" النهلة توصد أزرقها "

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-27-2024, 08:02 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة نهال كرار(نهال كرار)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-01-2009, 07:20 PM

هاشم الحسن
<aهاشم الحسن
تاريخ التسجيل: 04-07-2004
مجموع المشاركات: 1428

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
النهلة إلى فيوضها... أو حتى لا يسبل الفتى على أساه بنا فيهلك! (Re: محمد عبدالغنى سابل)

    محمد عبد الغني سابل،
    كيف امسيت؟
    مهلاً، و رحماك و حنانيك يا رجل
    ألا منك كنزر أو أقل مما كالذي جادت به علينا النهلة أو نهال؟
    بَسْ كمان، شكراً ياخي على الروابط،
    قهوجت بها صباحي عليم الله...
    و ها، حتى لا ينتحر علينا بك قنوطك منّا
    أهديك و أنفسنا و ذرارينا و ذراريهم
    بعض فيوض نهلة محمد صادق الحاج
    حفاوة، عليّ،
    من هاتيك القِبَل.


    و قد كان أن...
    انغلق النص الذي بوصيد البوست
    و لا يزال يعلّني بعلله!
    غير أنه،
    و رب هذا الصباح
    بارئ القهوة
    بنّها و الزنجبيل
    و العبق و مزاجي
    و مسخِّرك يا محمدنا في السبل!
    إن ود الحاج،
    لفي زمر سادة القلم المحسنين. هـ.
    و الحمد و الشكر، منذ يوم ابتدعوا البدع فلا تفنى،
    لرب الكتابة و للكاتبيها
    و لحَدْرَت طاقيتك كمان،
    بما كِدنا نطيحها عليك أسىً لولا أن تجمّل لنا الأزرق.
    ــــــــ
    ما سأنقله تالياً،
    (تركت الحوار لرابطه أبى أن ينفك عنها)
    و فيما عدا (من حيث أورهان) يجوز فيه القول و القولان و الأقوال أو القوالات..
    فأنه شعر....
    أو قل هو الشعر...

    ـــــــ
    و من كل بدٍ، فنحمدك يا سابل الستر المغني على كل حال.
    ــــــ
    كل ما يلي فهو من روابط سابل، استنكف أن يفكها أو هو يضن بها على السابلة.
    و يا نهال و مأمون و سابل، لو المنقولات التالية دي فوقا حاجة، كلمونا بالله، أنّمسحا!


    ـــــــ*******ـــــــ


    رِيَاضِيَّاتٌ سُبْحَانِيَّة

    محمد الصادق الحاج



    الكتابُ وحدَه!. أعني...
    أنا والتناقض،
    الله والمصادفات،
    الأشياءُ وما بينَها من علاقاتٍ تكامليةٍ نتوسَّمها في الأُخُوَّةِ والدَّمِ واللُّغة.
    الكِتَابُ أيضاً،
    المنتصب،
    المهجورْ،
    الذي كافياً لم يَعُدْ،
    الكِتَاب!!.
    ......................
    إلى المقَصَّاتِ الآدميَّةِ المؤلمة
    تنتظرني خارجَ الإثم.


    (1)


    انتهيتُ؛ اْنتهيتْ!. انتهيتْ؟...لا!، سئمتُ من تصفُّحِ نُسَخِ الأرضِ والسماءِ المكوَّمةِ داخل خزانةِ الكتب الصغيرة، لكن لم أنهض عن المقعد ذي الحبال البلاستيكيةِ المرتخيةِ مدفوعاً بالسأم، بل (أفعى، دُقَّ ذيلُها بوتدٍ إلى تراب القلم الأعلى؛ قانونٌ غامضٌ مَثُلَ بين كتفيَّ واْنْغَزَّ في عنقي متدلِّياً قرداً من سدرةِ الخيال)، هو الذي اْنتهى بي إلى ما أقوم به الآن؛ هو الذي اْقتلعني من مقعدي وأَرْجَحَني مَلِيَّاً في نماءٍ غامرٍ من فتنةِ السرطان الرهيبة؛ من الجبروت اللطيف القاسي لِعَيْنِ المنوِّم؛ من كَرَمِ المتواليات الهندسيّةِ الشريرةِ الباهرة؛ من جمالٍ مروِّعٍ يتعضَّى في هيكلِ الجنينِ الآثِم؛ قَضَى بالوصالِ غاصباً حاجتَهُ واْنطفأ، فهويتُ أعوي، نذيراً إلكترونياً عنيداً لا يَسَعُ أحداً إبطالُهُ، ونزوعٌ حيوانيٌّ شفَّافٌ يحدو بي لأن أنكبَّ على دفترٍ فارغٍ فلا أتركه إلاَّ وقد سمَّمْتُهُ عن آخر نأمةٍ تُصْدِرُها سطورُه بكتابةٍ ما.


    (2)


    لا عَنْ عصافيرِ جُزْءِ عَمَّ!. لا عن ضفائر الإنجيل!. لا عَن أبادماك وصورةِ القوةِ في مرآةِ التحوُّلِ الحيوانيّ!. لا عن الإحداثيات المريضةِ في خُلُقِ العدم وعُلُوِّ لحظتها الدراميةِ يومَ اْنكَشَفَت مَبَاذِلُها قائحةً أمام العناكب!. لا عن القراباتِ وأنظمةِ الدمِ التراثيَّة!. لا عن استعمالِ الغيبوبةِ للكشفِ عن قوانينَ تحليليةٍ مستحيلةٍ لترويضِ ديناميكا القَدَر!. لا عن الإرتباطِ الحيِّ بين الوحدات النفسيةِ المتجانسةِ في الأشياءِ والكائنات!. لا عن تعاونيَّات الصداقةِ والمهدِ البصريِّ، البشريِّ؟، الذي في كَنَفِه تَنشأ علاقات الضرورة!. لا عن مدائنِ المقدارِ المَطْوِيَّةِ في مِحَايَةِ سورةِ الحجّ!. لا عن ظهور الواحد في الصِّفرِ زاعماً أنه حَدِّاد الأقاليم!. لا عن الكنزِ كيفما، حيثما، هو كان!. حتَّى... ولا عن ما يمكنُ لبصقةٍ أن تخفيه من علومٍ وتقاليد...


    (3)


    ربَّما...، عن قمرِ الرَّسَّامين الفريدِ ومنازلِهِ الحائرة. عن خيبةِ اللُّوغاريثم. عن أيونات المعنى مصعوقةً من نظرةِ الأحوالِ إليها. عن النورِ ينامُ داخلَ العُلَبِ المختومةِ بالعلاماتِ التجاريةِ مِحْنةً أرضيَّةً قاصمةً تضعُ العينَ والعقلَ تحتَ إدارةِ العاطفة. عن جوعِ الرشفةِ وموتِ الآياتِ داخلَ الأباريق. عن النَّظْرةِ الضَّاريةِ الخرساءِ سِعْلاةِ الحقول. عن عَيَاءِ الدَّالَّةِ التَّحليليةِ للقيمةِ العمياءِ في عينِ الوُجُودِ؛ سُوْقِه. عن...


    (4)


    ... تلك البِنْيَاتِ الهشَّةِ التي لا تستطيعُ، لِتَحْدُثَ،إلاَّ أن تتأجَّجَ عنفاً فتشيطَ في سَمْتِها الاقتصاديّ البخيلِ لا كالعادة، بل كالشذوذ، كالندرةِ، كالاحتجاج، كالعدم. تلك العلاقات. تلك الأشياء، المفاجئةُ بشأنها الرَّشيقِ المتعالي، الباعثِ على الحسرةِ والتهكُّم ضمن استجابةٍ واحدة. إنها تصدُمُ!، بما تكتمه من سلوكٍ؛ سلوكِ الكتلةِ المظنونةِ مفرَغةً من الداخل. تصدُمُ، بطريقتها التفصيليةِ البسيطة ِ في تقليبِ حساء الحاصل الذي يقومُ على طبخِهِ مواليدٌ من البرجِ الذي لا يليه صباح. تصدُمُ، بخُلُقِها الرعويِّ البريءِ من أيةِ غايةٍ إبداعيةٍ أو تدبيرٍ فنِّيٍّ أو أيّ شكلٍ صناعيٍّ مسبقٍ يرعى جريانها...


    (5)


    أن تُبَاغَتَ/في الآخَر/بِك.
    أن تَرَاكَ، بعينٍ مقطوعةٍ تدعوك للقتل، نديمَ شخصٍ لم تعرفه قَطّ، ولا زلتَ، وأنت تمدّ له كأسَه المرَّةَ، غير عارفٍ إن كنتَ جليسَ شخصٍ لم تعرفه قَطّ، أم هو الشخصُ ذاته المثقَلُ سلفاً في صورتِه لديك بالتصورات البلهاء المنقولة عنه من جهةٍ ثالثةٍ إليكَ، فتزهد في أن تلقِّنَ الصباحَ وضعيَّةَ النومِ السليمةَ داخلَ سَلَّةِ الخضروات، مكتفياً بنعمةِ أنَّ البصلاتِ الخليعاتِ الثلاثَ ما عُدْنَ يحاولنَ التظاهرَ في مرحٍ بأنهنّ لا يعرفنك.
    أن يتَّبعَ التكرارُ سلوكاً نوعيَّاً آخَرَ، يمرقُ (من خفّةِ الغفلةِ والركونِ إلى الأُلفةِ) في ثياب شتويَّةٍ ويبدأ الرقص.
    أن تملأ مربَّعات الكلمات المتقاطعة بكواكبَ رضيعةٍ، ثمّ لا يحزنك اْكتشافُكَ واقعَ أنّ الكواكبَ الرَّضيعةَ نفسها لم تنقلب طيوراً مفطومةً، وهو ما كان حَرِيَّاً بها، وعليه اْعتَمَدَت منازلُ الثدي في أن يمدَّها بزادِ الشتاءِ من أليافِ البلازما والرطانةِ المنويَّة.
    أن تركبَ الفيلَ فيغتبط رأسُك ويشهد لك بمحامدَ صعلوكيَّةٍ يأمَلُ الغِرُّ الخفيفُ السَّاكنُ سِترَكَ أن ينعتَك بها أحدهم، ويبقى جسدُكَ الآخَرُ حَرِداً، متعفِّفاً عن الرأس الذي اْستنَدَ منشرحاً إلى طبعِهِ النباتيّ المستجِدِّ المتعالي، وباتَ مستغنياً بجماله عن خدماتك وقدراتك المنسيَّةِ في سياقِ الهشاشةِ الثقيل...


    (6)


    ... بعيداً عن هَوَسِكَ بتقريظِ الإهمالِِ واْفتتانِكَ بِصِبا المجازاتِ اليونانية، تتكوَّمُ أحشاؤكَ كلها عند مساكبِ حلْقِك ـ المُلْتَمَّةِ خُصْيةً؛ ثدياً؛ لسانا؛ً شيءَ حمارٍ باطلٍ؛ عيناً؛ بيضةً من لحمٍ خالصٍ مات الجنديُّ وهو يَلِدُها مِن صُلْبِ مَن أذاقَهُ الحلْوَى حميمةً عاريةً مجرَّدةً من أرضها وسمائه وأراه النورَ ومرَّغَه عاشقاً يتقبَّضُ في رمل حنانه الضاري فبقيَتْ هكذا كأحشائك كومةً؛ محضَ كومةٍ تبكي متهدِّلةً من مهبل الحال ـ ويغدو ما بين المعدةِ والحجابِ الحاجزِ جوفاً خالياً هائلاً متوحشاً، كأنه الوجود أو عيني، سماؤه: خطوطُ الضلوعِ المتبدِّيةُ عبر الجِّلد. وفي قاعِه، هناك، يبدو «جامع الكون»، وقد انحشَرَ وحيداً وأسودَ تُطلِقُ مئذنتُهُ تعاويذَ الحكيم برنوخ السوداني وهلوساتِ الحضرةِ المهديةِ الجليلةِ راقدةً ملتفَّةَ الساقِ بالساق على «كراسيِّ النورِ الخضراء» داخل قلب المادحِ «عابدين». تعتدل... تنظر إلى سُرَّتِكَ راجياً أن تخرجَ السفنُ الفضائيةُ منها وقد رُسِمَت على جوانبها الفضِّيَّةِ باللونِ البرتقاليِّ حَرْبَةٌ يصالبها هلالٌ أبيض.


    (7)


    ها هو ما تبقَّى من الكتاب يتلوَّى، وأنا أهجمُ عليه بوحشيَّةٍ عائفة. لا أرغبُ في الكتابة. لا شيءَ لأكتبَه سوى عذابِ تأمُّلاتي العمياء. إنما الآن أُقْبِلُ على الورقةِ بنهمٍ انتقاميٍّ يشغلُ أكواخَ روحي البعيدة. أتولَّي سطورَها الصَّحراءَ بخطواتِ الحيوانِ المجنونِ الذي أجدُهُ فيَّ كلَّما أَلَمَّ بي عقوق. الآخَر؛ أعني الحيوان، لا يَرَى. كما إنني، بما تَرَكَتْهُ لديَّ ألواحُ الأرضِ والسماءِ من رغبةٍ عَوِيْرَةٍ في التَّخَلِّي عن الكتابة نهائياً، أرْتَدُّ الآنَ وأدركُ الأمرَ، كما لو إني كنتُ كائناً فوقـ متغوِّط. الأمر هو، إنَّ الكتابةَ، إما: كُتَلٌ متماسكةٌ ذات شكلٍ جَزَرِيٍّ من مادَّةٍ فارغةٍ اسْمُها «الجِّمَار»، أو هي: دفقٌ سائلٌ مخفَّفٌ من مادَّةٍ أخرى تُوَاطِئُ الأولى بعلاقةِ الخؤولة، غير إنها متهافتةٌ، سهلةُ المرورِ عبرَ البهاءِ الأسطوانيِّ لأديانِ منطقةِ البحيراتِ الطينيَّةِ المحفوفةِ بأغصانِ التِّرِيفِيرا والبُوْلِيسْتَر والمُوسْلِين وأحياناً القَرْمَصِيص فقط...، أخ خ خ... أضَعْتُ التَّصَوُّر!. لا أريدُ أن أفكِّر، وَعَدْتُنِي بإسهالٍ عظيمٍ، والآن لا أعرف كيف تسلَّلَت بعضُ الكُتَلِ المجازيَّةِ وأفسَدَت علىَّ لذَّةَ النَّهْش. تووووووت، إلى الفراغِ إذاً يا قطار؛ إلى مَرَابِطِ الكراهيةِ والدّيوك؛ إلى فخذِ الورقة، ولتَسقُط الحياةُ، وليكن للأرض تعويضٌ بحجمِ الطُّوبَةِ الحمراءِ وطُولِ الهَوَس. وبي إلى موتِ الصّورِ في الحياةِ؛ إلى حياةِ الصُّوَرِ في الكتابة؛ أعني في الموت. وانغرسْ إذاً أيّها القطارُ في الرُّوحِ، وازدهرْ يا قطارُ؛ ازدهرْ في الروح كالقنبلة.


    (8)


    إنَّ الفروعَ السرطانيَّةَ بشجرةِ الليمونِ هي الأزهَى والأنضرُ بين سائرِ جنسِ النَّبات، وهي التي، لذلك، لا تعطي ثمراً!، إذْ كلها متشابهةٌ تَمُدُّ بعضَها. مِن أيِّ قاعٍ ترفيهي التقَطْتُ العبارةَ «قاتل متسلسل»؟. شَرَفِي لا يسمح، والإدانةُ تعصمني، ومع ذلك، شاء «عبد الله بن عباس» أم أبَى، فقد خَذَلْنَا خيالَه، وغَدَوْنَا أجمعينَ عبيداً طيِّبينَ مطيعينَ لنظامِ التَّرْفِيهِ الجبَّار الذي أكْرَمَتْنَا به، دامَ عِزُّها، الولايات المتحدة!. فَمَا الجَّمال؟. الكُتُبُ أصابعٌ سرطانيَّةٌ متناسخةٌ، لا تُؤْتِي إلاَّ الأمثالَ المخرِّبينَ والفاتنين أصحابَ السَّوابقِ في إحداثِ الشَّرِّ والأَذِيَّةِ الجَّامعة. مَتَى تحتفلُ الأرضُ بِعِيدِ اللّيمون؟!، هل هذا سؤال؟؟، يا لها من بداية!!.


    (9)


    أيتها الحَكَّامة البقَّارِيَّة؛ لَمْ أرَكِ لماذا يوم «أَلَسْتُ بِرَبِّكُم» عندما حَصَدْنا عيونَ الفنَّانين؟. هل تسمحين لي بأن أحدِّثك عن «بول غيراغوسيان» وعن ناسِهِ المتقوِّضين؟، لا؟. هذا شأنك، أنا ذاهب إلى البيرو، تعالي معها!، أم ستبقين طويلاً مُتَقَرْفِصَةً على ذلك السطرِ تنتظرينَ ماءَ يَدِي؟، وداعاً، لا أبالي!، هذا صحيح!؛ سَبَقَ وفكَّرْتُ باستعمالِكِ في كتابةٍ، ألاَ فَتَأمَّلي هذا الكائنَ الذَّاكِرِيَّ الذي هو أنا، ثم التصِقِي مزيداً بهناك؛ فإني، كأيِّ وغد، غيرُ راغبٍ في إلتقاطِكِ مِنْ بَعْدُ، وما كان عَلَيّ، لكي أتخلصَ من دبيبِكِ في متاهاتي وإلحاحِ صورتِكِ على ذهني، إلاَّ أن أورِّطَكِ في مكانٍ جهنميٍّ يذيقك مثل هذه الويلات التي تَرَيْن، ثم أتركك تؤدِّين باكيةً عواصفَ مَنْغُومَاتِكِ الرَّهيبةِ داخلَ ما أكتبُ عاملةً كخلفيَّةٍ صوتيَّةٍ خافتةٍ تتذبذب حسب مقياسِ العاطفةِ الذي يسجِّل درجاتِها اللامحدودةَ بين نهايتَيّ العواء والخَرَس. مكان؟؟. لقد كَتَبْتُ «مكان»، لكني لا أعرف حقَّاً إن كانت الورقة مكاناً أم زماناً أم حالاً أم ذهباً أم...، لا، لا أعرف!، فالمرآةُ في الصِّفْرِ، والهواءُ عجينٌ شفَّاف. أنا ذاهبٌ إلى البيرو لزيارةِ شجرةٍ صديقةٍ ثم الزَّواج معها، هذا في حال سَمَحَت لي أمي بتقشير هذا الجِّدار وكَفَّت عن مساءلة رأسي بخصوص مبيتنا خارج المنـزل. أما عن (.........) ليما الكوكبيَّات، فلا شَكّ بأنَّ مستشفى أمدرمان التعليمي قادرٌ على تهريبِ روائحِ الأدويةِ والمراحيضِ طَيَّ ملابسِ مُرْتَادِيْهِ إلى أقصى مجهولٍ في ليتريتشا العدمِ النيليَّةِ التي تأذَّت كثيراً جَرَّاءَ الرَّعْيِ الجَّائرِ وقَطْعِ الغاباتِ وغير ذلك من أسبابِ تعليبِ السَّمَكِ وابتلاعِ آلاتِ قَصِّ العشب لتسكين الصداع.


    (10)


    أوْقَفَت البئرُ دَرَّاجَتَها البخاريَّةَ قربَ بابِ الخريطة؛ دخَلَت. بعد وهلة، دَمَّرَ الإعصارُ مدينةً فاحترَقَ الأطلس وحدَه داخلَ صندوقِ الكتب المدرسيّة.


    (11)


    وها أنا في الرِّقَاب، لا أتعلَّمُ، مطلقاً!. المستحيلُ الذي سَلَخْتُهُ عن أحد مقاعد السَّيَّارةِ البلجيكيَّة، لم يَقْوَ على الالتصاقِ بمعصمي، فَلَعَقَ دَقَّاتِ السَّاعةِ وليلَ أظافري وهرب. لا أتعلَّم، مطلقاً!. المستحيلُ الذي ترك أعوامي بلا فصول؛ بلا شَعر؛ بلا أعضاء، عَلَّمَ ثيابي أن تتذكَّرَ، تخافَ وتخجل؛ أن تتركني بلا معنى وتُرَافِقَ الأسماكَ إلى المراحيضِ والنَّوم؛ أن تتمايلَ بتثاقلٍ، وهي الفارغةُ، في مَمَرِّ السيَّارة البلجيكيَّةِ المتكدِّسةِ بأجسادِ مجنَّدي كتائب الاسكندر الأكبر. لا أتعلَّم، مطلقاً!. لأنْ... ما الخوف!. لِمَن أشكو عشائيَ الذي صارَ ريشاً سَرْدِيَّاً وأصوات غَنَم؟. لَسْتُ حزيناً، لأنْ... ما النسيانُ سوى وكيلِ الحشراتِ فيَّ والقائمِ بأعمالِ الشَّجَرِ في دولةِ جسدي. لا أتعلَّم، مطلقاً!. لكنَّهم علَّقوني على مسامير. علَّقوني على المساميرِ التي ما اْخْضَرَّت في حقولِ الكوتشينة. أنا عَلَفُ الأباريقِ الجائعة. لم أخبرْهم عن جوعِ الشَّايِ وموتِ أولادِهِ داخلَ الأباريقِ متأثِّرينَ بالقِرْيَافِ الأبديِّ لضيوفِ البواخرِ النيليَّةِ الأتراك. لا أتعلَّم. وأنا الجائعُ، كما هو دأبي، أهرُبُ ومنقاري مطبق. جائعٌ أكثر من أن تَسْتَبْقِيَنِي ضيافةُ الصَّباح؛ جائعٌ مثلَ ثيابي؛ جائعٌ مثلَ تَرْكِي بقايا السَّنَوَاتِ وعظامَ النُّجومِ على طاولةِ مطعم «عيون الكلاب» بـ«سوبا». أبِيتُ داخلَ ساعاتِ الميِّتين، قربَ أحد مخازن الميناء، عسى تأتي سفنٌ غيرُ منتظرةٍ وتَقِلّني إلى جزيرةِ الزَّمَن. قد اللَّيْلَ آكُلُ؛ قد علفَ الأحلامِ وهو يغادرُ الجِّيَادَ العائدةَ إلى قلوبِ النائمين؛ قد يأسي؛ قد هناك. فلا الشَّايُ جَرَحَني، ولا شَرِبْتُ العَرَبات؛ لكنَّه القَصْدُ المشقوقُ وتَمَامُ التَّسَتُّرِ على كِسْوَةِ العيد؛ التَّدَلِّي من عناقٍ ناقصٍ خيفةَ السُّقوطِ في الأعلى تحت جبلِ الصَّوت؛ إرتجالُ العَجْزِ عن تناول اللَّيلِ بأصابعَ مبلولة. فكيف؟، والمناقيرُ المقصوصةُ يَاهَا!!، وفي أيِّ خوفٍ نظيفٍ أَبِلُّ هذا الخبزَ الْمُعَظَّمَ، غيرَ متأمِّلٍ في عفافِ صمتي وشَفَاعةِ الجُّوعِ لي؟. لا أتعلَّم، لأنْ... ما أنا!!. لستُ مَن شَخَرَت الأبوابُ والصباحاتُ مِلْءَ قميصِه؛ مِلْءَ قميصي ترابٌ وعظامٌ وتهاويل، وثيابي تشبه النسيان. لا أتعلَّم، لأنْ... ما إن أهُمَّ بمحاكاةِ أصواتِ البَحَّارةِ الْمَكْوِيِّـينَ بحرصٍ على طرابيز العاطفة، حتى يتوجَّع لساني كدجاجةٍ حَامِلٍ وتَسقطُ منه غُرْبَةٌ كبيرةٌ تصيحُ بلا شفاه. فإن حَدَثَ وتذوَّقْتُ امرأةً ملفوفةً بالكتَّان من الزّجاجةِ رأساً دون أن أصبَّها على القدح، خَفَّت الأشجارُ مذعورةً من مَدْرَسَتِها البعيدةِ في قلبي إلى مستنقعات عيوني، فلست بمستطيعٍ مَشْيَاً بَعْدُ من شدَّةِ اشتباكِ أفكارِ الحيتانِ بأصابعِ قَدَمَيّ. لا أتعلَّم، مطلقاً!. لأنْ... ما أنا!. لستُ الحضور. لست الغياب. لست الوعد. الصورةُ منزلي، والأبوابَ أفترس. فما شكلُ الخوف؟. صباحٌ ثقيلٌ داخلَ السَّلَّة؟، أم طماطم لُغَوِيَّةٌ تشبه النسيان؟. ما النّسيان؟. لا أتعلَّم!.


    (12)


    إن الصَّلَفَ الظَّنُونَ الذي يبتعدُ عن يَدِي على مَهْلِهِ ويتأرجحُ هناك بين اْلْتِذَاذِ نَقَّارِ الخشبِ وروحِ النشيجِ الملفوفِ بعنادي، يَشفُّ بسرعة، ويلتمع عند حدودِ انحسارِ الطاقةِ الشخصيَّةِ التي أوْدَعْتُها في ألْيَافِهِ لتمثَّلَ وجهي ومجتمعي الخاص.


    (13)


    ولو الهديلُ يتعفَّنُ بالذِّكْرَى محشورةً خرساءَ في موقفِ بكتيريا التحلُّل!؛ لو الطيرُ تَمَّحِقُ في صلاةِ السُّهوبِ على آلهةٍ جبليِّين صاروا أساوراً وأقراطا!؛ لو الخفاءُ يأخذُ العالَمَ وتذهبُ الأُمَّهَاتُ إلى معتقَلِ جهنم الكبيرِ بحثاً عن أبناءٍ أطاعوا الألَمَ والمستحيل!؛ لو...، ما أَلْقَى منظراً صَمَدَاً يَعْدِلُ اشتهائي لأنْ أراها تعوس الضَّلالَ لِجُوْعِي وتقدَّمه لي مطويَّاً حولَ طبقِ النَّار؛ أبلِّلُه باللَّهَبِ وأمضغُ الجمرات. يا لها، اللغةُ، مسكينةٌ زوجتي، ما حَمَيْتُها من طَبْخِ «جِمَارِ المستحيلِ عَلَيْنا» وتناوله على العشاء متبَّلاً مطهوَّاً ولا بُدَّ لذيذاً مع أطفالها. ومن آياتِ رحمتي بها، لم أمنعها من أن تنكمشَ تحت القمرِ وترمي بطرحتِها على وجهها خجلاً ثم...، تَلْ تَلَلْ تَلْ...، مثلَ دمعةٍ نحاسيَّةٍ؛ تسقطُ من حِمَى أجمل الأصابعِ إلى البلاط، وتتدحرج إلى أين؟. من يهتم!. جاءتها اللعنة!.


    (14)


    طَيِّبْ، وقد بارَكْتُ الفقداناتِ ولعنتُ المعنى والحياةَ واللغة، فَمَا ذُخْرِي إذَاً لأيَّام المحاكمةِ، الذي سيبرهن لِمُرَتِّلِي الإتهام على انغماسي في المِلَلِ المحرَّمةِ واتِّباعي تقاليدَ الأنبياءِ وملقِّني أصولِ الطَّاو والزِّن والنير&#64364;انا والعبور والمحبة والنعيم؟!.
    الكتابة!. تبقَّت السيرةُ المحفوفةُ بالمستحيلِ والإهمال!؛ تبقَّى لَهْوُ العَطَالاتِ السرديَّة!. وليُمْسِ مَلَلِي زائفاً بِقَدْرِ التَّطابُقِ بين وجهي خارجَ المرآة والوجهِ الآخر داخلَها الذي يبدو كَمَا لَوْ هُوَ نفسه؛ والذي هو أيضاً ليس سوى اجتهادِ الطَّبْعِ الحيوانيِّ في الحجرِ الشَّفَّافِ المتحالفِ مع الطِّلاءِ لِيُسَمَّى مرآةً، في أن يفصحَ عن ورطةِ الجسد الإنسانيّ أمام ممكناتِه التصويريةِ ونزوعه إلى إنتاجِ حالاتٍ مطابقة بلا نجاح!.


    (15)


    الجَّمَالُ يقف أمامَ كتابةٍ مهدَّمةٍ ويتقيَّأ. لم أتمكَّن من مَدِّهِ بكوبِ الماءِ خيفةَ يَمَّحِي فيفقد الكثيرُ من الحرَّاسِ وظائفَهم وتلجأ الزَّخارفُ والإبتساماتُ والرُّوحُ القليلةُ إلى الإنتحارِ هرباً من النومِ تحت جِرَاحِ المادّة السماويّة. أيها الخروجُ يا نفسَ الدخولُ يا تهافتَ العناصرِ، مُدَّ تذكرتَك إلى عنوانِ الكِتَابِ واحتفظ بالكَعْبِ، حتى إن اتَّهَمَكَ أحدُ المكتوبين بقتلِ صديقه وبأنك لم تكن قارئاً فحسب، أخرجتَ الدليلَ الدَّامغَ على إنك لم تكن قارئاً، بل مجرَّدَ مكتوبٍ ذاهلٍ أيضاً، مقروناً بالعبارة: «إنني فقط أمنحُ الآخرين تمارينَ لاختبارِ ذاكراتِ الكلماتِ في أعماقهم باستعمال مُهَيِّجَاتٍ ذُهَانِيَّة!».


    (16)


    لو يَنْهَدّ سَقْفٌ على رأسي!. لا أعرف ما هي الدوافعُ الحيوانيَّةُ التي تسيطر على كياني فأجنح بترصُّدٍ إلى إنشاءِ تصوُّراتي المازوشيةِ المتعلِّقةِ بجسدي وما يحفّ به من حدود. أعرف أنَّ سِتَّاً من الجهاتِ غير الحميمة أبداً، تنظر إليَّ بذات الإهمالِ الذي يسوقني لأن أحشرها في حماقاتِ كتابتي وخيالي. أعرف أنَّ جِرَاءَ عَدَمِيَّةً ذات وجوهٍ ناضجةٍ تُنْشِبُ الآنَ عواءَها في أحشائي وتعضّني بمخالب ودودةٍ دون أن تُفْسِدَ عليَّ لذَّةَ التفكيرِ في... إنني أتعرَّض للنهش نيئاً!. أعرف أنَّ «مستحيلَ الذاكرة/ممكنَ التأليف» يبدأ أبداً عندما يتحسَّسُ أحَدٌ ملمسَ الكفنِ الأبيضِ عاجزاً عن مقاومةِ دَفْعٍ شَفَّافٍ من الخوفِ يَسْرِي في الجزءِ الواقعِ بين الأظافرِ ولحم الأصابع. حرارةٌ سائلة؟.


    (17)


    أنا؟، كلاَّ...، لم أكن محروماً إلاَّ من الموت. «الموت!». لا أعني تلك اللحظة القاطعة ذات النحيب والتعازي؛ بل المكان؛ ما يلي تلك اللحظة. لم أعنِ القبر؛ بل «المكان/الموت»، ذلك الآخر؛ ذلك الذي بأشجارٍ، ربما، وبيوتٍ وبِحَارٍ وصعاليك ومرضى ومجرمين و...، ذلك الـ...، ذلك المكان الذي اسمه الموت!. فلطالما امتلكتُ اللحظةَ؛ لحظةَ أُقتَل، ثم لا أعُودُ أرى سوى الزمنِ السرياليّ، مائعاً؛ بدائياً؛ شرِّيراً، يَجُودُ بيقين الإقترابِ ويَبْقَى حِجَازَاً بيني والمكانِ الذي اسمه الموت، فقبل أن أيأسَ من محاولةِ الإقتحام، تهجمُ عَلَيَّ ولادةٌ أخرى فأنسى. ولكن ما النسيان؟. أثمة شَرْحٌ يبرِّر ما خَطَرَ لي الآنَ مِنْ أنَّ «الموتَ/المكانَ» الذي قصدتُ هو بَـيَانٌ آخر؛ فردوسي؟!. يا للخيبة!.


    (18)


    لديَّ صورة مُمْتَقِعَة تتردَّى، في سهبٍ ما بداخلي، يوماً تالفاً أُزِيلَ عن روزنامة رخيصة: (جمجمة تتقاطع على وجهها عظمتان، مكتوب بأعلاها (مَطْلُوب) بالإنجليزية، سمينةً لامعةً سوداء. بالأسفل خُطَّت عبارةٌ عجولة بقلم الكوبيا ثم رَدَّدَ عليها شخصٌ بقلم البيك الأزرق، تمنحُ صائدي الجوائز حريةَ تحديد الثمن بعد إحضار هذا الشخص حياً لافَّاً عمامته.


    (19)


    سرق الطائر مروحةً دائرةً من مخزنِ المهملات:
    كان في غمرةِ سَعْيٍ لحوحٍ يطلبُ صورةً مادِّيَّةً لما يمكن أن يبدو عليه شكل روح العبد.
    قالت له البئر ساخرةً: «يا عديمَ النظر، هذا عقلُ العاشق!». وأنا الذي رأيتُ ما سَرَقَهُ الطائرُ وقُلْتُ: «مروحة دائرة»؛ آمَنْتُ بعد ذلك بأن ما سَرَقَهُ الطائرُ وإن بدا مروحةً في صورتِهِ الحِسِّيَّةِ فهو غير مختارٍ يعمل عملَ روحِ العبدِ في المزرعة، ويعمل عملَ روحِ العاشقِ في المصنع، ومع ذلك، فهو أبداً في الزَّمانِ وفي المكان، يظلُّ الوحيدَ القائمَ بعمل عينِ الجائعِ في نهارِ السوق.
    كادت البئرُ تَجْهَلُ الطَّبْعَةَ الأولى لوجودِها لولا أنْ أخرَجَها الطائرُ من مخزنِ الأسلحة.


    (20)


    هذه الورقةُ جائعة. ليس خبزاً ما يشبعها؛ بل قوَّة؛ قوةً خالصةً وسيادة؛ صمتاً وفتكا؛ كموناً واكتساحا. لكن لا جنودَ لَدَيْهَا يَحْمِلُونَ عنها الموت. هي وحدَها، عَزْلاء في اللون، بالأحرى، هي جنديٌّ مُتَنَهِّدٌ في غربةِ الشَّظَايا ورُكَامِ السّقوطاتِ اللاحقة، هذه الدَّامَا. لم لا أرمي بها إلى الطاولة فتجد من يطعمها بَدَلَ أن تَقَعَ مُجْبَرَةً فتهضمها موائدُ اللئام. من هي؟


    *******

    سُـرَّة

    محمد الصادق الحاج

    فوق ضحكاتٍ من الحديدِ، هبَّ العنادُ يمشي، مَرِحَاً. يَهُشُّهُ مِعْصَمُهُ المَزْرُوعُ بالأساورِ والنُّقوش؛ خوذتُهُ المُرَيَّشَةُ بأدراجِ المكاتبِ وأدواتِ النِّجَارة؛ كلاُمهُ ذو النُّدُوبِ المضمَّدةِ وربطاتِ العنقِ يَحْرُسُها بَوَّابُونَ أثرياء؛ حلقةُ أُذُنِهِ الفضِّيَّةُ، كليمةُ الخشب ونديمةُ أخلاقِ الضَّباب؛ كارثتُهُ النبيلةُ التي تعبرُ ـ كلَّما أصابَها هدوءٌ وألَمَّ بها سلامٌ ـ خوذتَهُ إلى اسْمِها؛ مَشْيُهُ الفُرُوسِيُّ الذَّاهلُ نحو فكاهات العدم.
    ضافراً من الوُجُوهِ متاهتَهَ المشوبةَ بالآلهةِ المنتحرين يأساً وثُكَالِ عائلاتهم؛ هَبَّ يسحبُ خَلْفَه كلَّ ما أسرفَ كاتبُهُ الخفيفُ في سَرْدِهِ عنه.
    يا عِنَاد. اسْهَرْ على أشجاريَ المحمومات. اسْهَرْ على جِرَاحِ الفزَعِ المُحاربِ، واْمسحْ بكفِّكَ المباركةِ على شَعري. عَلِّمني أيها العنادُ يُتْمَ الأحذية، أيضاً؛ وعَلِّمني أُمُومَةَ الجُّثَّة. مُسَّنِي برشاقةِ التَّعْويلِ على ظِلِّك. بِلَيْلٍ صغيرٍ مُنْزَوٍ في وجهِكَ، طَمْئِنْ أُسْرَتَكَ السُّوقِيَّةَ على أغذيتِها وأيَّامِها، مُدَّها بِذخيرةِ ميراثِ الحنانِ والإغْضَاءاتِ المهذَّبة. وعليكَ؛ عليك حين تَتَّسخُ خوذتُكَ بالإشراقاتِ الحمقاءِ وتتهدَّل منها كأعرافِ الدُّيوكِ، عليك أنْ تفرح. تَحَاشَ الانزلاقاتِ المريضةَ في غرامِ النَّفْسِ التي تُعَلِّمُ العصيان!.
    العنادَ؛ صديقي، يا بطشَ أحلامي بعرباتِها المتوحِّشة، ويا غَدَ الحواسِّ الطِّفْل. كَمْ كراهيةً داخلَ حقيبتِك؟. كَمْ حيواناً صَنَعْتَ لِحَصَاةِ الحبيبةِ المتدحرجةِ من تلالِ السُّرْعة؟؛ السُّرْعةِ العاليةِ ذاتِ الشَّعْرِ الأشقرِ وغصونِ التَّتْويجِ القيصريَّة. السُّرْعةِ الممهورةِ بتواقيعِ المباني والسَّاعات. كَمْ يا عنادُ سَبَبَاً أعْجَمِيَّاً أهْرَقْتَ لِتَرْأَفَ بك آهةُ الجُّثَّة؟. أنْتَ كَثِيبٌ وأقدامُك تلفزيونات مَطِيرة. كأنَّكَ كأسٌ، ولَكَ نملٌ حَيٌّ منحوتٌ على ساعدِكَ، يَهْجُو بصيرةَ المراوحِ وبصرَ الأبواب. كأنَّه ذَهَبٌ. مجنون. سَرَاطينُكَ الفضائيَّةُ تلهو بمقصلةٍ وحيدةٍ منصوبةٍ في الصحراءِ الأُولَى، يَسَارَ مَوْتِك. كالنُّمورِ المَطْلِيَّةِ بالعَدْلِ، المعطونةِ في عافيةِ الخرابِ وعُلَبِ الحلوى المغلَّفة، بَدَتْ لي فُكاهتُكْ. فَقُدْ غَزْوَتَكَ الكونيَّةَ ضِدَّ النَّخَّاسينَ المبارَكينَ. ضدَّ الخاطباتِ المعدنيَّاتِ ذَوَاتِ الثَّدْيِ الواحدِ والدَّمِ الكفيف. مَطَايَاكَ سَرَاطِينٌ، دُرُوعُكَ مُحَّارٌ، سهامُكَ ريشٌ، وسيوفُكَ وَرَقُ المجلاتِ المصوَّرة. للأقفاصِ النباتيَّةِ الحَيَّةِ أنْ تَمُدَّ جُذُوعَهَا مِن داخل جسدِك. ما ليس لها النُّمورُ الزرقاءُ المسكوبةُ فيها من الصنبورِ المعطوبِ المثبَّتِ على قلبِك. يا عنادي، دَعْ حسابَ الخساراتِ لغيرِكْ ولا تَعُدْ، فمَسْكَنٌ وطيدٌ داخلَ الغَزْوِ، والنهارُ الجريحُ المتخبِّطُ كاللِّسانِ من صُورَتِكَ المُبَرْوَزَةِ بالكواكبِ والخَجَل؛ يُطْلِقُ ماشيةَ الحلمِ المجنَّحةَ على مزارعِ الكولاك الفضائيِّينَ، ويُسَرِّحُ كتائبَ المِثْلِيِّينَ الجبابرةِ قُرْبَ سَديمٍ نحاسيٍّ مُسَوَّرٍ بالشَّوْكِ والعُطَاسِ اليابسِ محروسٍ بحكمةِ البحرِ إذْ يجلسُ أمامَ البوَّابةِ وقُبُّعتُهُ الشاسعةُ المصنوعةُ من سَعَفٍ جِنْسِيٍّ تهمسُ للكنوزِ طَيَّ دفاترِ تلاميذِ الابتدائيةِ بحديثٍ ناعمٍ وتُوْمِئُ نحوَ البَوَّابِ الغَافِي تحتَها بإشاراتٍ فاحشة. صُورَتُكَ معلَّقةٌ على قماشِ الخيمةِ جَنْبَ الأفكارِ والخرائط، أمَّا سَتْرَتُكَ العسكريَّةُ المُتَّسِخَةُ، سَتْرَتُكَ العسكريَّةُ المُتَّسِخَةُ، فَشَأْنُهَا شأنُ الذي لا يُذْكَر. ضُبَّاطُكَ الجغرافيُّونَ الذين بعثتَهم لِجَلْبِ تُرْمُسِ الأبديَّةِ مِنْ مِصْرَ الأُسْرَةِ الرابعةِ عَشْر، أَحْضَرُوا لك هذه المَرَايِلَ الجديدةَ؛ السُفُنَ الفَضَائيَّةَ المعطَّلةَ، الفواكِهَ الهرميَّةَ الهيأةِ الْبِرَائِحَةِ البارودِ شَهِيَّةً وتكمنُ داخلَها بذورٌ ناطقة. الضَّابطُ الذي كانت معلوماتُهُ التاريخيَّةُ دقيقةً، عادَ بِرِيشةِ حصانٍ في شَعْرِهِ وزهرةِ لوتس تَمُدُّ أقلامَهَا من تحت سروالِهِ الأبيضِ القصيرِ؛ وهذيانٍ متخشِّبٍ في فمِهِ؛ وعينين مذعورتينِ تَبِيْضَانِ الأثداءَ المعدنيَّةَ والأكوابَ المجنَّحةَ والتَّقاليدَ الفرعونيَّةَ الرَّاسخةَ في تبادلِ الأَسْرَى والأسلابِ مع مندوبي الضَّوْء والموسيقَى وسائرِ الأجناسِ الفضائيَّةِ الأُخرى. الضَّابطُ المؤمِنُ الوحيدُ في كتيبتِكَ الضَّالةِ، جاءَ مسروراً، بِخِفَّةٍ، رَفَعَ إليكَ التَّمَامَ الدُّخَانِيَّ، ورَكَضَ إلى طفلتِهِ الصغيرة: (هَلْ جائعة؟). نَظَرَتْ إليه بعينينِ فارغتينِ، فَكَّ أزرارَ سَتْرَتِهِ العليا، أَخْرَجَ ثديَهُ المحتقنَ ثُمَّ ضَمَّ الصغيرةَ إلى صدرِهِ بأمومةٍ عميقة. (لَم أذُقْ أشهَى من لبن أبي، لم يُرْعِشْنِي جسدٌ كالرّضاعةِ من ثَدْيِ أبي). الآخرونَ، بمرحٍ مصقولٍ بِصَنْفَرَةِ الخشبِ، تحدَّثوا عن كهنةٍ زُرْقِ الأجسادِ ذوي ذيولٍ وأجنحةٍ صغيرةٍ على جوانبِ راحاتِهِم.
    فَاْسْمَعْ يا عناديَ السِّيَرَ كُلَّها؛ لكن احْذَرْ أن تسقطَ في فخاخِ الرِّواية. لا تَحْكِ لمن لا يصونون الحكاية. الحكايةُ دائماً يا عنادي هي أنت. فَرَمِّمْ مناطيدَ الحنين، رَمِّمْ مناطيدَ الحنينِ حريصاً على الحبالِ والندم؛ الندمِ الذي يذهبُ بِكُمَا في العُلُوِّ المُتَأوِّهِ من دَقَّاتِ معاولِكَ الذهبيَّةِ، عابراً الجِّبالَ والمنتزهاتِ والعَرَاقَة. أدواتُ نِجَارتِكَ مصنوعةٌ من نكهةٍ مجهولة. ظَنَنْتُهَا نكهةَ الإقامةِ المُرَّةِ، وهي ليست كذلك. ظَنَنْتُها نكهةَ الجَّذَلِ الأخرقِ باقتدارِكَ أن تكون أنْتَ؛ لا سِوَاكَ، وهي ليست كذلك. ظَنَنْتُها نكهةَ الحربِ البرزخيَّةِ المخلَّدةِ في أحشاءِ كُلِّ بِئْرٍ ماشِيَةٍ، وهي ليست كذلك. وهي ليست أيَّاً مِمَّا ظَنَنْت. عالقاً حتى الاحتراقِ صديقي بِدَوَالِي مشيمةِ الفرديَّةِ الثمينة، كُنْتَ تَرْسُفُ في بَلاَيَاكَ الورديَّة، ومكتوفاً بكتَّانِ الدُّموع. ولكنِّي هنا، أَسْتَنْجِدُ بمعجزاتِ الدُّموع. أستنجدُ بفُحُولةِ الجَّمَادِ، والجَّمَادُ ما يخذل زوجته إلا مُكْرَها. أنا بَتُولُ الجَّمَادِ، أنا الواصلة، أنا الشَّجَرُ الذي في الجَّسَدِ مُرْعِب. الحيوانُ الذي في الحَجَر. الطَّائرُ الذي في الكَبِد. الفَجْرُ الذي في البئر. اللَّحْمُ الذي في الموسيقَى. يالَلرُّعْب!!، ياللرعبِ يا عنادي. مَا مِنْ جَسَدٍ يَكُونُ حَيَّاً إلاَّ يكونُ بئراً حُرَّةً؛ بئراً ماشيةً، بئراً طائرةً، بئراً ساريةً في عاصفةِ النَّهْر. فَقُلْ للأقدامِ والأجنحة؛ الأقدام والأجنحة: (أيُّها العالَم، يا زهرةَ الحياةِ، يا قُبْلَةَ الضَّوْء الدَّافئةَ على خَدِّي. سأكتبُ لك أغنيةً بسيطةً مجنونةً، هي زَوْجَةُ سهولتِكْ؛ امتلائكَ وتعقيدِكَ السَّامِي). ثُمَّ اْصْمُتْ، حتى تُقَالُ لَكَ: (غنِّ!). واْفْرَحْ!. أبداً. أنت، يا صِنْوَ الدَّمِ. يا ضَجِيعَ الجراثيمِ النبيلة. يا صَنَمَ المعابدِ السوداءِ الصَّارخِ من شِيَاطِ الرُّوحِ العظيمةِ وهي ترقصُ داخِلَهُ، العَاوِي من سُهُولٍ خالدةٍ تَمُوْءُ في رهافَتِهِ. يا لَمِشْيَتِك!، يا لَهَا... العَدَمِيَّة!. لكن.
    عنادي، أيُّها الجرحُ الوحيدُ داخلَ عافيةٍ موحشة. عينايَ شاحبتانِ مِن أرَقِ الخيولِ المتحجِّرِ فيهما. عينايَ مَجَرَّتانِ مفقودتانِ على ساحلِ الموتِ والجنون. وأنْتَ كَلِيمُ حُزْنِي وعبوري. أنت حزني!. فيا شارداً في براري بسالتك، أيُّها الذَّاهِلُ بإتقانٍ من تحديقِكَ الرَّمْلِيِّ في ممالك مسروقةٍ من جيوبِ السواحلِ والأُمنية؛ الصحاري الساكنةُ في أقدامِكَ تَلُفُّ عمائمَها الزرقاءَ وتخطو عليك مختبِرةً بِعِصِيِّها النورانيَّةِ مواضعَ الحنينِ في جسدك القاحل. أنت أيُّها الصَّبِيُّ العابرُ، يا قرصانَ الهجرةِ والمغامراتِ المرتجلة، في عيونِكَ الغاباتُ كُلّها، وشَعْرُكَ يَنُثُّ المرارةَ والجنونَ وأحذيةَ الموتِ البالية، متى تنام؟.
    في مسارحَ بَحْرِيَّةٍ، مفتونةٍ بالأسى وأعوادِ الثقابِ المحترقةِ وبصاقِ التبغ، أطْرَتِ المتاجرُ المهدَّمةُ على جمال أبوابها، وأخجلَت خوذتي بالمديح. فَانْتَهِرْها أيُّها العناد: (كُوني ليسَ غيرَ الشَّجر). لأنَّها الشَّجَرَ، ما كَانَتْ، وما أنتَ كَانَتْ لغايةِ الساعةِ إذ أنتظركما لكي تقتلاني!. ولكن.
    في اختباراتٍ يسيرةٍ للحنينِ، كان هذا رحيلاً مطهُوَّاً بحذقِ البناتِ، ومفتولاً على شاكلةِ ذهبٍ وحيدٍ وحزينٍ يتبخَّرُ في أشواقي ويختتمُ السَّعَادَاتِ بضربةِ مِنْجَلٍ على سَاقِ المَلِكَة. كُنَّا هناك، في مراحيضَ ضوئيَّةٍ، نبدِّدُ الحماسَ ونُغْدِقُ الْحُزْنَ والهتافَ الأخرقَ على سيِّداتٍ يَعْبُرْنَ دونما اْهتمامٍ أمامَنا، يَعْبُرْنَنَا، يعبُرْنَ عطفَنا الإسْفِنْجِيَّ على مؤخِّراتٍ من زجاجٍ تزحفُ لاهثةً خلفَ كوتشينةِ الرُّوحِ المَدَنِيَّةِ التَّالفة؛ خلفَ الرَّوَثِ المعدنيّ الجَّافِّ لطبولِ الأسواقِ المنثورةِ في الفضاءاتِ الصغيرةِ للنفْسِ كَفَزَّاعَاتٍ عاطلةٍ تحتَها تَبِيْضُ الحَلاَزِينُ السماويَّةُ آباراً خفيفةً متأثِّرةً بسوءِ التَّخزينِ والتغذية؛ وعليها يضعُ الغرابُ منظارَهُ الشمسيَّ وحنينَه الزَّاجل. كُنَّا بَحَّارةً مقهورينَ، يُضْرِمُهُمُ السُّعَارُ لاْمْرَأَةٍ في جسدِ أوَّلِ مرفأ، فيَنْزَعون قبعاتٍ أسطورياتٍ، ينْزَعون الدبابيسَ التي من مَاءٍ المثبَّتةَ على أكتافهم، وينْزَعون الـ، ينْزَعون، ينْزَعـ، ينْـ، آهآهآااااه، بَصْقَةٌ عنيفةٌ!... كيف أكتبها!؟. ونداؤُكَ جارحٌ يا جسدي؛ جارحٌ حَدَّ يُدْمِينِي؛ حَدَّ لا أحدَ سِوَايَ في الغبار. وشُهَابٌ في الرُّوح، يَلْثَغُ بكلامِ الطفولةِ الهَيِّن. شُهَابٌ يصحو مدغدغاً بسأمٍ عيونَه، ويغادرُ فِرَاشَ الأبديةِ البارد. يا عنادي، شُهَابٌ في الرُّوح، لا يَرْأَفُ بالشَّجَرِ النائمِ في دمي، يركله بطيشٍ، فأنهضُ من غيبوبةِ العالَمِ منحدراً على شاكلةِ يأسٍ إلى قاعِ كارثةٍ صبيَّةٍ يَجْرَحُ لبنُها الصّلبُ صدري فأفيضُ بالرَّمادِ والصَّرخةِ السريةِ والتعب. أنا يا عنادي وحيد، وأنا رُعَافُ الغيبوبةِ المتقطِّعُ الرَّاكضُ بخطواتٍ مسرورةٍ فوقَ عشبِ النسيانِ الطيِّب. أنا جدرانُ البحرِ الأنيقةُ الضائعةُ بعطرٍ ذهبيٍّ مزروعٍ في خواصرِها الرَّهيفة. أنا حكايتي عَنِّي؛ عنك أيُّها العناد؛ عن الأبواب؛ عن البئرِ الزمنيَّةِ الطليقةِ في المدنِ مثلَ إعصارِ من رِغَاب؛ عن سَتَرَاتِ ضُبَّاطِ الحربِ الأهليَّةِ في الصفحة (43) من كِتَابِ العالَم، وعن بَيْضَتِنَا الصغيرةِ الآخذةِ تنمو كَعَيْنِ الكوْنِ الإسلاميَّةِ تحتَ رُكْنِ الجامع الكبير بالسوق العربي بالخرطوم. أرأيتَ إلى لسانِ المفارقةِ المشقوقِ كيفَ يلدغُ دونَ أن يشعُرَ بالأرضِ المسمومةِ التي انكشفَت حتى سيِّدُ الظُّلُماتِ الخاطئة؟. لااااااخي؛ لكنِّي مَلَلْتُ هذا ومَلَلْتُ هذا. ماااااااآه...؛ مَا مِنْ...؛ ما مِنْ أنا؛ ما مِنْ سِوَاي!. مِنْ جَسَد!. لكن.
    بِجيتارِهِ الحجريِّ، كان أمْسُكَ يتجوَّلُ في الحقول، عازفاً شجراتٍ صامتةً لأصابعِ الحياةِ القرمزيَّة؛ أصابعِ الموت، وكان قميصُهُ المورَّدُ يُهَفْهِفُ مع الضَّوْء الصَّدِيقِ باعثاً بغمزاتِهِ الشهوانيَّةِ إلى أحلامِ مَوَانٍ فقيرةٍ تسيرُ فوقَ الغضب. فاْرْحَلْ أيُّها الطائر؛ أيُّها الجنديُّ الباكي؛ يا عَيْنَ الألواحِ على معارجِ أكتافيَ، يا رقيبَ الأبابيلِ الدَّائخة، أجْمَعْ شمسَكَ المهشَّمةَ من إنائي واْرحل. شمسُك لم تعد تضيءُ سوى خرابها، وشمسٌ لا تضيءُ خرابَ العالمِ، شمسٌ فاسدة. شمسُك القديمة؛ الضَّوْءُ المستعادُ من نُبُوَّتِهِ الآخذةِ؛ نُبوَّةِ الفُتُونِ، إلى نُبوَّةِ الأغلال. لَمْلِمْها، لَمْلِمْكَ ولَمْلِمْ...نِي؛ أنا زهرةُ الخرابِ الكُوشِيَّةِ؛ تمثالُ الطبيعةِ الأزليُّ المتفجِّرُ جلالاً مِن قُبْلَةٍ وحيدةٍ نَثَرَتْها عليه شفاهُ الظَّلامِ المتخبِّطةُ في قُرْمُزِ شُحُوبِها. وفي دمِكَ المهجورِ، وحيداً، وقفْتُ وسطَ الغاباتِ اليابساتِ؛ مُلَوِّحَاً بِيَدِي في عَرَائِكَ الخالدِ طارداً طيورَ الشهوةِ وبناتِ الحلمِ المجنَّحاتِ عن زرعِكَ الطاهر. خَلَوْتُ بالحياةِ؛ أزرعُها نَسْخاً في ترابِ نفوسي الشَّتَّى، أسقيها خميرتي فتَطْرَحُ كُلَّ نهارٍ بنتاً خضراءَ لنا؛ وولداً أزرقَ للطَّيْر. يتخاصران أمامنا، تَبِيْضُ البنتُ شمساً ويَدْفُقُ الولدُ من خصيته شجراً، تنام الشمسُ، يَنْدَسُّ الشجرُ فيها فَنُغْضِي حياءً. وعندما نصحو، تلهو أصابعُنا بالحصى، وعيونُنا مسرورةً تعتني بأولادِ المياهِ وهُمْ يمرحون فوق دمِكَ المهجورِ وداخلَ غاباتك المتصخِّرات. كنتُ أضحكُ مِلْءَ يدي، وكنتَ تغنِّي مع أمسِكَ وهو يعزفُ بجيتارِهِ الحجريِّ مِلْءَ العالم. يا صديقي، كنتَ تصنَعُ غناءَ الجَّماداتِ الساكن. فماذا يقولُ البحَّارةُ السِّرِّيُّونَ في مَهَابِلِها؟، ما غناءُ السَّجِيناتِ المدوَّراتِ في حَشَا وردتنا الغامضة؟. نغْسلُكَ أيُّها القرصانُ الجميلُ من حراشفِ الحرقة. نغسلك من الكواكبِ النَّمَشِيَّةِ النابتةِ على عَانَتِكْ، نَمْحُوكَ فينا، نُكْمِلُكَ بأناشيدِ حصادِنا المرتجلة، نُكَلِّمُ فيك الوِلاَداتِ الحكيمةَ وطقوسَ الجِّنْسِ الباسلة، نُرْسلُ شعورَنا الزرقاءَ في سُهُولِ ثَدْيَيْكَ الصغيرين ونحطِّمُ لَبَنَنَا الكونيَّ على جسدك. فَاْلْعَبْ. سَدِّدْ كُرَاتِ الحنينِ نحو خصورِنا وبَوَّاباتِ سجوننا. ازْرَعْ كآباتِكَ واْرْقُصْ على حقولِنا الطائرةِ التي هل ترتويَ إلا من دفقاتِ دَلْوِكَ الحيِّ. تَدَفَّقْ، ودَعْ رؤوسَ سُفُنِكَ تطيحُ بكُلِّ الحُرَّاسِ المُتَصَلِّبينَ على أبوابِ مدنِ الرُّوحِ. واْدْخُلْ؛ دُخُولَكَ وحدك، يا نهرياً. ولكن.
    أزِقَّة الفَجْرِ العَطِنة. من حوائطِها يُطِلُّ الفُطْرُ الذَّكِيُّ موسوماً بالخسارةِ والبِحَار؛ غَاصَّاً بنجماتٍ خجولاتٍ في سَتْرَتِهِ السوداء؛ مزهوَّاً بالفرحِ المَجْدُولِ من عنقه وعينيه. كان الكَنَّاسُ جميلاً، يُطْرِقُ نحو قمامتِهِ النبيلةِ في أسى. أرواحِ البناتِ والصبيان. أحزمةِ سراويلِ البحر. خوذاتِ الجنود. عيونِ الأسماكِ الصغيرة. أغطيةِ الأقلامِ الضائعة. أحزانِ القُدُورِ التي عَدِمَتْ ما يُطْهَى عليها. أعقابِ لفائفِ التبغِ التي ألْقَاهَا موتَى. أناشيدِ عُمَّالِ الموانئ. عظامِ الفجر النَّافِقِ وَسْطَ صحراءِ الأجسادِ الوفيرة. أخَذَت المكنسةُ الفضائيَّةُ تَهُشُّ الجَّميعَ بِرِفْقِ يَدَيْه النحيلتين. كَنَّاس.
    وكُنْتَ يا عنادُ مشتولاً تحت أحداقِها؛ مسطولاً بأُسْرَةٍ صغيرةٍ من الحَنَاناتِ تقبعُ تحت قِطْرَانِ عنايتك، وكان أَسْرَاكَ يتهامسون بأمل. يداكَ يا عنادي ملطَّختانِ بأرواحِ المباني والآلهة. يداكَ محجوبتان عني بأشِعَّةٍ قادرة. فكيف أعرفك؟. وكيف أعرف الكَنَّاس؟. أنا شَمَّاسِيُّ المدينةِ الضائعة. رَبِيبُ الوحدةِ والهجرانِ والحنينِ والغربة. تُرْضِع عقاربُ الممرَّاتِ الباردةِ عافيتي، وتُسَجِّيني زنازينُ الحزنِ على حِجْرِها القاسي. فوق نحيبِ الأصدقاءِ الوعرِ مشيتُ بقسوةِ ليلٍ جريح، ركلتُ الدموعَ الرهيفةَ بمرارةٍ وقهر. كانت الدموعُ طُرُقَاتٍ، كان الماءُ زوجةً، كانت العاصفةُ وردتَنَا السوداء، أااااااااااهِ وكان الجنونُ حرامَنَا. مشيتُ، عن كتفي تتدلَّى شهورٌ لاحقةٌ من مصيرِ بَحَّار، وأمام صدري ترقص قلادةُ الكارثة. منذورٌ للدمارِ وَحْدَه، والجسدُ المدسوسُ فِيَّ ينادي. يدعو نمورَ الدَّمِ الحارَّةَ لوليمتِهِ المحترقة. يدعو نساءً مغروساتِ الأقدامِ في وحلِ الشمس. يدعو الأجنحةَ الكامنةَ في صندوقِ الرُّوحِ المفقود. يدعو...، ءااااه لا، لا يدعو أحداً، يدعو جسداً، يدعو ألجسد. فيا ظِلَّي، أيُّها العناد. سُقْ كنَّاسَنا الكئيبَ إلى متاهةِ الحلمِ المضيئة. سُقْهُ بلا ساقٍ إلى مخاضةِ الدَّمْعِ الخشبيَّة. إلى خبَّازِ الأبديَّةِ الأخرقِ، لو يَسْكَرْ برغيفٍ من تقوى. فكنَّاسُنا، يسوق، كذا، بقايا الآخرين إلى مَظَانّ لايختارها سِوَاه، ثُمَّ تناوَلْ مكنستَك الفضائيةَ يا عنادُ، وقُدْ مَن تنامُ داخلَ أحداقِهاِ إلى سُعَارِ الموهوبين في سرقةِ أدوارِ الحرقةِ والفشل، لكي ترتويَ وترى كيف حين يَلدَغُ اليأسُ يُضِيءُ الرؤوسَ الجميلةَ المغموسةَ في تَلٍّ من لَدَغَاتِ الحُبِّ مثل إشارةِ المرورِ الحمراء. مجرمون. يتوِّجون جِرَارَ الأمنيةِ بصيحاتٍ معدنيةٍ ساخنة. يَحْجُلُون على حَوَافِّ آبارِ العنادِ المهرِّج. متفرِّجون هُمْ على مدارجِ سيرك الأبد، وباعةٌ جوَّالون يُغَطُّون قُدُورَ الإنسانيَّةِ الفارغةَ بأطباقِ الرحيلِ المصنوعةِ من سَعَفٍ ملوَّن. فَاْرْفَعْ عَصَاكَ النحاسيَّةَ على مِعْزَةٍ أزْهََرَتْ في جسدي، لتسير أمامك قارئةً وَسَامَةَ الفضاءِ وأشواكَ الحضيضِ النبيل، متصفِّحةً كرَّاساتٍ مهملةً في مخازنِ القبائلِ السماويَّةِ الضائعةِ، وتأمَّلْ غسيلَنَا الكونيَّ المنشورَ على حبالٍ خفيةٍ مفتولةٍ من حرقةٍ وضَوْء، تحسَّسْ آباطَ ملابسنا المعلَّقةِ، واْضْحَكْ؛ ألضَّحِكَ الحتميَّ على المحُاَرِبِ مثلك.
    فيا لإرْخَاءَةِ الجفنِ المرسومةِ في عينيها يا عناد. يا للشَّفَةِ المائيَّةِ المكتوبةِ تحت خصرها. ها هي تنفرج لك، فَأَدْخِلْ حلمتَك البهيَّةَ واْحْلِبْ في الشَّفََتَيْنِ لََبَنَكَ الحَيّ.
    هذا عِطْرُهَا المعدنيُّ المنهوبُ من سواحلِ الفجرِ المهجورِ، يصفِّدُ بسلاسلِ اللُّغْزِ مدناً قديمةً وأخرى مستقبليةً ويَجُرُّها خلفَه كالبهائمِ إلى أسواقٍ موسميَّةٍ متفرِّقةٍ تُعْقَدُ كُلَّ دورةٍ قَمَرِيَّةٍ داخل بِئْرٍ مختلفةٍ على شرفِ الدمعةِ الكونيَّةِ الخالدة.
    هذا إبطُها المُسْكِرُ الراحلُ في نباتاتِهِ الغريبةِ، يَطْرَحُ بَيْضَاً مُجَلَّداً بالنورِ ويطْلِقُهُ قذائفَ عُضْوِيَّةً حَيَّةً على أخيلةِ الطِّينِ تسقطُ ناشرةً بذوراً لا تُسمَّى.
    هذا عواؤها الصَلَوَاتِيُّ عند سجودِ الجسدِ على الجسد، يطوف فوق الزمانِ كَنُوْنٍ إلهيةٍ تردِّدُ سَجْعَ الحياةِ الرهيبَ، ماحِيَاً كتابَ اللَّحْمِ صفحةً صفحة. كانت مبتلَّةَ الفخذين بمواءِ الكواكب.
    وأنا راكضٌ بسرعةِ الجَّمَالِ وهو يلاحقُ الخوذاتِ، خَلْفَ جَعَارِينِ القلبِ البريئة؛ خلف ساعاتِ الرُّوحِ المشغولةِ بِرَتْقِ ثقوبِ الأبديَّة؛ خلف الطُّيُورِ الكَالْسِيُومِيَّةِ المجروحةِ في دِيْنِهَا؛ خلف كَلاَمَاتِ المرأةِ الوحيدةِ هنا. الرَّكْضُ قُرْبَ يَدِي يُضَفِّرُ غدائرَ الفجرِ الطويلة باكياً، ويُرْسِلُ شَعْرَ الشَّوْقِ الأخضرِ جارحاً مظلماً كالقُبْلَةِ في دغْلِ المغامرةِ الماسِيّ.
    حين خبَّأتُ مطري بين شفتيها، تكلَّمَت السُّلالةُ مِن هناك. نَبَتَ اللُّؤلؤُ من أظافرِها حزيناً، قالت لي: (أحْ حْ حْ حْ. جَسَدُ الكَسَلِ لَزِجٌ. في عينيه ضُمُورُ أُنْثَى ويداه المعروقتان تَغُطَّان في صَحْوٍ أزرق. كُنَّا نمارسُ الحبَّ بأعضاء مرئية. كنتُ جوربَه القزحيَّ وخاتمَه المدهونَ بالحُبِّ الذي يَتَأَكْسَدُ كلّما طَفَحَ بِنْصَرَهُ بالعَرَق. كنتُ رشاقتَه وأجنحةَ الغلامِ حين البنتُ تخطر أمامه؛ لكنَّه مع ذلك، لم يكن سوى الكسل، مجرَّداً لغاية نفسه المنهارةِ خارج كتلة الوجود، ولم تكن فتوحاته القارِّيَّةُ في الجمادِ وأوْجُهِ الناسِ غير نِصَابِ المعنى كاملاً حول مائدةِ العدم، يفتقده سيَّافُ الأرضِ، يقوِّسُ أعضاءَ الأطفالِ والموتى بضحكته الضَّارَّة، يراه الساحرُ قُبَّةً سماويَّةً تتلألأُ في أعين المحاربين وهم يبكونَ سِرَّاً على أكتافِ مجاوراتهم بعضاً. أنا، يا مستغرقاً في العنادِ الذي لا مَعْنَى، سلالةٌ رجيمةٌ ومجروحة).
    مَجَّت السُّلالةُ من لفافةِ نفسها حرقةً متوهِّجةً، التقطَتْ حقيبتَها الصغيرةَ في خفَّةٍ، غادَرَتْ بَهْوِيَ الشاحبَ، تاركةً اسْمَهَا الأزرقَ يرقصُ بجذلٍ على المنضدةِ جنبَ القِنِّينَةِ الفارغةِ والمُحَّارَةِ الطافحةِ بأعقابِ البِرِنْجِي. تاركةً قرطاً ذهبيَّاً صغيراً يضحك في راحتي. تاركةً عواءَها معلَّقاً على الجدارِ قرب الباب، تاركةً حذاءَ المياهِ المُتْرَبَ على حافَّةِ السجَّادةِ، تاركةً أحَدَاً دامياً يسكنني، تاااااااّ رَتَّتتتَّارت تا اّراااا. سِيْرِي. سِيري يا حبيبةُ فوق الريش. سِيري فوق رمايةِ الرُّوحِ على طرائدَ مُسْتَكِينةٍ في هجعةِ الصلاةِ على الأطفال. طَئِي بمجرَّتِكِ الجِّلْديَّةِ تلويحاتِ البحَّارةِ الضائعينَ في فُتُونِ اللاَّنهايةِ وعُرْيِ فتيانها، واْقترِضِي يا سلالةُ الطائرَ الباكي من ساعتِهِ؛ من حزام سروالِهِ الجديد. انْهَبِيهِ ذات غزوةٍ خاسرةٍ من أسلحةٍ لم تعد تحرسه. احرسيه. احرسيه. واْقطعي سُرَّتَهُ من مشيمةِ الإقامة؛ ففي روحِهِ حشراتٌ يَنْهَبْنَ مِنْهُ الخزائن، وطَائرُهُ يسبَح في رمادٍ مُتَبَلِّرٍ من شهواتٍ وريش. المدخنةُ الذهبيَّةُ أعلى حلمه، تنادي ثَدْيَاً بأجنحةٍ عَبَرَ مِِن أمامِها مزروعاً بالمدارسِ والمنتزهاتِ والمراحيض. راحَتُهُ تَحْثُو، يا عناداً من هبوبٍ خرقاءَ، لؤلؤةَ الجنونِ المطحونةَ في آنيةٍ واقفةٍ كالجنودِ الباطلينَ على بوَّاباتِ المدينةِ الثَّيِّب. هو دوماً، كخادمِ المَلِكِ الوحيدةِ العجوزِ في الأرضِ الفارغة، يعجنُ قلقَهُ الأسمرَ بِكَفَّيْنِ مرتعدتين مُحَاذِراً أن يَطَأَ ثعابينَ الحنينِ النائمةَ تحت قدميه في مزرعةِ الصلاةِ المأهولةِ بأغطيةِ الكولا والدَّوابِّ الإلكترونيَّة وكائناتِ الكارتون الحَيَّةِ والنُّذُورِ الشَّعْبِيَّةِ العاريةِ المرفوعةِ إلى آباء مدلَّلين لا يَخْرُجُونَ من فَاشِرِهِم السابعِ الأعلى حتى لا يشير الأطفالُ إلى خُصَاهم المقطوعةِ وأعضائِهم الصغيرةِ الآمنةِ بين الأقواس. كان يتحسَّسُ شمسَ الدَّامَا الضائعةَ في سماءِ يَدِهِ بشفافيةٍ اْسْتَعَارَها من ضَجَرِهِ المكتوفِ إلى صخرةٍ صديقةٍ تعثَّرَت بها أقدامُه في الصَّبِيِّ الذي لا يموتُ مكتوباً على العالم يوماً بِيَوْمٍ حتى تخرُج البَيْضَةُ من عَيْنِهِ وتُبِيدُ بزرنيخ النظرةِ غَرْنُوقَ الأملِ القاحلِ ذي السِّدِيْرِيْ الملوَّنِ والقميصِ الأزرقِ والبشرةِ الزِّنْكِيَّة. اسْمه؛ اسْمُ مَن لا يَعْنِيهِ أن يفقدَ واحداً من أعلامِهِ المذَكَّرة؛ علاماته.
    عَااااوْوْوْوْوْوْوْوْوْوْوْوْوَااااه. ارفعي العداوةً أُوْقِيَةً أُوْقِيَةً حتى لا تبدِّدي ميراثَ العالمِ الثمين؛ إرفعيها بِمَاشَّةٍ من وعورة الصوت، ضعيها برفقٍ فوق قمةِ حجرِ النارجيلة ثم دخِّني ما ذخَّرَ به الإنسانُ بندقيةَ التأريخِ الصَّدئة. أنا عَلَّمْتُكِ يا سلالةَ الريحِ كلامَ النوافذِ فعلِّميني أعيش. علِّميني كيف أمسِّدُ الكتابةَ بأناملك، كيف أستغرقُ في عواءِ الذَّاتِ دون أن أبكي.
    داخلاً في دبيبِ أحلامِ النايلون البطيئة، بأقدامٍ يلوِّثها غائطُ الشمسِ؛ طَيْرُها وحريرُها، وتتنقَّلُ بين شقوقها معسكراتُ لاجئي الشوقِ وكتائبُ المطرودين من جنائن (هُوْرْقِلْيَا) الثانية، دُلِّيني يا سلالةُ، يا عناد. دُلاَّني على فحولةِ الجَّماد. فأنا، مشيراً بحاجبِي إلى حِلْبَةِ القلبِ وبلاستيكِهِ الخصيبِ، أرُشُّ الغُرَفَ على أعمدةٍ مهجورةٍ في الكواكبِ السريةِ النائمةِ شمالَ الندم. أقف، مثل مُنَجِّمٍ ملحدٍ، فوق القلاعِ المكشوفةِ أقرأ العالمَ بحاسَّةِ المواد، راصداً زراعتيَ الكونيَّةَ، كيف نَمَتْ مدناً آمنةً ولفائفَ بِرِنْجِي، راصداً بذورَ الهباءِ المطحونةِ، كيف نَمَتْ خبزاً مضيئاً؛ هدوءاً وملابسَ داخليةً ينتظرُ الأبدُ نضجَها ليقطفَها فَيَدْرَأَ بها عورته القديمة. أنْخَطِفُ ـ متأمِّلاً مائدةَ الحياةِ الأخيرةِ ـ لإِرْخَاءَاتٍ ملوَّنة في جفونِ النهار؛ لِحرائق صديقةٍ؛ لِدَوِيٍّ مُهَشَّمٍ يتساقطُ من سقوفِ الأملِ المتهالكة. أنخطفُ نحو سيراميك الهزيمةِ الشاحبِ المثبَّتِ على أرضيَّاتِ الغرفِ المنشورةِ في عراءِ الفقر مثل زهورِ الصديد، وسطَ الماشِيَةِ الضوئيةِ السائرةِ بحماسٍ صوب دومينو اللحمِ الأزرق، تَحُفُّها سا&#1700;َنَّا الصفحة (43) من كتابٍ ضبابيٍّ لا يُقْتَنَص، يتشرَّبه العالَمُ كرائحةِ الرغيفِ المتفحِّم، ويستنشِقه الحزنُ كلّ صباحٍ قبل أن تأتيه سيارةُ الترحيلِ الخاصّة، لتنقله مع الأطفالِ الآخرين إلى الروضة. أُزيحُ بمللٍ الصباحَ المبلولَ عن واجهةِ السُّهادِ المزيَّنةِ بأطوارِ الحلمِ الهضميَّة. إنصاتي لأناشيدِ الحجارةِ العاشقةِ في الليل؛ إسْتِرَاقُ سجينٍ السمعَ، عَلَّ صَبِيَّةً تَطْرُقُ بِخَبَبٍ سريعٍ فسيفساءَ الهولِ نحو شبابيكِ القلعةِ البعيدة. في كلامي لك، أيُّها العنادُ، عن ضُبَّاطٍ يَخُصُّونَكَ، عِظَةُ الحانق، وفي رمادي هذا كلّه بصاقُ المجروح. فطريقي طافحةٌ بفخاخٍ أعجميَّةٍ نَثَرْتُهَا آناءَ مرحٍ قديم، وكلّما أوغلتُ في خدعةِ العالَم، كانت نظرتي إلى سَلَّةِ الطرائدِ نظرةَ الخائب، وكلّما ازددتُ إمعاناً في نثرِ الفخاخ، ضحك الصيدُ من سذاجتي.
    يَاا، الأسى حَصِينٌ، فلا تَشِ للملِكات باسْمِهِ، ولا تَدَعْهُنّ يسرقْنَ خصلةً من شَعْره، ولْيَكُنِ اسم أُمِّهِ أحدَ الأسرار. عرشُ المياهِ من أحذيةِ بَحَّارٍ قديمٍ، فاْحرسه من شتائمِ الموجِ خيفةَ تُدْمِيه.
    يَاا، هناك، مع الإضاءاتِ المُوَفَّقَةِ الهاطلةِ على السقوفِ من أسِرَّةٍ ملوَّنةٍ تُعَسْكِرُ في كُسُورِها أُشْنَاتُ الذاكرة، كان شِجارُ المضاجعاتِ وخرائطُها يَنْحَطَّانِ بِرِفْقٍ على الموائدِ المهجورةِ في منفى الكتابة؛ ويرشقان رهانَ الحَدَأَةِ الخاسرِ بغَزَلِ الصقورِ، فتصرخ مغتاظةً وتحطِّمُ الشوقَ على رُكْنِ الطّّيَرَانِ الحَادّ. رأيتُ السُّعَالَ الدافئَ في شفتيها صلاةً، وما برح إبطُها المظلمُ يرسلُ عطراً مضيئاً يَعْمُرُ غرفي في السديمِ بمجالٍ طاهرٍ من السُّكَّانِ ذوي الفُتُونِ الفاتكِ والتَّمَنُّع. رأيتُ من خصرها يتدلَّى رَحَطٌ رقيقٌ يرحلُ حينَ الزغاريدُ وليلُ الشَّمَاتةِ في هفهفةِ الروحِ الصامتةِ التي تركها الويلُ على أُهْبَةِ البُخَار؛ يتدلَّى ويعاتبُ اللُّغَة.
    يَاا، لا تصهل بهذيانِ الجسورِ المعجبةِ بأعضائها التناسليةِ في سوقِ العصافير، أَبِنْ في شرحِ الغبارِ إن كنتَ العاشقَ الذي لا أحَد.
    شأنُ الذي لا يحزنه أن يكون اللعنةَ؛ شأني. شأنُ الذي في قلبِهِ ماعزٌ؛ شأنُك يا عناد. فَاْسْمِعْنِي مقالتَكَ فيها، واْرسم خططَ الكلامِ على ألْوَاحِ السيليكون الشاهقةِ في عراءِ الأزليةِ الأول. أنا رأيتُها. حِينَتَذَاكَ، لَمَحْتُ طيوراً لا أكثرَ، تُعْوِلُ بحرقةٍ فوق شَعْرِ النسيانِ المدهونِ بالإقامةِ والصمت. حِينَتَذاكَ، هُرِعَتْ إلَيَّ المناضدُ وأجهزةُ التسجيلِ، حاملةً ذُهَانَ المسافةِ العُضْوِيّ، وقد ضَمَّتْ إلى آباطِها بحرصٍ مواءَ الحطبِ الوسيم. وهي رأتني. غَرُبَ الجدارُ في عينيها. كنتُ مسروراً بغيابها الصوفيِّ المترنِّحِ سكراناً تحت يَاقَةِ قلبي، وهَاذٍ في قطيعةِ الدَّمِ الكبيرة. اسْمُ الشَّرِّ كان يدي. اسْمُ الغيبوبةِ كان الخنجر. أمَّا السُّرَّةُ فقد كانت الاسْمَ الآخَرَ الذي ما بعده أنوارٌ تُوْلَد.
    دَااوْوْوْدِي، لهذا الشَّرَك. منقوشٌ على زجاجِ القلب؛ وعلى لوحِ الطبيعةِ المفقود. دَااوْوْوْدِي، لِجُلُوسٍ من طينٍ يترجرجُ فوق عتمةِ ليلِ الجسد، ونهارُ الجسدِ كرَّاسةٌ مهملةٌ في معبدِ اليَدِ الطَّيْرِيَّة. دَااوْوْوْدِي، لِشَايِ الصباحِ البعيد. دَااوْوْوْ...، لا يا رقيبَ أبابيلي!، لم تصطدم درَّاجتُك البخاريَّةُ بالتأريخِ وحدَه. فالنعاسُ أيضاً. نعاسُك. نعاسُها. نعاسي. نعاسُ العالم. كان يقفُ أمامَ عينيها المفتوحتين حتى آخر الدخان. وكان كذلك في معصمِها المعرُوقِ الفضاءُ سواراً من كلامٍ أجَشّ، يرتخي على الملاءاتِ المشدودةِ من زواياها بمساميرَ مثبَّتةٍ في أبوابِ العدم.
    فلماذا وريفَ الجسدِ، أيُّها العنادُ، كَسَرْتَ القارورةَ خلف طيفيَ العابر؟. لماذا أرسلتَ فُخَّارَك العَدَّاءَ ليتعقَّبَ لعنتي؟. ألا تعرف؟. الأرضُ أُختي. المِقْدَارُ قَسَمِيَ الصَّادق، و(هورقليا) في دمي؛ لكن الجسد جميل. أنا كاهنُ إسرائيل الغائب؛ سَيَّافٌ سِرِّيٌّ يتجوَّلُ في بساتينِ الخلودِ وأزقَّةِ الحلمِ الميتة. وهُنَا، في السُّرَّةِ البرونزيَّةِ المعقودةِ على لهاثِ الحضارة، ها هو المكانُ المتسلِّلُ يتعرَّف إلى أجسادِ الخطواتِ الساقطةِ تحت نُبَاحِ الآلةِ اللحميَّة، وها أنت يا جُنْدِيَّ المعارجِ وحدك؛ في المدينةِ الغريبة؛ داخل غرفتك الباردة، ترنو بفراغٍ إلى المصباحِ الزيتيِّ القديمِ وهو ينثرُ برتقالَهُ الشاحبَ على المخطوطاتِ المؤجَّلةِ والكتبِ وبقايا وَنَسَاتِ الأصدقاءِ اللاَّمرئيين. أُنظر يا رقيب، إنها تحصي تعبَها فوق المنضدة. اسْمَها. حقيبتَها. قرطَها. الحذاء. ترسلُ خِفَّتَها في فضاءِ الغرفةِ المشغولِ بالكوابيسِ الخيليَّةِ وطيوفِ الحروباتِ القديمة. اسْمُهَا يحادثُك، لكنك تتغافل عنه متظاهراً بمناجاةِ أصدقائك الحبيبين في جبال (قاب قوسين) البعيدة؛ تناجيهم في مظهر ما تركوه بمنفضةِ السجائر من جنائز البِرِنْجِي؛ تتعرَّف إلى حزنِ ابتساماتهم في الأعقابِ التي أطفأوها؛ كُلّ واحدٍ بطريقةٍ مختلفةٍ تميَّزُه؛ هذا لـ(ربيع)، هذا لـ(محمد)، هذا لـ(ناجي)، هذا لـ(نجم)، هذا لـ(نادر)، هذا لـ....، تنتبه ذاتَ غفلةٍ منك لِبُذُورِ البَنْغُو الصغيرةِ اللامعةِ المنثورةِ على المنضدة، واْسْمُها يُلِحُّ في اْلْتِقَاطِكَ من شرودك. وحدك، تبني ـ بِعَوْنِ مُخَاتَلاتِ عقلِ المقدارِ اليابسِ ـ حساباتِ رهانِ الحياةِ وتخسر، فتكتب نَصَّكَ الواضحَ في هجاءِ التراكمِ الغيبيِّ في الدُّنيا لمعلوماتِ الفردوسِ والجَّحيمِ، وأحدٌ دامٍ في عوائِكَ يسألُ الضُّبَّاطَ عن رطانةٍ صديقةٍ تعملُ بالمبنى، فيُنْكِرون معرفتَهم بها. العواءُ يتسلَّقُ ماسورةَ التهويةِ العريقةِ ويهاجمُ السُّلالةَ من النافذةِ الزّجاجيَّة. تصرخ. تصرخ. ينتبهُ الحُرَّاس. يستأنفون التدخينَ، وأصغرُهم يقولُ بلا مبالاةٍ يَشُوبُها نزوعٌ دنيءٌ لتصنُّعِ الظُّرْف: (هذه اللَّعينة...، إستعمالْ خارجيْ...، مكتوبٌ على الديباجة!، نصحتُها عدَّةَ مرّاتٍ أن لا تعبثَ بقارورةِ العطرِ داخلَ كُسِّها!). تصرخ. والسُّعَارُ يشعلك في مجالِ العنفِ الداكن.
    أنت معي، سَبَّابَتُكَ تقبض على بِنْصَرِي، راحتُكَ مطبَقةٌ على المتاجرِ الفقيرةِ والسَّماوات، ونَحْرُكَ المرعِبُ يخطر ذاهلاً نحو مباني تعوي داخلها السُّلالات الجائعة. نواقيس حيَّةٌ ترتادُ (طفولتَك) المفتوحةَ على جِرَاحِ العالم. أرأيتَ كيف أنوارُها مطفأة؛ طفولتك؟. وكيف لا أحدَ من الداخلِ يرُدُّ تحايا العابرينَ بأَِسْفَهَ منها سوى قطة متثائبة تفتح عينيها بإهمالٍ ثم تتساقط ثانيةً في الغفلة؟. مَن ذا رأى النَّواقيسَ وهي تَخُبُّ بالجِّياد المائيةِ عانةَ القلب؟. مَن ذا سمعَ حوذيَّها الغلامَ يَحْلُو ويُقْلِقُ الرُّوحَ برائحتِهِ الثائرةِ يستوقفُ السَّابِلَةَ الصامتينَ ويسألهم عن حانة اسْمُها (طفولتك)؟. مَن ذا دَلَّهُ مَلُولاً على مبنىً يُنْكِرُ حُرَّاسُهُ المعرفةَ بالعاملين فيه ويرعبون السُّكَّان؟. عَبَرَت الجيادُ البابَ المقدَّس أولاً، ثم قادتْها ممرَّاتٌ كسولةٌ إلى البهاء، ومَضَت بإخلاصٍِ في متاهةِ الطاعة. أمَّا العيونُ الحيوانيَّةُ المتدلِّيَة من سقفِ غرفتك بجوار العناكب، فنعاسُها يكتبُ اسْمَها، والحنينُ يتقشَّر عن الجدار راكضاً بمرحٍ بين المقاعدِ والملابسِ الدَّاخليَّةِ المهمَلةِ تحت السريرِ الوحيدِ متحسِّساً الدَّمَ واللُّزوجةَ الصفراءَ التي لم تَجَفّ عن الفراش بعد. نشيجُهُ يطعنك. وجهُهُ رهيفٌ مُهْتَزٌّ حتى لَيَكادُ لا يَنْرَئِي. قرفصاؤُهُ على المسندة؛ قرفصاء الريح. وإطراقتُهُ مبلَّلةٌ بالأبواب: (متى ذهَبَت؟). (هأ!، هي لم تأتِ أبداً).
    حقدٌ كثيفٌ هذا الذي يهمسُ للعيونِ الحيوانيَّةِ بنفْسِهِ، فَيَنْسَمِعُ من شفاهِهَا الألْفِ؛ طنيناً مِن عالَمِ النُّوْنِ المسطورِ يحكي نبراتِ الحروفِ بآليَّةٍ حمقاءَ؛ كلاماً مضحكاً يدهنُ الحنينَ بالمَصَابِ وأشرطةِ الكاسيت الفارغة: (لكنْ، عطرها؛ طيوف أشيائها؛ اسْمها؛ وَنَسَتها؛ كلّ هذا، أرَاهْ، وأراها لا زالت مِن شِدَّةِ وجودِها هنا عالقةً بالأبوابِ والسَّتائر!!، كيف...). (ستائر؟، ههههههااا، ستائر!). الحقدُ يَمُدُّ نفْسَهُ من حيوانِ العيونِ المعلَّقةِ في هزءٍ مرير، تدورُ القزحيَّةُ الحمراءُ نحوَك: (أحَقَّاً قُلْتَ الستائر؟!، ههههااااهأ!). بِدَلْوٍ من حزنِ العنكبوت، تَحْثُو بصرَك وتُفْرِغُه على الجدرانِ شِبْه العارية، مُنْعِمَاً على صورةِ (جانيت جاكسون) وملصقِ الكولا بإيماءةٍ فارغةٍ، فيما يتبادلان ألوانَ خيوطِ التريكو ويغزلان للغرفةِ عباءةً خجولةً من لوعةٍ وحرج.
    مِثْلَ قلبٍ من عاجٍ، منسيٍّ داخلَ الجِّرَارِ البعيدةِ لِقَلَقِ العالَم. مثل مطاردةٍ لحوحةٍ شرسةٍ بين وردةٍ طَلَعَتْ من حزنِ المقعدِ وفكرةٍ بالكادِ تَتَعَيَّنُ فوق المنضدة. مثل السَّرِقاتِ، كنتَ يا الجنديُّ الرَّقيبُ مُؤَنَّثَ المياه. تركضُ في المداراتِ الأليفةِ طالباً ثأرَ النايلون. تخلعُ آلَتَكَ التناسليَّةَ المزدوجةَ، تعلِّقها بهدوءٍ على المشجبِ الصَّارخِ فزعاً، تَرْتَقِدُ الرَّائحةَ المُقْلِقَةَ الرُّوحَ؛ روحَكَ، تبكي أنْتَ تحت المَسَاقِ، تُضاجع في خوفٍ صوراً بشريَّةً ممعنةً في الجَّمَالِ، حتى يدعوك الفضاءُ إلى المنضدة. ترقصان مليَّاً فوق مَخَاضَةِ الأرقامِ العبيطةِ، ثم تأتيكَ الطَّلْقَةُ المحكمةُ مِن يَدَيْنِ في الضَّبابِ لا تجيدان التسديد؛ الطلقةُ الحيَّةُ ذات القلبِ والمنظارِ الطِّبِّيِّ الأنيق. الطلقةُ تقتربُ من البوَّابةِ فيبتسم لها الضُّبَّاطُ ويسمحون لحيواناتٍ صغيرةٍ خرَجَت من أسلحتهم بتقبيلها، ويَنْحَنُونَ أمامَها ناثرين الضَّبابَ والمديحَ ونجومَ أكتافهم المذهَّبة. الطلقةُ تصعدُ المدرج بثقةِ بائعِ اللبن. الطلقةُ تعالجُ قفلَ البابِ بمهارةِ القاتل. الطلقةُ تدلف إلى غرفتك. الطلقةُ ترمقك والفضاءَ تلعبان الدومينو فيما يدُكَ تهوي على المنضدةِ بقطعةِ التريس والبُلاطة. الطلقةُ تزيحُ الفضاءَ، مخترقةً سترتَه البيضاءَ عند موضعِ القلبِ، وتتَّخذ جلستَه. الطلقةُ ترفع عينيها نحوَك، فتهوي بالقطعِ كلّها، ولا يسمع الضبَّاطُ عويلَ الطيوف.
    باردٌ خَطْمُ النهارِ، وهو يقترب من الجثثِ بحذرِ الضَّبَاب. في أظافرِهِ السُّودِ لوعةٌ من مُحَّارٍ وحرج. في ملابسِهِ المغسولةِ بِمَنِيِّ الثأرِ شيمةٌ من فضاءٍ غارب. لكنَّه النهارُ، وما الرِّهانُ حينئذٍ إلا على الخسارة.
    ها هي تأتيكَ يا عنادُ مجعَّدةً ضحكاتُ الحديدِ. فهل أتَاكَ نحيبُ عَلَمٍ مُذَكَّرٍ سَئِمَهُ الجَّسد؟. تحسَّسْ أيامَكَ اليابسةَ في زهريَّات الذات، واْعْبُرْ صامتاً أمام مكتباتِ الأدواتِ المدرسيَّةِ وماكينات التصويرِ الرديئة. قَدِّمْ دروساً مجانيَّة في الهَيْنَمَةِ والهذيانِ لطلابِ الثانويَّات اليائسين.
    مناديلَكَ الوعرةَ المفرودةَ في اللُّهاثِ واسْمِ العافية؛ حروفَ العاجِ المنقوشةَ على زواياها المظلمة؛ العطورَ التي خلَّفَتْها عطاساتُ النساءِ اللائي عَبَرْنَك؛ بصماتِ الأصابعِ التي لوَّحَت بها: عَلِّقْها على جدارِ الغرفةِ الفارغِ إلاَّ من شُبْهَة التسلية. لَمْلِمْ هزائمَك حذاءً تِلْوَ جناحٍ، واْمْحُ الضحكةَ الفاجعةَ الدَّامعةَ التي تتفصَّد من عينيك كالدَّم. أُرقص. أُرقص. أُرقص. اسْقُفِ الرِّيحَ بأحلامِ الكارتيلات المدرسيَّة الخُصْيَوِيَّةِ البائسة؛ اسقفْها بالكوابيسِ المُتَعَيِّنَةِ عبر لِيْدُو سُلْطَانَاتِ العشبِ والغبار. أجَلْ؛ ولْتَرْقُصْ، إن كنتَ فاعلاً، خيفةَ يرطنُكَ المشهدُ القديمُ ثانيةً بلسانِ النَّاقةِ المرسِلةِ اسْمَها على شاكلةِ ذهبٍ طريحٍ إلى نملةٍ مرسومةٍ في القلب. إمَّا اْنْحَدَرَت إلى سهلِكَ قطعانُ الأكوابِ ومقابضِ الثَّلاَّجاتِ حاملةً ثُغَاءَها البُوْلِيسْتَر وفِرْيُونَها النَّبيلَ تريدُ مواساتَكَ بطريقتها الصَّاخبةِ الفاقعةِ ذاتها؟، فَعَلِّمْها عراقةَ الضَّوْء وأخلاقَ الضَّبَاب، ثم اْرفَعْ ـ مُدَّرِئاً بالبذاءاتِ البيضاءِ ـ مصابيحَ الـ&#64381;ـيْكْس البَهِيَّةَ فوق مراوحَ ظامئةٍ وأدراجٍ دامية.
    عائداً، ومن عينيكَ لَمَّا يتقشَّر الأملُ بَعْدُ، تتلمَّس حَمُوْ الهزيمةِ المسرورةِ في إبطِ هذيانِكَ وفي مُمَاسَّاتِ الخُصَى والأفخاذِ، فَتَزْعَقُ أصابعُك من مَسَّةِ اللِّيْنِ والسُّهولةِ واللُّطفِ ومُنْتَهَى العاصفة.
    عائداً من جُنْدِيَّةِ الرُّوحِ الحانثةِ بِقَسَمِ البرتقالِ على توراة الجنائنِ، تصحو، مُزِيلاً الفجرَ عن زاويتيِّ مِحْجَرَيْكَ، مُنَادِيَاً صُوَرَ الْمِثْلِيِّينَ عِبَادِ مِيَاهِ (الذَّكَرِ البَتُولِ) السائلةِ فقاقيعَ صغيرةً على جلودهم وشفاههم وراحاتهم، يلعقونها متجرِّدينَ لأنبياءِ البُوْرْنُو في خُلُوَاتِ الإلكترون الإباحيَّة، مرتعدينَ عند حَوَافِّ الرغبةِ الطَّاحنةِ تحت الطُّغيانِ الرَّهيبِ لخضوعهم وقوةِ اللحظةِ فيهم، ومنجرفينَ، تفيضُ حَوَاسُّهم بالعُوَاءِ المخنوقِ؛ وباللاَّنهائيِّ الثائرِ في الحضيضِ من عدمِ الصَّبر. صُوَرٌ مُبَرْوَزَةٌ بأشكالِ الصرخاتِ السوداءِ المجوَّفةِ التي أطلقها أطفالٌ في السَّحيقِ من الإنسانِ لم يَسَعْهُمْ أن يفهموا خواءَ اللوعةِ والرُّعبِ في ما يُسَمَّى حُبَّاً ولَمْ يُوَاتِ مَضَافَاتِ قلوبهم الواسعةِ، فاْنطلقوا في جهنَّمَاتٍ شخصيَّةٍ صغيرةٍ يُرَوِّعُونَ الصُّوَرَ الوحشيَّةَ الوادعةَ في مراعي عقولهم الرطبةِ؛ يَسْحَلُونَها بضغينةٍ وجنونٍ على شفراتِ الحضيضِ المُسَنَّنَةِ؛ يَنْدَهُونَ كحيواناتٍ بريئةٍ آلهةَ الدُّموعِ عساها تُرْدِي لأجلهم بنظرتها الطويلةِ كُلَّ هذه الطُّيُورِ التي تَعْوِي وتزأرُ في العينِ وتعصفُ بالقلب. أنْتَ تناديها، تلك الصُّوَر. تنادي وجوهاً لا تُنَال. تنادي لحمَ السَّادِرِينَ في الرُّعْبِ الحبيبِ، تدعوهم لمائدةٍ ليلية: (هيَّا...، طَهَوْتُ لأجلكم أعضاءَ أنواري التناسليَّة).
    عائداً، يَهُشُّكَ جرحٌ رماديٌّ ذو ذيلٍ وجناحين، وكَفٌّ رَخْصَةٌ بقبضاتٍ يسيرةٍ منها على كتفيك تِبَاَعَاً، تتمادَى في إراقةِ الحُبِّ على حقولِ اليوميَّاتِ الدَّقيقة التي كَتَبَها إخوتُكَ الرُّقَبَاءُ المذهولونَ جالسين وأكُفُّهم على رؤوسهم كامدينَ كفلاَّحينَ نُكِبُوا في زراعةِ موسمٍ كاملٍ بأمطارٍ خاطئة. يَطْرُدُكَ دمٌ مفتونٌ بمعمارٍ بدنيِّ حَرَامٍ لا تُطَاقُ مسالكُهُ ولا تُمْكِنُ، مأخوذٌ على قياسِ ضعفِهِ وقوَّتِهِ بجريرةِ البَانِي سلاسلَ لا تُحْصَى من الأكوانِ الطبيعيَّة خلفَ نقطةِ باءِ البَسْمَلَة؛ بابِها.
    عائداً، يَزْجُرُكَ حَرَجٌ وليلٌ بوردةٍ قديمةٍ في جيبِ سترته، وتَجْنِيكَ بِسِلاَلِها البلاستيكيَّةِ بَامْيَا قلبِك المنهكةُ من ذكرياتِ الشَّجَرِ ومن أنينِ روحها المقطوعة.
    ءااااهِ يا قلبَكَ الطَّافحَ حديداً وندم. يا سأماً في الزُّجاجِ الذي يطوِّقُ الروح؛ مَن أعَارَكَ خشونةَ الظِّلِّ لتبدو جميلاً هكذا، ومزروعاً بآثارِ أحذيةِ النَّمْلِ المهاجر؟. مَن غَطَّى لأجل عينيك القُدُورَ خيفةَ يحترقُ الهذيانُ إذْ غَادَرْتَ أنينَكَ تاركاً ثَلْجَ الصُّوَرِ مُتَّقِدَاً تحتَها؟. مَن أتاكَ مكلَّلاً بالكواكبِ الوريفةِ والغاباتِ والتعب، نازفاً رملَ اللُّهاثِ وضبابَ المديحِ المتخشِّبِ في بَهْوِ الماعزِ الوخيم؟. مَن هَبَّ أمامك ملتاعاً مستَثاراً أخرسَ اللَّحْظَةِ مستنكِراً ثُمَّ ثَقَبَ جمجمتَهُ برصاصةٍ عندما سَقَطَ الصَّبَاحُ عن (شجرة هَوَّارِيَّة) مضرَّجاً بالأبوابِ المغلقةِ وجسورِ الظِّلِّ المنسوفةِ والأمومة. مَن؟، مَن يكونُ الفاعل؟. مَن يكونُ الفاعلُ، إذْ يُجْفِلُ غِرٌّ مذعوراً مِن لمسةِ كَفٍّ وحيدةٍ خَرَجَتْ من خلاءِ الغيبِ إلى هذا النهار ورَبَّتَتْ آثِمَةً على رِدْفِهِ الشَّرِيف؟. مَن يكونُ الطَّيْفُ الصَّخْرِيُّ الذي، حين تَرَاهُ المعادنُ في أحلامِها، أرَاهُ بِقُرْبِي وكِلاَنَا خفيفٌ، شاهراً بئراً مُحَرَّرَةً من الأرضِ على مَاشِيَةِ المرايا وغُلُومَة الجدران؟.
    الشُّهَابُ؛ شُهَابِي، يعْبُرُ عارياً وسريعاً أمامَ أقاربِهِ (المنازل) المُزْهِرِينَ زوايا، وهُمْ يَنْظُرونَ، فلا يبقَى من حُطَاماتِ قلوبِهِم سوى الدَّم، يهرولون، منهورين برفيفِ الرَّغبةِ المُوْجِعِ إلى الحَمَّامَاتِ الضبابيَّةِ في الرِّيحِ لِيَغْرَقُوا في الجُّنُونِ بلا دُمُوع.


    *******

    من حيث أورهان باموك - مُرْضِعَة لِغَيْر التَّغْذِيَة
    محمد الصادق الحاج (جزء أول)
    (يُحكى أن غلاماً من تلامذة ابن عربي أتاه يوماً مسروراً، ورَوَى للشيخ أنه كان يعبر البستانَ إذ كلَّمَتْه زهرةٌ وجادت عليه بعِلْم النباتات كافةً ما يداوي وما يُسِمّ. فارتعش الشيخ مشفقاً على تلميذه وصاح به: عُدْ إليها واسألها أن تَرُدَّ عليها ما أعطتك فليس هذا بعِلْم).
    (رُوِيَ عن عبد الغني النابلسي أنه كان يسير مرةً بالقرب من أحد بساتين القدس مُطْرِقاً فإذا بزهرة تمشي إلى جانبه تكاد تسبقه).
    (حدَّثَنا أورهان باموك عن حكيمين اسْتَبَقَا؛ مَنْ منهما سيُمِيتُ الآخرَ أولاً وبطريقة رشيقة وسريعة. الأول منهما أتى بالسم أمام أخيه فمزجه له في كوب الشراب وقدَّمه له، فما تردَّد هذا في تناوله منه بكل وَقَار ثم شربه، وأثناء سريان السُّم في بدنه اتجه إلى زهرة في البستان وهمس لها بـ(شِعْرٍ مُظْلِم) ثم قطفها فمدَّها إلى الأول الذي سقط ميتاً من الخوف قبل أن يتناول الزهرة من يد أخيه).
    فمَن هذه الزهرة التي ليست كأية زهرة نعرف؟، ما الذي يضاهي لذّة المفاجأة؟. أن تُشرق الإضماراتُ عليك مضعضِعةً كيانك ذرّاتٍ تشعّ في عدم الانتباه؛ أتَخْيِيلٌ هذا أم مجاز أم حقيقة؟. وإذا عجزت المعرفة النظرية والمادية عن (إمداد) حياة اليوم بمطلوبها الملحّ من الحقائق والوقائع الملائمة لنوعية الحياة الداخلية المزمجرة في أحشائها؛ فـ(البغتة) أَوْلَى بأن يطلبها اليوم.
    طوفانُ ملاحظاتٍ، استنتاجات، أراشيف، استباقات تخزينية، اختراعات، علومٌ منتهى طموحها أن تقف عائقاً أمام اللطمة، أن تعرقل سَيْر المجهول بالمعادلات الرياضية موضوعة أبداً كأفواه البَارْكِن ثابتة الصرخة على مفارق التحليق لتوفير بطّانية كثيفة تقلِّل ـ بالميِّت ـ من قوة سقطة الأرض على صلابة الفجأة. الإلحاح على الظلام بالمجازات النورانية، الخوض بسيقان المنهج المنطقية المخْشِبَة في ظلمة الزهرة التي لا طُرُق، بل عماء مجفل يتراقص في الجلد كالسراب ويرسل نُذُر الخطر.
    من حيث بابٍ في ظلام الحقل أطارَتْهُ عن مفصَّلاته ركلة الكاوبوي التركي العابث أورهان باموك، أرى أبِي هَوْلِ المجازِ العصريّ يَسألُ الداخلين: (ما هو الغذاء الذي لغير التغذية؛ يُبْذَر في الخلود ويُؤكَل اللحظة؟). أرى أورهان باموك؛ البطل؛ بطل كل رواياته، يصطنع حيرةً مسرحيةً ثم يلطم حيوان المكتبة؛ المسخ السكران الذي لا يموت ولا يحيا، بِرَدّ كان على الفنان أن يُتْلِفَ ليس أقل من آلافٍ ليلفظه: (اللَّذيذ).


    1. استيراد الخائن
    سياسيٌّ بمحمولاتٍ تتراوَح. هذا ما بدا لي من ظن أورهان باموك بالوجود. ولعل المفردة (سياسيّ)، حتى بما تحمله من شرر يطفئه البعض ويضرمه غيره ويضطرم فيه (يأكله البعض ويضاعفه غيره ويتضاعف فيه)، وبما تتَّسم به ـ سياسيّ ـ من إحالات إلى البراغماتية ونزوع نحو التحليل الموضوعي لمجريات الواقع والخيال بتبسيط مجازاتها، هي الأشد نفاذاً إلى أثر الروائي التركي أورهان باموك.
    على أن ما تبادر لي من (مذهبيةٍ سياسيةٍ)؛ قُل (ذرائعية)، تنطوي عليها روايتاه (القلعة البيضاء) و(اسمي أحمر)، أعني ما تبادر لي من ارتباطاتهما في وليمة التاريخ والحاضر، لا يعود بي إلى (عالم ظريف أفندي) حيث يعمل الجانب المأكول المستساغ المغذِّي، القابل للإطفاء، من محمولات المفردة (سياسي)، هذا الجانب الذي لا يهمّه من الأثر الفني غير علبة الإسعافات الأولية، يبحث عنها، فإن لم يجدها عَدَّ الأثر ذاتياً (مغترباً!) و(انصرافياً) و(يفتقر إلى المنطق) و(منفصلاً عن)، وإن وجدها شَقِيَ الأثر الفني بذلك أكثر؛ فهو؛ أي الأثر الفني، تحت الطائلة القصيرة لهذا الإكرام المحقِّر، لا يعود يعمل إلا في حدود ما قدَّمته علبة الإسعافات الأولية للجنود، بحكم احتوائها على اللازم والظرفي من ما يحتاجون، في طارئية جبهة القتال، من البلاغة المحدودة المتواثَق عليها للمعاملات الدولية الشغوفة بانتزاع أنبوب المجازات العمومية الجاهزة من علبته وتركيبه في آلة الحقْن الشعبية لتعبئة مَرْضَاها بالفذِّ من اعتبارات الماضي وتفاضلات الحاضر وتكاملاته واحتمالات المستقبل. هنا يُحْمَل المجاز سلاحاً ضدَّ الغير. ذرائعية مضادَّة.
    عن علبة الإسعافات الأولية؛ هذه المستخلَصة قسراً من بين أصابع الفنان، فمُقْتَصَراً عليها تحت تأثير النداء الكاريزمي الملِحّ المشعوذ الخالد يعلو مزلزلاً العقل بصفافير الطوارئ والإنذار لا ينتهي، وعن ما يقابلها من مفاعيل علاجية وأعشاب طبية وأوبئة وسموم والتهابات متآخية في حقل الفنان لا يريد أحد تناولها... عن هذا المزاج المعاصر المُكْرِب، يدور تقرير الجاسوس هذا.
    إنهما طريقتان في التناول. أحمر. أسود. مِزَاجٌ شقيٌّ. يرسلُ الفنانُ المفعولَ صرفاً، والمستقبِلون يحاصرون الحقل بالعكاكيز يريدون قطف الثمار بأنفسهم، صارخين به في هَوْهَوَة الجحود: (كيف يبدو الخنجر من الداخل؟) بشهادة هاشم يوسف. يَسمع الفنان: (كيف يبدو الخنجر من الداخل: تخييل). يسمع الفنان: (كيف يبدو الخنجر من الداخل: فيزياء). فيُبْرِزُ أمامه هذان التحقيقان نطاقي بحث مختلفين عن بعضهما كثيراً. إن تحقيق الخنجر الذي شهده هاشم لم يَرِد في كتاب عن المعادن، بل في نص شعري، ولهذا جاز له أن يحيل قارئَهُ إلى طبقة شعرية من وجود الخنجر، نطاق سحري، يحوي صورةً بعينها ذات طابع تخييلي وسحري يتحكم في نوعيته خيالُ قارئها. صورة، لا صلة لها البتة بالمكون المادي العياني للخنجر، صورة تعرض جانباً من هذه القيادة الروحية الدائمة التي ينتهض بها الفنان، الجانب التنشيطي المضلّ المشكِّك أبداً في صلاحية العقل المُتَّعِظ، المتسائل أبداً عن ما يُرى في ما لا يُرى، المدبِّر أمراً لايُنَال بالأدوات، المُلِحّ لا يتعظ من الجُّحْر ذاته يُلْدَغ في كل مرة: الجُّحر الذي منبع الرمز والعاطفة الروحية، والذي نَبَتَ المُطْلَق من تربته مراراً وتكراراً، لا يتوب الفنان ـ هذا السندباد الدونكيشوت ـ من ارتياده، فهو يعرف أن المطلق رأس واحدة تطل من تحت ركام فيه رؤوس وطبقات كثيرة لا يريد الفنان أياً منها، وإن كان المطلَق أقواها طموحاً وطمعاً وأشرسها طلائعاً، إلا أن الفنان يقطِّع اللدغة في جلده كلما أطل عائق المطلق برأسه من ذلك الجحر وأخرسه، ثم يقصده الفنان الجُّحْرَ مرةً أخرى، (وَرْدَة للمَجِيءِ هُنَا مَرَّةً أُخْرَى سيِّدي: مازن مصطفى) وأخرى، وأخرى، يمد يده، (ما الذي أتَمَثَّلُ في غايتي كي أُوْدِعَ الخنجرَ في أمنياتِ القَدِيد: مازن مصطفى). يعرف أن الخنجر، وإن اُسبغت عليه من الداخل صورة (الطعنة)، وإن نُصِّب القتلُ جوهراً ثقافياً على عرش الخنجر، إلا أن الخنجر المدفون في جُحْر الخيال ليس خنجراً قَطّ، ليس خنجراً ولا طعنةً وليس حديداً ولا شأن له بالقتل ولا بالشعر، ولو أن قطعةً من الروث نصبته فاشلاً مثالياً من داخل الجُّحْر لما كان الفنان نادماً، بل لكانت قطعة الروث أوفى له بحاجته من المطلق، ما دامت لم تُعِد عليه مجدداً ترديد أُنشودة الحق والخير والجمال من أفواه الجوهريين مُسَوِّقِي الرَّعشات الذين ياما قصفوا الفنان بقاذفات السوق والمعبد والمصنع.
    إلا أن التحقيق ذاته، حين يطرحه أستاذ في علم المعادن، واضعاً خنجراً من الحديد مثلاً أمام تلاميذه، ينتقل تفكيرهم تلقائياً حيال (كيف يبدو الخنجر من الداخل؟) إلى نطاق البحث مرجعياً في نسيج المادة المعدنية ودرجة الضغط والحرارة والاصطدام والثقل والكثافة ونشاط الذرات في حالة التسخين أو التبريد إو الإذابة و... وهم يجدون في المرجع الخارجي ما يفحمهم، ولكن لا مرجع للفنان يعود إليه، لا سوق للرعشة في ظلمة الفنان المحرجة. ولقد يخرسه الذهول إن أُحيل إلى ما أحيل إليه دارسو علم المعادن. وبعد موت الواقعية التربوية في قريتها، وبعد الشيخوخة المبكرة التي قضت على النظرية البنيوية الغالية طفلةً بفعل خطايا توأمها البنيوية التطبيقية، من ذا يجرؤ من ثَمّ أن يتطرق إلى عِلْم الفنّ، أو إلى علم الأثر الفني مطمئناً أن لا تتناهشه الدوارق والسحَّاحات ووحدات القياس والمعادلات والمساطر والأسهم والإحصائيات والجداول التكرارية، والأدوات المنهجية كافةً هاتفةً: تحت أمرك!.
    تعود بي مذهبية باموك السياسية إلى الجانب الآخر؛ الذرائعيّ، (عالم قَرَه.. الأسْوَد)، الذي يُضْرِم ويُضْرَم ويُضْطَرَمُ فيه، الذي حين صَوَّب أخطأ، وحين لم يصوِّب أصاب. إلى (السياسة) التي هي الوجود ذاته: أن تكون؛ أن تصير، أن تكافح مكراً لمكرٍ إنسانَ الإسعافات الأولية هذا مُجْمَلاً، أن تجرَّ النِّـيَّاتِ كلها؛ قويمةً ومعوجَّةً، كلها، عمياء، إلى مخدعك المَذْهَبي المضعضع، فتنتقي منها أكثرَها قدرةً على الانقياد إلى امتيازات المذهب، مع القدرة على تلافي عيوبه وتجاهلها وتبريرها إن هي لوحظت من الخارج، فالقدرة من ثَمّ على التغطية على إقليمية المذهب وعلى قُعُودِ مَقَالِهِ دون ملائمة كل مقام. أن تقوم بديلاً بسيف (السياسة) الضِّد، التي وَعْدٌ شخصيٌّ دائمٌ بـ(النَّجَاة) يلتزم به الشخص لنفسه عليها. (السياسة) التي الصَّبْر على أعباء المعاملة، أسَيِّئةً كانت أم حسنة، يستوي عندها مقدار الألم الذي تسببه ضرورة الالتزام بحمل السلاح؛ تناوله من الخارج، التهامه، لا تغذِّياً عليه، بل لتغذيته هو بحبل سري يعمل بمثابة الوصلة الجاسوسة على الموضع المُظْلِم، ثم تمكينه من الانسياب سلساً في النطاقات الشخصية، قائماً مقام الوضعية الآسفة للفيروس الفاتك المعدَّل صيدلياً بغرض تشغيله كمَصْل.
    السياسة/الاضطرار إلى (زوج خالتكم)، يلوذ به (قَرَه) أملاً في أن يُجِيرَه من الانغماس في معطيات جهله وتوليدها، وذلك باستخدامه الاستراتيجيات الدبلوماسيات الحربيات الجاهزات التي تُوفِّرها متاجر المشاركة والتبادل الجماعية لكل المشتركين. السياسة/الأمل، التي هي استيراد الخائن. هي (وَرْدَةٌ للمَزِيد... مِن ارتطامِ الأشجارِ في مُطْلَقِ الشَّجَرَةِ الوَاحِدَة: مازن مصطفى). هي العملية الوحيدة التي تتغذَّى وتغذِّي بذات الآلية، في سلسلة لاهرمية؛ متنامية من تنامي رطانات عناصرها، تتكثَّف، تتضاغط، تتجمَّع، تتفرَّق...، أبداً، داخل اللحظة مثل ريح مغلَقة، كل عنصر فيها يأكلُ آكلَه، وآكِلُه يأكُلُه، وكلاهما يأكل في ذات اللحظة من جهات أخرى، ويؤكل منها ومن غيرها، ومع ذلك يدوم الشخص في هذه الآكُولَة الأَيْكَلَة الدائرة ملتفتاً أبداً إلى الموضع المُظْلِم فيه؛ غير الخاضع لسيطرته، كأنما لا جهة أخرى في الكون غير جهة يتوسَّم فيها الشخص أن تخونه في أية لحظة؛ جهة كامنة فيه، تطلق عليه باستمرار نُذُر الخطر، الموضع الذي من أجله، وخوفاً من ما ينذر به، واستعداداً له، يتزوَّد الشخص بالغير سلاحاً.
    كل هذا يدور في هذه العملية التي السياسة؛ التي الترجمة اللفظية والصرفية والاصطلاحية والبلاغية لعملية كابوسية رهيبة مكتظة ما أمكن بالتعقيدات والتنويعات والتباديل. العملية التي تسمى: السلوك البشري. هنا يُحْمَل الغير سلاحاً ضد النفس. ضد اللحمة الجمرة التي لا تُنضِج ولا تَنْضُج ولا تحترق ولا تخمد.
    وما من خطر مجدب يعود على أثر الفنان ما لم يتوسم في نفسه أو في أثره الطِّيبة والحق والخير والصَّلاح والجَّمال والجدوى والفائدة. ليس الفنان ولا أثره بهذا المهرِّج؛ ظريف أفندي!.

    2. لا تدع الفرصة تفوتك
    صحيفة سُوق الرّعشات. تَصدر مرةً كل قرن، عن مقهى مَن لارجال ولانساء. تَقرأ في هذا العصر: في لمسة الدواء، كورسات فورية لتلقين مبادئ الرعشة. على صفحة السيف: منتخب الظلام يغلي بعظامه في الخيريات. الجهاز العامل بصيغة المصدر يقدم: سيزار فاييخو بالعسل. لغويون، فنانون، فلاسفة، علميون: طوَّعوا (الألف) حتى أقاموا له قصراً، وعثروا على الصفر وجبروا كسور الواحد. الشَّمَار الحار: عودة ظريف أفندي. اليوم.. لا تدع الفرصة تفوتك: المستنيرون، الثقافيون، المؤمنون بالله وملائكته ورسله، المؤمنون بالإنسان والنسوان ورأب الصدع، العازمون على دخول الخير من كل باب، الشقوق والعقائر تغريداً بمكاسب الحداثة والكونية في جوقة العقل.. اليوم: يحمْبِرون تحت صهريج القوميات الثقافية.. آخر عرض.. لك ولعائلتك.. لأنك تستحق الجودة..

    3. الزَّهرَة مُظْلِمة
    الحقولُ مُظْلِمة مُظْلِمة. الفنّانُ مُظْلِم. البشريّ مُظْلِم. الصّدِيقُ مُظْلِم. الحبيبُ مُظْلِم. الفيزياء مُظْلِمة. الميتافيزياء مُظْلِمة. الشخصُ مُظْلِم. الباراشخص مُظْلِم. الأثر الفنيّ مُظْلِم. المصنعُ مُظْلِم. المسجدُ مُظْلِم. المكتبُ مُظْلِم. النّومُ مُظْلِم. النّورُ مُظْلِم. الموضعُ مُظْلِم. اليومُ مُظْلِم. الحياةُ مُظْلِمة. الموتُ مُظْلِم. الشيءُ مُظْلِم. اللاشيءُ مُظْلِم. البيانُ مُظْلِم. اللُّغزُ مُظْلِم. اللّغةُ مُظْلِمة. الخَرَسُ مُظْلِم. الحواسّ مُظْلِمة. الوعيُ مُظْلِم. اللاوعيُ مُظْلِم... الحقولُ مُظْلِمة مُظْلِمة. كلُّ متعيِّنٍ مُظْلِم. كلّ مجرّدٍ مُظْلِم. كلّ عملٍ يجري مَجْرَى القيمةِ مُظْلِم. ليس إلا الحقول. الحقولُ مُظْلِمة مُظْلِمة.
    الحقول الجنود على الحدود التي مركَّبة أجسادهم فيها سدادات على الثّغور التي هي أجسادهم بالذّات. (الرُّعْبُ مغلق: أحمد النشادر). الرُّعْب مغلقٌ سيدي!. الثُّغور تُولَد بلا انقطاع. والسدادات. كأن ما من صَدْع يحدث في الكون إلا وتحدث رَأْبَته معه. هب هذه الأرض ساحة مسوّرة. والحقول أشخاص بشرية. الأشخاص هم سكّان الساحة لا يعرفون وجهة خارجها. تحتهم يابسة مستقرّة وفوقهم مفتوح على احتمالاته، وهم يتحركون في النطاق السماوي القصير من الكون الذي ينتهي بعلو رؤوسهم. سَمِّه الفراغ، سمه الهواء، سمه الثلاثة الأمتار العمودية التي حول قشرة الأرض، يعيشون حياتهم على الدَّيْدن. الآن انظر إلى أجسادهم ودقِّق. هل رأيت أثر اللحام؟. كل جسد يسدّ فجوةً في الفراغ مطابقة لقياساته البدنية تتحرك معه إن تحرَّك وتسكن إن سكن.
    إذَن، باستدارة كتلته ومساحة محيطه، لكلِّ حقل مُظْلِم فَمٌ حُرٌّ واسع جامد الصرخة أخرس كفم الجزمة. فم ينمو قَبْلَ حقله مطابقاً له قادحاً شرر امتثاله جوهراً ثقافياً مفشق الوركين في متناول أي متسوق يقتني علبة الإسعافات الأولية. وريثما ينضج الفم الفاغر في غرغرينا الجندي السدادة، يلبث الحقل غيرَ موجودٍ ينتظر اندراجَ الفَمِ في ولايات الجوهر الثقافي، حتى إذا اندرج، هَبَّ الحقل عياناً موجوداً لينطبق باستدارةِ جسده باباً على الفم الفَاغر مقفلاً مَا يَلِي ظَهْرَهُ من الالتهاب أنْ يتدفَّق إلى ما يَلِي بَطْنه من العالم. يَصُدُّ الحقل ما استطاع من الفيروسات والجراثيم ويمتَصّ ما لم يستطع بجذورٍ ألْسِنَةٍ من اللهبِ ناميةٍ في الظَّهْر المقعَّرِ المجَوَّفِ الصَّارِخ صَرْخَتَه المفرَدَة الطويلة. ومن ذلك يتصدَّع، وقبل أن يسيل شيء من الرعب عبر التَّصدُّعات النَّافذة من الظَّهر إلى البطن يموت الحقل المُظْلِم فتلتحم حدود استدارة جسده بحدود استدارة الفم قِفْلاً يََلبث.
    يعمل الجسد باباً في أحواله كافَّةً؛ أماشياً كان أم كان جالساً أم راكباً أم نائماً أم...، فهو في كلِّ الإحداثياتِ التي تنشأ عن حركته يجرُّ مع حدود استدارة جسده حدودَ استدارة الفَم. غير أنها حركةٌ لا تَسْتَمِدُّ حضورَها المادِّيَّ إلا من قبول حواسِّ الفنان بـ(صورةٍ عن الحقيقةِ) لا تُشْتَرَطُ فيها أية مواصفاتٍ بعينها ما دامت هذه (الصورةُ الكيفما اتَّفق) تزوِّد الفنان بوهم رفاهية الحضور المادِّيِّ الحرِّ المنفصل الذي يتيح للجسد أن يحملها ماشياً أو جالساً أو راكباً أو نائماً أو...، لأنَّ الحركة الوحيدة الممكنة لـ(الجسد باباً) هي وقوعه في مَهَبِّ تنفُّس الفم الذي يحيطُ به زافراً شاهقاً.
    لكن الرُّعْب ـ أحياناً ـ مُغْلَق. الرعبُ لَيْسِيَّاتُ الدم؛ لحم هيهات حيث لا سماء فوق الجلد، ولكن الحواس الجاسوسة!؛ كعوب أخيل المتبرجة. لكن السوق. الفنان كعب أخيل. ومع أنه بمحض تعينه شخصاً بجسد يسد الثغر الذي يقابله شأنه شأن غيره من جنود التأمينات الحدودية، إلا أن ما يجعله مختلفاً عنهم أن إخلاصه يتراوح. وهو نازع ما بقي إلى أن يصير هو ذاته ثغرةً، لأن الرعب الذي يأتي إلى غيره من الحقول الجنود السدادات من قِبَل الظَّهر، مثلاً، أي إذا افترضنا أن الشخص يستقبل بواجهة جسدِه العالمَ التشاركي المهدَّد بالرعب، ويستدبر بظهره العالم الذي يأتي منه الرعب، سواء أكان هذا العالم هو ما يلي الظهر فعلياً أو كان هو العالم الداخلي المعمور بالمجردات من شاكلة الروح والنفس والعقل والوجدان والضمير وغير ذلك، أقول، إذا كان الرعب يأتي إلى غيره من قبل الظهر فإنه يأتي إلى الفنان من قبل الظهر ومن قبل العالم المباشر الذي يعمل على حمايته، كما يأتيه الرعب من عالمه الداخلي، سواء بسواء. فعن أي رعب ينغلقون.
    هذا فنان يبيع مفاتيح ولاية الرعب (أبوابها: أقفالها: جسده). هذا فنان يلقِّن المسوقين والمتسوقين كيفية اقتحام القفل عنوةً. هذا فنان يعمل بالتّهريب. هذا فنان لا يدع أيَّ رُعْبٍ يعبُر من خلاله. هذا فنان يخصُّ بالرُّعبِ بعضاً ويحرم الغيرَ منه إلاَّ من ادّارَك. هذا فنان يفشِّق مصراعيه ما اتَّسعا وما اتسع الرُّعب ولكنه يبقى باباً. هذا فنان يخطو بجسده كُلّه منسلخاً عن حَلَق الفم الذي له استدارة جسده ومساحة محيطه يتركه فاغراً ثانيةً يسترسل كالفم العاديِّ ذاته يطعم بالرُّعب عالَمين بحالهما بمحض وجوده: عدم الباب. فهذا عالَم كان يليه من جهة قد هي بطنه وقد هي الظَّهْر، وذاك عالَم كان يليه من الجهة التي ليسَت الأخرى، يجهَلان من منهما الظَّاهر ومن منهما الباطن. عالَمان كلاهما يرعب الآخَر. متفقان على الظلمة، ملتفتان كلاهما في الواقع إلى عالم جزيري يتوسطهما؛ يختلس النظر متقلباً بينهما، عالم ثالث يرعبها الاثنين. وهما في ظلمة المستنقعات ينصتان مرتجفين و(الضفادع تتنادى: رينيه شار). والذرائع تتجوهر، والحقول تتمطلق، والحدود تتثقف، والقلوب تنتفخ من تخمُّر الروح. يصير كل شيء جميلاً. إنه اليوم السابع. الجميع في السوق. الرعشات على الطرابيز والشناكل. المساومات فوق.
    إنما، وأثناءما الفنان بابٌ، والرُّعْب يأتيه من قُبلٍ ومن دبر ومن داخل، وهو كله عين لا ترى سوى جذور اللَّهَب خارجةً منها تلتهم الولايات الثلاث، ماذا يكون الفنان غير بابٍ ما لم ينصرف؟.

    4. الذرائعيّ
    لكن الوسيلة ليست الطريق، ليست الذريعة، بل هي الغاية. هي آلة لتنفيذ الذريعة وإقرارها وإدامتها. بمعنى أن عزَّة الغاية لا تنبع من كونها قد تمحو أضرار الوسيلة التي اتُّبِعَت لتحصيلها، بل إن عزة الغاية تنبع من كونها قائمة في موضع سابق على اتِّباع الوسيلة واتخاذها مجرىً للذريعة. أسبقية زمانية ومكانية وهدفية. فالذرائعي هو طالب الوسيلة، والوسيلة هي كل ما يريد أن يجده. الغاية متحصَّلة أساساً ومستملَكة، وهي الأمل في إيجاد الوسيلة الصالحة للاتباع، للتذرُّع بِـ. ألِيتوسلها مؤدَّىً أو صلةً أو منهاجاً لأي شيء؟، كلا!، لا يطلب الذرائعي مؤدَّّىً ولا نتيجة ولا خاتمة، لا يطلب عزاء ولا غفراناً ولا تبريراً من (لاإنسانية) الوسيلة، إنه يريد الاستمرار، والاستمرار مشروط باتِّباع الوسيلة. لا يطلب الذرائعي عبرةً لأنه لا خواتيم لمجريات الذريعة، فـ(الغاية) وُضِعَت أساساً في المحطَّة قبل الانطلاق. الغاية أن لا تنقطع الذريعة، أن يتصل الجريان. الوسيلة هي الغاية وهي الهدف، والغاية ليست الهدف. الوسيلة هي استعمال الغاية من أجل دوام الذريعة. وهل مِن إلا ذرائعيين سُوداً يشْدُون بمجد الوسيلة؟.

    5. انكبابي كتاباً: في الكتابة والقراءة
    لتؤدي الكتابةُ غرضاً بالنسبة لي ـ سواء أكانت كتابةً أكتبها أم كتابةً أقرأها ـ أفَضِّل أن أضع منصَّةً خارج جسدي كإطلاق الصواريخ، وأن أشرع في الانتقال شيئاً فشيئاً مني إلى هذه المنصة. حتى إذاً لا يبقى هناك شيء من هناي غير منصة لا أعرف حتى الآن إن كانت هناك أم لم. أعني يكتمل الكتاب باكتمال انتقالي إليه. يقف الكتاب (أنا). يقف الكتاب وهو (أنا) ولست غيره. لا أعود شيئاً بعد تمام الكتاب. الكتاب هو جهاز إظهاري. ذلك أنك لكي تتمكن من إدراك العالم الغريب الماثل خارجك لزمتك أجهزة الجسد العديدة. لا تظن أن ما تراه بعينك هو الشيء ذاته خارجها، بل إن عينك هي مستوى إقليمي من الطاقة القياسية يعيد من أجلك بناء الشيء وفقاً لأبعادك وقدرات جسدك وأفقك الإدراكي لتراه. بالمثل، لا يدرك الغير شيئاً منك إلا من خلال أجهزة قياسية خاصة بالنطاق الذي يخص الغير. الكتاب جهاز عمومي اخترع حديثاً نظراً إلى قدم الأجهزة الجسدية التي كانت تقوم بكل عمل المشاركة والمداركة قبل استحداث الكتاب. الكتاب محطة ارسال واستقبال مشتركة بين غيريات كثيرة يعرض الجميع من خلالها بضاعتهم وأعمالهم ومتحصلاتهم الداخلية دورياً وعلى أجزاء.
    أملي أن أنكبَّ بكاملي؛ فعلياً، لحماً ودماً وعظماً، في الكتاب، أيّ كتاب، وأن لا يعود من أي شيء مني غير الذي في الكتاب، حتى إذا قرأتَه من الخارج برزَت لك دهمة لحمية من إحدى الصفحات عرفتَ فيها (يدي) كأنها كلمة (يدي).
                  

العنوان الكاتب Date
" النهلة توصد أزرقها " نهال كرار01-20-09, 11:46 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " طلال عفيفي01-21-09, 00:11 AM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار01-21-09, 00:34 AM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار01-21-09, 00:36 AM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " مأمون التلب01-21-09, 00:46 AM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " هشام الطيب01-28-09, 09:20 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " مأمون التلب01-21-09, 07:51 AM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار01-21-09, 10:25 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار01-23-09, 07:41 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " محسن خالد01-27-09, 11:06 PM
      Re: " النهلة توصد أزرقها " محسن خالد01-28-09, 00:02 AM
        Re: " النهلة توصد أزرقها " DKEEN01-28-09, 02:52 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار01-28-09, 01:03 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " محسن خالد01-28-09, 10:51 PM
  .. esam gabralla01-28-09, 11:13 PM
  كل نهلة حرّة في أزرقها محمد حسبو01-29-09, 07:05 AM
    Re: كل نهلة حرّة في أزرقها عز الدين عثمان01-29-09, 09:01 AM
    Re: كل نهلة حرّة في أزرقها DKEEN01-30-09, 10:56 AM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار01-29-09, 09:23 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " DKEEN01-30-09, 09:56 AM
      Re: " النهلة توصد أزرقها " DKEEN01-30-09, 10:07 AM
      Re: " النهلة توصد أزرقها " محسن خالد01-30-09, 10:38 AM
        Re: " النهلة توصد أزرقها " DKEEN01-30-09, 12:57 PM
        Re: " النهلة توصد أزرقها " DKEEN01-30-09, 01:01 PM
          Re: " النهلة توصد أزرقها " DKEEN01-30-09, 01:03 PM
            Re: " النهلة توصد أزرقها " د.نجاة محمود01-30-09, 02:11 PM
        Re: " النهلة توصد أزرقها " DKEEN01-30-09, 02:11 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار01-30-09, 10:47 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " Abdulgadir Dongos01-30-09, 10:58 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " DKEEN01-31-09, 00:02 AM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار01-31-09, 00:57 AM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " د.نجاة محمود01-31-09, 02:23 AM
      Re: " النهلة توصد أزرقها " د.نجاة محمود01-31-09, 04:49 AM
        Re: " النهلة توصد أزرقها " DKEEN01-31-09, 06:43 AM
          Re: " النهلة توصد أزرقها " محسن خالد01-31-09, 12:47 PM
            Re: " النهلة توصد أزرقها " د.نجاة محمود01-31-09, 01:05 PM
              Re: " النهلة توصد أزرقها " DKEEN01-31-09, 01:51 PM
            Re: " النهلة توصد أزرقها " DKEEN01-31-09, 01:38 PM
              Re: " النهلة توصد أزرقها " Emad Abdulla01-31-09, 03:00 PM
                Re: " النهلة توصد أزرقها " Abuzar Omer02-01-09, 03:59 AM
                  Re: " النهلة توصد أزرقها " د.نجاة محمود02-01-09, 04:18 AM
                    Re: " النهلة توصد أزرقها " دينا خالد02-01-09, 09:35 AM
                      Re: " النهلة توصد أزرقها " هاشم الحسن02-01-09, 10:13 AM
                        Re: " النهلة توصد أزرقها " دينا خالد02-03-09, 10:02 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-03-09, 10:05 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-03-09, 10:36 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " حمور زيادة02-03-09, 11:47 PM
      Re: " النهلة توصد أزرقها " حمور زيادة02-03-09, 11:55 PM
        Re: " النهلة توصد أزرقها " إيمان أحمد02-04-09, 00:28 AM
          Re: " النهلة توصد أزرقها " محمد المعتصم ابراهيم02-04-09, 12:08 PM
            Re: " النهلة توصد أزرقها " د.نجاة محمود02-04-09, 12:19 PM
              Re: " النهلة توصد أزرقها " محمد المعتصم ابراهيم02-04-09, 12:38 PM
                Re: " النهلة توصد أزرقها " Abuzar Omer02-04-09, 04:37 PM
                  Re: " النهلة توصد أزرقها " د.نجاة محمود02-04-09, 06:00 PM
                    Re: " النهلة توصد أزرقها " Abuzar Omer02-05-09, 03:23 AM
                Re: " النهلة توصد أزرقها " د.نجاة محمود02-04-09, 06:12 PM
                  Re: " النهلة توصد أزرقها " حمور زيادة02-04-09, 06:38 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-04-09, 08:49 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " حمور زيادة02-04-09, 09:27 PM
      Re: " النهلة توصد أزرقها " دينا خالد02-05-09, 00:53 AM
  انتو منو؟؟؟ esam gabralla02-05-09, 01:07 AM
    Re: انتو منو؟؟؟ د.نجاة محمود02-05-09, 02:01 AM
      Re: انتو منو؟؟؟ د.نجاة محمود02-05-09, 04:27 AM
        Re: انتو منو؟؟؟ دينا خالد02-05-09, 08:23 AM
          Re: انتو منو؟؟؟ دينا خالد02-05-09, 09:45 PM
            Re: انتو منو؟؟؟ إيمان أحمد02-06-09, 04:42 AM
              Re: انتو منو؟؟؟ محمد المعتصم ابراهيم02-07-09, 07:08 AM
                Re: انتو منو؟؟؟ د.نجاة محمود02-07-09, 07:21 AM
                  Re: انتو منو؟؟؟ محمد المعتصم ابراهيم02-07-09, 07:32 AM
                    Re: انتو منو؟؟؟ محسن خالد02-08-09, 11:08 PM
                      Re: انتو منو؟؟؟ Abuzar Omer02-09-09, 04:14 AM
                    Re: انتو منو؟؟؟ Abuzar Omer02-09-09, 03:40 AM
                      Re: انتو منو؟؟؟ محمد المعتصم ابراهيم02-09-09, 12:38 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-09-09, 12:24 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-09-09, 12:53 PM
      Re: " النهلة توصد أزرقها " إيمان أحمد02-09-09, 06:22 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " حمور زيادة02-09-09, 04:18 PM
      Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-09-09, 04:30 PM
        Re: " النهلة توصد أزرقها " حمور زيادة02-09-09, 04:56 PM
          Re: " النهلة توصد أزرقها " حمور زيادة02-09-09, 05:11 PM
          Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-09-09, 05:20 PM
            Re: " النهلة توصد أزرقها " حمور زيادة02-09-09, 05:37 PM
            Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-09-09, 05:41 PM
              Re: " النهلة توصد أزرقها " حمور زيادة02-09-09, 06:25 PM
              Re: " النهلة توصد أزرقها " محسن خالد02-09-09, 06:36 PM
                Re: " النهلة توصد أزرقها " دينا خالد02-09-09, 10:04 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-09-09, 07:11 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " حمور زيادة02-09-09, 07:34 PM
      Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-09-09, 08:01 PM
        النهلة توصد أزرقها هاشم الحسن02-10-09, 04:39 AM
          Re: النهلة توصد أزرقها عبدالغني كرم الله02-10-09, 06:21 AM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-10-09, 02:52 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-10-09, 04:00 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-10-09, 04:04 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-10-09, 04:14 PM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-10-09, 04:45 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " Abuzar Omer02-10-09, 07:10 PM
      Re: " النهلة توصد أزرقها " مأمون التلب02-10-09, 07:59 PM
        Re: " النهلة توصد أزرقها " محسن خالد02-11-09, 02:47 AM
  Re: " النهلة توصد أزرقها " نهال كرار02-10-09, 09:56 PM
    Re: " النهلة توصد أزرقها " Abuzar Omer02-13-09, 00:28 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de