخطي الآملُ

    ومحالٌ من سُليمى نائلُ

    وفي إحدى قصائده الوطنيّة الرّمزيّة وتحمل اسم (وطني ـ نفسه: 86-89) يبدأ مشبّباً بعاتكة دون عزّة:

    وقفاً عليكٍ وإن نأيتُ فؤادي

    سِيّان قربي في الهوى وبِعادي

    يا دارَ عاتكتي ومهدَ صبابتي

    ومثارَ أهوائي وأصلَ رشادي

    ولنأخذ من القصائد التي تزامن تأليفها مع ثورة 1924م (وربّما أُلّفت خصّيصاً لإلهاب الثّورة) قصيدة (الشّرف الباذخ)، والتي يقول عنها علي المك [نفسه: 198]: "كانت ما يشبه نشيد ثورة 1924م وكان يردّدها طلاّب الكلّيّة إبّان الحوادث المعروفة"؛ ويقول بدري كاشف عنها [2000: 11]: "وقد اتّخذها ثوّار 1924م شعاراً لهم في كفاحهم بقيادة علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وزملائهما العسكريّين". ومع هذا لا يرد فيها اسم "عزّة" بوصفه رمزاً للوطن. وحتّى القصيدة الأشهر (عزّة في هواك) نظمها الخليل أخريات العشرينات وهو بمصر للاستشفاء [علي المك: 202]، أي بعد أحداث ثورة 1924م. ثمّ هناك قصيدة (ماك غلطان ـ المرجع السّابق: 129-130)، والتي يقول في مطلعها:

    ماك غلطان ** ده هوى الأوطان ** نوح يا حمام

    ويقول عنها علي المك [المرجع نفسه: 195]: "نُظمت عام 1925م وصارت إلى نشيد وطني ذاع شأنه وكان يغنّيه كثير من المطربين". ومع هذا لا نجد ذكراً لاسم "عزّة" فيها.

    هناك رأي صدع به إبراهيم محمّد إبراهيم بلال [بدون تاريخ] فحواه أنّ الخليل استمدّ الرّمزيّة في اسم "عزّة" من المصريّين: "إذا راجعنا الرّمز للوطن في الشّعر المصري نجد أنّهم يرمزون له بـ (عزّة) أو (بهيّة)، وهذا ما لا نجده قبل الخليل إلاّ عند الخليل. وهذا أثر مصر الذي جمعته بها نوبيّته". ولكن إبراهيم محمّد إبراهيم لا يورد لنا أمثلة بعينها. وفي حديث شخصي لي معه، أشار إلى أشعار بيرم التّونسي وبعده حاليّاً أشعار أحمد فؤاد نجم. ولكن، هذا الرّأي، وإن لم نقع على مصدرٍ محدّدٍ له، فضلاً عن أنّ الاستوثاق عنه في مظانّه ربّما بُعد بنا عن مرافي بحثنا الرّئيسي، إلا أنّه رأيٌ وجيه قد يجعلنا نخلص إلى أنّ "عزّة" هنا لا تعدو كونها استخداماً رمزيّاً بحتاً تأثّر فيه الخليل بالحركة الأدبيّة في مصر. والخليل ذهب إلى مصر مرّتين، كلاهما بعد ثورة 1924م، وفي هذا ما يدعم هذا الرّأي. ولعلّ ممّا يدعم هذا الرّأي أكثر عدم استخدام الخليل لاسم عزّة لا قبل ولا أثناء الثّورة، الأمر الذي يقرّب احتمال أن يكون ذلك قد حدث أثناء وبعيد زيارته لمصر. خذ مثلاً عدم استخدامه لاسم "عزّة" في أغنية (الشّرف الباذخ)، وهي من قصائد الثّورة خاصّةً عندما يقول:

    مـن تبّينـا ** قمـنا ربيـنا ** ما اتفاسلنا لو في قليل

    ما فيش تاني ** مصري سوداني ** نحن الكلّ وِلاد النّيل

    فالمقام هنا كأكثر ما يكون ملاءمةً لاستخدام اسم "عزّة" كرمز للوطن الكبير، وادي النّيل. ويبدو أنّنا كي نجزم بهذا نحتاج قبل ذلك أن نجزم بأنّ جميع القصائد التي يأتي فيها الخليل باسم "عزّة" ممّا قام بتأليفها أثناء أو بعد إقامته الوجيزة بمصر في المرّتين اللتين قام فيهما بزيارتها. من ذلك، مثلاً، أغنية (فلق الصّباح ـ نفسه: 142-145) والتي يقول عنها علي المكّ [نفسه: 197]: "قصيدة عن الوطن كما يراه خليل ...". وفيها يقول الخليل:

    عزّة شوفي الحوش نوّر ** بي نجوم الليل غوّر

    يا صبـاح النّـــور ** على العيون الحور

    والخديد الحار

    فنحن لا نعلم متى كان تأليفها، قبل، أم أثناء، أم بعد ثورة 1924م؛ قبل، أم أثناء، أم بعد زيارتَيْ الخليل لمصر. ومثلها أيضاً قول الخليل في قصيدة (ذكِّرَنْ محبوبنا) [فرح خليل، 1999: 220-222]:

    عَدْ ما كون ذرّه ربّي جلّ وعزّه ** السّلام آلاف يرتضيك يا عزّه

    إنتِ كالعـافية للعليـل واللـذّه ** عِلاّ بي قبولـه الحلـف ينْعَزّ

    يا نسايم الليل ذكّرن محبوبنا

    وهنا ينهض السّؤال التّالي: هل كان الخليل يحتاج إلى أن يُسافر بجسده وروحه إلى مصر كيما يتأثّر بها؟ فإذا كان المصريّون يرمزون لوطنهم باسم "عزّة"، وكان ذلك شائعاً، إذن لكان الخليل قد تأثّر بذلك قبل ثورة 1924م، وهو الذي لم يني يذكر ويُشير إلى وطنه مُكنّياً مرّة، ورامزاً إليه مرّة أخرى. إذن عدم ذكر الخليل لاسم "عزّة" إلاّ بعد 1924م ينبغي أن يُنظر إليه في سياق الثّورة ومضمار التّأثير والتّأثّر بها من قبل اللاعبين الأساسيّين فيها، والخليل من ضمنهم. فإذا كان المصريّون يستخدمون اسم "عزّة" كرمز للوطن، فنحن غير أكيدين من أنّ الخليل قد تأثّر بذلك قبل أو أثناء أو بعد الثّورة ـ إن كان قد تأثّر بها أصلاً. لكنّا، في المقابل، حسبما أوردنا من استقراء، شبه أكيدين من أنّ خروج امرأة باسم "عزّة" إلى الشّارع وقيادتها للمظاهرات كان ممّا ألمّ به الخليل وتأثّر به مثلُه في ذلك كمثل باقي أهل العاصمة المثلّثة الذين تابعوا وشاركوا في تلك الأحداث. وهكذا نرى أنّنا بين خيارين: أحدهما غير أكيد، وإن كان مرجّحاً؛ والثّاني شبه أكيد، وهو الأرجح. ثمّ إنّ الاحتمالين ليسا بنقيضين؛ إذ يجوز أن يكون الخليل قد ألمّ بما عليه المصريون من ترميزٍ للوطن باسم "عزّة"، فلم يتأثّر بذلك إلاّ بعد أن خرجت امرأة في السّودان تحمل اسم "عزّة" وهي تقود المظاهرات، فجعل من ذلك نقطة انطلاق لاستخدام اسم "عزّة" كرمزٍ للوطن مدعوماً في ذلك ببعض أثرٍ ممّا عليه المصريون. إن كان هذا كهذا، فمرتكز الرّمز إذن هو عزّة محمّد علي (زوجة علي عبد اللطيف)، وما أثرُ مصر إلاّ من حواشيه. وهكذا نرى في جميع الأحوال أنّ البحث في تلافيف الظّروف الموضوعيّة بالخرطوم التي عاش الخليل في سياقها هو الأهدى في بحثنا وتنقيبنا عن المصادر الرّمزيّة لاسم "عزّة".

    لكن، وما أدراك ما لكن!

    هل يا تُرى ليس هناك أيّ إفادات للذين عاصروا الخليل بشأن المصادر الجماليّة التي استند عليها الرّجل في ترفيع وإعلاء اسم "عزّة" من مجرّد اسمٍ نسائيٍّ ذي شاعريّة، إلى رمزٍ للوطن؟ هذا ما كان عليه رأيُنا إلى أن قيّض الرّحمنُ لنا يوما مباركاً ميموناً فيه التقينا الشّاعر، الباحث والسّياسي كمال الجزولي [21/3/2007]، فعنّ لنا، مثلما درجنا حينها ولا نزال مع كلّ من توسّمنا فيه عرفان العلم، أن نرفع إليه سؤالَنا بخصوص ما سمعناه من أنّ المصريّين ربّما كانوا المصادر التي استقى منها الخليل تراميزه لاسم "عزّة"، فانتفض الرّجلُ كما لو لدغته عقرب، نافياً ذلك بقولةٍ حادّة: "لا! استقى ذلك من اسم "العازّة" زوجة علي عبد اللطيف"! فنزل علينا قولُه كما لو كان صاعقة. حكى كمال الجزولي أنّه في ما بين منتصف 1973م إلى أوائل 1974م كان يُقدّم برنامجاً إذاعيّاً بإذاعة أمدرمان بعنوان "مشاوير". في إحدى تلك الحلقات المخصّصة لثورة 1924م استضاف العازّة محمّد علي (أرملة علي عبد اللطيف)، فذكرت أنّ الخليل استخدم اسمها كرمز للوطن الأم وللمرأة الوطن، وذلك جرّاء بلائها الحسن في الثّورة وفي المظاهرات، وذلك عندما اتّخذ المتظاهرون من بيتها رمزاً للوطن والثّورة ثمّ منطلقاً يوميّا لمظاهراتهم. ثمّ استضاف الشّاب كمال الجزولي، بعد ذلك في حلقة أخرى، حدباي أحمد عبد المطّلب، بوصفه صديق الخليل وراوي معظم شعره، فسأله، فيما سأله، عن جزئيّة اسم "عزّة" في شعر الخليل، فإذا بحدباي أيضاً يذهب إلى ما كانت العازّة محمّد علي قد ذكرته من قبل. إذن فقد صحصح الحقُّ وانبلج نورُه. وقد سعينا للاستوثاق من هذا في مكتبة الإذاعة الصّوتيّة، دون أن تُكلّل هذه المساعي بالنّجاح حتّى كتابة هذه الأسطر. فقد ضاعت يا سادتي هذه الأشرطة، أو أُتلفت، والله أعلم. يا خسارة!

    ومسألة أن تكون هناك شخصيّة نسائيّة بعينها تقف وراء اسم "عزّة" شيء تناقلته الشّائعات إثر ترداد الخليل لهذا الاسم في أغانيه وقصائده المتأخّرة. ففي تعليقه على قصيدة (الدّاء العُضال ـ علي المك: 111] يقول علي المكّ [المرجع السّابق: 192]: "نُظمت حين بلغ الشّاعر أنّ نفراً قد اجتمعوا وتحدّثوا عن إصابته بذات الرّئة وألاّ شفاء له فيُرجى، وأنّه متيّم بحبّ حسناء اسمها ’عزّة‘ جاء ذكرها في شعره كثيراً". في هذه القصيدة يسرد الخليل تفاصيل هذه الشّائعة، ليخلص إلى أنّ "عزّة" ما هي إلاّ الوطن، مخاطباً من يروّج لهذه الشّائعة بصفة "الفاو"، أي الأخرق والعبيط. ويقول مطلعها:

    قالوا صابُه الدّاء العُضالْ

    ضحيّة نايـر الوِجَـنْ

    ثمّ يستمرّ الخليل في التّغنّي ببلواه، منافحاً عن "عزّة" التي يتغنّى بها، فيقول:

    قالوا كلّ واعياه النّضالْ

    وانتهك لقـواه الشّـجنْ

    أصلُه تايِهْ ومن يومو ضالْ

    في خيالو طيور بِلْهَجَنْ

    ***

    قالوا هام في الغادة ام حجالْ

    عزّة ذات التّيه والعَجَنْ

    نافره مِنّو وضاق بو المجالْ

    وين يِقَبِّـلْ دهْ ليلو جَنْ

    ***

    قالوا والقال أعيا المقالْ

    وقد تصدّى لِجَـرّ المِحَـنْ

    ظلّ ينهش دون انتقالْ

    في الأواخر فضّى الصّحنْ

    ***

    لو تفكِّـر يا ذا الفِضالْ

    أو تُصيب بعض الفِطَـنْ

    هُوْ ما تايه ومن يومو ضالْ

    وعزّة يا فاوْ هِي الوطنْ

    ولنلاحظ هنا تفريقه بين عزّتين: الأولى "عزّة" الأنثى (الغادة أم حجال، ذات التّيه والعجن، أي الدّلال)، ثمّ "عزّة" الرّمز والوطن. وفي هذا يؤكّد أنّه ليس تائهاً ضلّيلاً (كحال الشّعراء العذريّين قديماً)، بل هو عاشق للوطن، وهذا ممّا يحتاج إلى الفطانة للتّفريق بين العزّتين. ومع هذا فكثيراً ما تتداخل العزّتين وتتماهيان في بعضهما، فانظر في ذلك وتأمّل.

    بالرّجوع إلى حركة اللواء الأبيض وما قامت به في ثورة 1924م، وجب القول بأنّها كانت حدثاً غير مسبوق في تاريخ السّودان، وذلك من عدّة وجوه. أوّلها أنّها كانت أوّل عملٍ وطنيّ منظّم ضدّ الاستعمار بعد هزيمة الدّولة المهديّة وذلك في ظلّ مهادنة عامّة من باقي القوى التّقليديّة؛ وثانيها أنّها كانت أوّل حركة لتنظيم وطني تقوم به الطّبقة الحديثة التي أفرزتها أعلى مؤسّسات الدّولة والتّعليم النّظامي حينها، وهي إذّاك لم يكن قد مضى على تشكّلها أكثر من عقدين؛ ثالثها أنّها كانت تدشيناً لمشروع الحداثة في بعده الوطني والقومي، وذلك بالنّظر إلى الإثنيّات السّودانيّة بوصفها شعباً ذا حقّ أصيل في الحياة كأمّة مستقلّة؛ رابعاً، قامت الحركة بتدشين تكتيكات في العمل الثّوري قابلة لأن تُحتذى حتّى يومنا الرّاهن، وربّما لم تبلغ شأوها القوى التي جاءت بعدها إلى اليوم؛ خامساً، دشّنت حركة اللواء الأبيض مشاركة النّساء في العمل العام من تجهيز للبيانات وتستّر على المنشورات ثمّ المشاركة في المظاهرات، بوصف كلّ ذلك فعلاً حداثويّاً يكسر القيود المفروضة على المرأة حينها وهي التي كان قد حُجر عليها؛ سادساً، وهو الأهمّ، كانت حركة اللواء الأبيض ثمّ ثورة 1924م أهمّ عمل رادته المجموعات السّودانيّة التي انحدر أغلبها من مؤسّسة الرّق، والتي كان من المفترض فيها أن تقبع في أدنى سلّم المجتمع قانعة راضية، وهي ذات الأسباب التي جعلت المستعمر البريطاني ينظر إليها على أنّها مدينة له بالحريّة والكرامة، الأمر الذي لم يكن يتوقّع منها أن تقود حركة التّحرّر الوطني. ومنذ تلك اللحظة سيقوم المستعمر باتّباع سياسة إقصائيّة لهذه المجموعات السّودانيّة، حتّى انتهى بها الأمر إلى درجة من الإزراء كادت أن تعود بهم إلى حالات العبوديّة لولا شدّة مراسها إذ قاومت ذلك ولا تزال. ومنذ ذلك التّاريخ لم يُعهد لها بلعب أيّ دور أساسي إلى أن أطلّ عهد الحركة الشّعبيّة وقائدها الفذّ الشّهيد جون قرنق [لمزيد من التّفاصيل حول كلّ ذلك يراجع: جلال هاشم، السّودان على مفترق الطّرق].

    وتحكي العازّة (عزّة) محمّد عبدالله (أرملة علي عبد اللطيف) في الإفادات الشّفاهيّة لثوّار 1924م [الكتاب الثّاني: الجزء الثّاني: 375] كيف طلب الإنكليز من علي عبد اللطيف التّخلّي عن مواقفه السّياسيّة الوطنيّة، مذكّرينه بما ظنّوه أفضالاً لهم عليه وعلى بني جلدته من الذين انحدروا من مؤسّسة الرّق، فامتنع في إباءّ وشمم: "قال ليهم: ’لا! ما ممكن، السّودان ده وطني، وانا تراب السّودان‘؛ ’نحن ربّيناكم فيه ولبّسناكم‘؛ قال ليهم: ’خلّيني أقعد عريان في وطني، أكون جيعان في وطني لمّن أموت". ويُجسّد هذا قول عبيد عبد النّور، مؤلّف نشيد الثّورة (يا ام ضفاير قودي الرّسن)، على لسان المستعمر [حسن نجيلة، 1965: 220]:

    نحن أهل الشّرف التّليد

    وانتو نوبة وعيلة عبيد

    البخالف راينا السّديد

    أمانة يشبع غلبة ويزيد

    كلّ هذا من شأنه أن يرفع أحداث 1924م من مصافّ "الأحداث" إلى مصافّ "الثّورات". هناك بعض الباحثين الذين ذهبوا إلى غير ذلك في رؤيتهم لتلك الثّورة، منهم، مثلاً، أستاذنا عبد الوهاب أحمد عبد الرّحمن [1992: 11-84] إذ يُطلق على ما جرى في 1924م مصطلح "أحداث" أو "حوادث"، ليخلص إلى أنّها لم تكن ثورة، كما تقاصرت عن أن تكون "انتفاضة شعبيّة"، وذلك مع كونها حلقة من حلقات النّضال الوطني وحركات التّحرّر. و هذا، في رأينا، فيه ظلم كبير لثورة حقيقيّة. ففي كتابنا ["أن يكون أو لا يكون"، مرجع سابق] نذهب إلى أنّ أثر ثورة 1924م امتدّ إلى يومنا الحاضر، وأنّ خطّة نيل الاستقلال القائمة بشقّ صفوف المستعمرين (المصري والبريطاني) لا يمكن أن يُنظر إليها بمعزل عن ثورة 1924م [أنظر تفصيل ذلك في يوشيكا كوريتا، 1997]. كما ذهبنا إلى أنّ إدخال مفهوم "الأمّة" في خطاب الوطنيّة السّودانيّة لا يمكن أن يُعزى إلاّ لعلي عبد اللطيف وثورة 1924م؛ ثمّ تدشين النّضال الوطني عبر تنظيمات حداثويّة وعلمانيّة، أي غير دينيّة، لا يمكن أن يُفهم بعمق إلاّ في إطار دراسة حركة اللواء الأبيض وثورة 1924م. وقد ساقنا جميع ذلك إلى الزّعم وباطمئنان كبير بأنّ حركة اللواء الأبيض وثورة 1924م تمثّلان نقطة انعطاف غير مسبوقة بالمرّة وذلك منذ تكوين دولة الفونج.

    إذن بجانب الأحداث السّياسيّة والتّنظيميّة، كانت هناك العديد من الرّموز والمفاتيح القيميّة والجماليّة التي لعبت في خلفيّة مسرح ثورة 1924م، وهي الثّورة التي لم يكن الخليل ببعيدٍ عنها بل كان غارقاً في لجّتها، يدبّج لها الأغاني والأناشيد. إذن فقد كان الخليل نفسه محرّكاً ومُشَغِّلاً لأحد أهمّ آليّاتها الجماليّة والأخلاقيّة. إذن فمسألة انفعاله بها ممّا لا ينبغي أن نسعى إلى توكيده، بل ما نسعى لتوكيده أنّ أثرها فيه كان أكبر ممّا يتوارد على الخاطر حسبما رشح (أكرّر: رشح) فيما أُثر عن كتاباتٍ تاريخيّة أقرب إلى كتابات النُّتَف الصّحفيّة منها إلى التّسجيل الحيّ المدعوم بالرّصد العلميّ. من ذلك بوجهٍ خاصّ خروج امرأة بسيطة إلى الشّارع وهي تقود المظاهرات التي استقبلت منزلها وقامت بإزجاء التّحيّة، تحيّة الثورة، إليها بوصفها رمزاً لزوجها الذي كان يقبع حينها في غياهب السّجون. تُرى كيف يكون انفعال الرّجل الذي غنّى للمرأة قبل ذلك بسنوات داعياً لها كيما تخرج إلى الشّارع بلا رسن أو حجل، مدشّنةً بذلك مشروع الحداثة؟

    إذن فقد خرجت العازّة في المظاهرات، وكانت بذلك حسب إفادتها [الإفادات الشّفاهيّة، الكتاب الثّاني: الجزء الثّاني، مرجع سابق: 416] أوّل امرأة تشارك في المظاهرات. ومع أنّ هناك إفادات لأبطال ثورة 1924م [مثلاً إفادة الحاجّة نفيسة سرور أحمد، المرجع نفسه: 467-468] تُشير إلى بعض الحالات التي شارك فيها عدد محدود من النّساء في المظاهرات، إلاّ أنّ ذلك لا يتعارض مع ما قالته العازّة. فهي بالفعل كان أوّل امرأة تشارك لوحدها في المظاهرات التي انطلقت شرارتها عقب اعتقال أبطال الثّورة، ثمّ بعد ذلك تبعتها بعض نساء أخريات. وبذلك كانت العازّة قطعاً أوّل امرأة تُشارك في المظاهرات ذات الغرض السّياسي المدني على النّحو الذي نعرفه الآن ممّا يُؤثر عن منظّمات المجتمع المدني. ولم يكن الخليل بعيداً عن هذه الأحداث، وهو حينها، كم أشرنا،شاعر الثّورة ومغنّيها. ليس ذلك فقط، بل كان الخليل قريباً من علي عبد اللطيف، لا ببيّنّة الانتماء إلى التّنظيم والثّورة اللذين كان يقودهما علي عبد اللطيف فحسب، بل ببيّنّة حميميّة قرب الأخير من زين العابدين عبد التّام، وزين العابدين هو قريب الخليل. ثمّ فوق كلّ هذا فقد كانوا جميعهم يسكنون الخرطوم وفي نفس الحيّ، والخرطوم حينها ليست سوى حيٍّ كبير.

    ولتقدير أثر خروج تلك المرأة البسيطة في المظاهرات لا نحتاج إلى قدرٍ وافر من التّمثّل والخيال. فأبسط هذه الخطوات أن نتمثّل أنفسنا في خضمّ إحدى المظاهرات التي شاركنا فيها بعنف وعنفوان، مستعديّن فيها لتقديم كلّ غالٍ ونفيس، بما في ذلك الرّوح. في هذا تحكي العازّة عن قوّة ما اعتراها من انفعال وتأثّر جرّاء المشاركة في المظاهرة [المرجع نفسه: 388]، ممّا لا يمكن أن يكون قد فات علي شخص قريب من الأحداث كالخليل:

    قدرة إلهيّة .. آي! قدرة إلهيّة .. والله! بالله شوف أقول ليك، لأنّو وجدت الحاجة دي قدرة إلهيّة .. لمّن بقيت أطلع مع الأعمال دي [تعني المظاهرات] أشعر بي نفسي كأنّو مش واحدة نفر، جسمي ده زايد، وتقول جسمي أحسّ أنا ما بعرفو. قدرة إلهيّة! وأمشي .. أصلو ما مشي! مشي أصلو ... ما مشي مَرَهْ تمشيه في الأرض. فضلوا هم يكوركوا ويقولوا، وأنا معاهم.

    وعندما وصل المتظاهرون إلى سجن كوبر حيث كان علي عبد اللطيف معتقلاً، طالبوا بأن يُسمح لهم برؤيته، فاعتذر عن ذلك الضّابط المصري بلباقة قبلها المتظاهرون. إلاّ أنّه ربّما سُمح له بأن يُطلّ عليهم من إحدى نوافذ السّجن دون أن يروه ـ وذلك بعكس جميع الإفادات المتعلّقة بهذه الجزئيّة. فالعازّة تحكي بوضوح عن كيف فُتح الشّباك [نفسه: 392]:

    فتح الشّباك .. وبس هنا .. وعلي عبد اللطيف، وهم يكوركوا ويهلّلوا، وهو من جوّه يقول معاهم. هم قالوا في السّاعة ديك وكِتْ فُتنا، هو غِمِر، داخ. شافهم قال ليهم: ’عازّة معاكم؟ سبحان الله!‘. والله أنا ما وعيت بي نفسي! والله أنا ما وعيت بي نفسي! والله أنا ما واعية بي نفسي في الحالة دي! قلت ليهم: ’علي عبد اللطيف كان مات، ليهو حقّ. أنا المَرَهْ، أنا ما وعيت بي نفسي‘. جينا راجعين تاني من كوبر بي كرعينّا، لمّن جينا بقَى تحت الكوبري، لقينا الجيش الإنكليزي؛ واحد هنا، وواحد هناك، وواحد هناك.

    ولكن بساطة الموقف لا تلغي عمقه؛ فلتكوين صورة مقرّبة لما قامت به العازّة محمّد علي نحتاج إلى قدرٍ كبير من العاطفة والشّفافيّة والخيال. بقدر ما يحتاج الواحد منّا إلى أن يضع نفسه في مكان العازّة، يحتاج كلٌّ منّا أيضاً إلى أن يضع نفسه في مكان علي عبد اللطيف، وقد زُجّ به في السّجن، ثمّ خرج النّاس في المظاهرات تنديداً وتحريضاً، فإذا بزوجته التي لم يكن لها من قبل علاقة بكلّ ذلك تخرج في المظاهرات، بل وتقودها. يا سادتي خروج المرأة في المظاهرات حينها، وربّما لا يزال، يعني بالنّسبة إلى المرأة التّقليديّة شيئاً أقرب إلى "البهدلة"، ذلك لأنّه شيء يتناقض كلّيّاً مع مفاهيم الأنوثة. إذ ليس من الواقعيّة أن ننتظر من المرأة المتظاهرة أن تحافظ على مخايل الأنوثة من نظراتٍ والتفاتاتٍ أو أن تمشي فيها كما يمشي الوجي الوحِلُ. ولهذا تُشير العازّة إلى أنّ مشيتها في المظاهرات لم تكن ممّا تمشيه امرأة. ولعلّ هذا ما جعل الكثيرين يظنّون أنّ بالعازّة مسّاً من الجنون وأنّها فقدت عقلها عندما زُجّ بزوجها في السّجن، وذلك عندما شرعت تشارك في المظاهرات اليوم تلو الآخر. فذلك ممّا يصعب على المرء أن يتوقّعه من امرأة في ذلك الزّمان وفي ذلك المكان. حتّى علي عبد اللطيف، والذي ذكرت عنه زوجته تمتّعه بقدرة كبيرة في التّخاطر والجلاء البصري [نفسه: 405-407]، لم يتصوّر خروج العازّة في المظاهرات، فقال مشدوهاً: "عازّة معاكم؟ سبحان الله!".

    والسّؤال هو: كيف يمكن لإنسان شفيف الأحاسيس كالخليل ألاّ ينفعل بهذا المشهد، دع عنك أن يكون هو نفسه من رموز تلك الحركة التي خرجت تلك المرأة البسيطة إلى الشّارع في عفويّة، منعتقةً من كلّ قيود الأنوثة المكبّلة؟ وإلاّ ففيم كان نشيد الثّورة (يا ام ضفاير قودي الرّسن). هذا الأغنية كانت من "... في مقدّمة أغاني الثّورة ذيوعاً وانتشاراً، وزاد من ذيوعها وانتشارها أنذ طلبة الحربيّة [كانوا] يتغنّون بها في حماس بالغ في وهم يشقّون شوارع العاصمة والجماهير تُحيط بهم تبادلهم الشّعور وتشاركهم التّرنّم. [والأغنية قام بتأليفها] عبيد عبد النّور ... في مستهلّ حوادث 24 عندما كان مدرّساً بمدرسة أم درمان الابتدائيّة ... إنّه يهتف في مطلعها بالفتاة السّودانيّة (أم ضفاير) أن تقود الثّورة مع أخيها وأن تهتف معه يحيا الوطن" [حسن نجيلة، 1965: 217]. وتقول بعض أبياتها:

    يا ام ضفاير قودي الرّسـن

    واهتـفي فليحـيا الوطـن

    أصلو موتاً فـوق الرّقـاب

    كان رصاص أو كان بالحراب

    البِـدور عنـد الله الثّـواب

    اليضَحّي ويـاخُد الثّـواب

    يالشّبـاب النّاهض صباح

    ودّع اهلك وامشي الكفـاح

    قوّي زِندك وفوت بارتياح

    فوق ضريحك تبكي الملاح

    إذن فمسألة مشاركة المرأة في تلك الثّورة، ينبغي النّظر إليها باعتبارها حجر الرّحى بالنّسبة لأشواق الثّوار. ومثل هذه الأبيات أعلاه إمّا أنّها جاءت ترجماناً لتلك الأشواق، أو أثارت قريحتها المشاركة الفعليّة للمرأة ممثّلة في الدّور الرّائد الذي لعبته العازّة زوجة علي عبد اللطيف. وكيفما كان الأمر، إنْ هذا أو هذا، ما كان لخروج العازّة في مقدّمة المظاهرات أن يمرّ على القوم الثّائرين هكذا مرور الكرام. وفي رأينا أنّ الأبيات التّالية من أغنية (عزّة في هواك ـ علي المك: 185-186) تكون أشدّ وقعاً وأقوى أثراً إذا ما قُرئت في سياق كلامنا أعلاه:

    عزّة ما اشتهـت نوم الحجـال

    ولا السّوار بكى وفي يمينا جال

    وعزّة في الفريق للضيق مجال

    قبيلة بت قبيل ملا الكون رجال

    ***

    عزّة شفتِ كيف نهضوا العيال

    جدّدوا القديـم تركـوا الخيـال

    روحك ام سماح سرى كالسيال

    شجوا الفؤاد أحيوا محسور الليال

    هكذا نرى كيف ناضلت تلك المرأة البسيطة التي وجدت نفسها دون أن تدري تصارع أنواء السّياسة وسط بحر متلاطم الأمواج لإمبراطوريّة تعيش خريف العمر. خرجت العازّة في المظاهرات وهي لا تعرف حتّى اسمها، إذ تارّةً تسمّيها الأعمال، وتارّةً تسمّي الهتافات بالكواريك (أي الصّراخ). خرجت العازّة وحدها إلى عُفار المظاهرات وغبارها ممّا نعرفه جيّداً الآن، بينما المرأة حينها يجري عليها حكم الجواري الخُنّس، نؤوماتِ الضّحى، لا هَمّ لهنّ غير الحِنّاء والدّلكة والدّخان و"الكبرتة". وكأنّي بالخليل قد عنى هذا عندما خاطبها في أغنية (فلق الصّباح) قائلاً:

    عزّة قومي كفاك نومِكْ ** وكفانا دلال يومِكْ

    إنـتِ يا الكبـرتـوكْ ** البنـات فاتـوكْ

    في القطار الطّارْ
                  

العنوان الكاتب Date
خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 12:46 PM
  Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 12:48 PM
    Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 12:55 PM
      Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 01:01 PM
    Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) الطاهر ساتي07-17-09, 12:58 PM
      Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 01:24 PM
        Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 01:31 PM
          Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 01:38 PM
      Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 01:40 PM
        Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 01:45 PM
          Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 01:50 PM
            Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 01:54 PM
              Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 01:59 PM
                Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 02:08 PM
        Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) الطاهر ساتي07-17-09, 02:04 PM
          Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 02:23 PM
            Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 02:25 PM
              Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 02:34 PM
                Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 02:40 PM
                  Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 02:45 PM
                    Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 02:52 PM
                      Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 03:00 PM
                        Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 04:38 PM
                          Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 07:19 PM
                            Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 07:57 PM
                              Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون07-17-09, 08:22 PM
                                Re: خليل فرح: رجل بقامة أمّة ... ( د. محمد جلال هاشم ) عاطف عبدون09-05-09, 11:26 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de