|  | 
  |  الرائى حسين شريف..سيناريو اللون والضو عن الامباسدور الاسترالية |  | 
 الرائي حسين شريف ...سيناريو اللون والضوء
 
 
 
 معاوية البلال
 
 نقلا عن الأمباسادور الاسترالية
 
 و مات  حسين شريف , و للمرة الاخيرة  و بعد ما  كانت عيناه  تبصر, ما   راكمته العزلة  خلف تلال  المعاقل , تبعثر اشياءها ,  ترى  الخراب  يسعى  بين جدرانها , تلامس جيناتها  ومن ثم تعريها للريح  والشمس ,  تطهرها من ادران  دمائنا  , دمائنا التى نذرت  للعذاب  المقيت , واللون  لغة تهبط بالمغنى  الى تخوم الكائن , اللون  بوابة  الجسد وكتابة الروح.  ينزفه دما حارا يزريه للرياح  التى تهب  نحو  مقام  حريتنا  . مقام  اندلاعنا  , شعلة  توقد  نوافذ الأشجار  فى المساءات الحزينة .
 
 مات  حسين شريف  و بموته  ازداد  حزننا  الكثيف  كثافة , هكذا  تعودت ايامنا  , وعلى  مدى   ستة عشر عاما ,  كلما  تصبرنا  بموت  واحد من  مبدعينا  مات  آخر   .  فقبل  ما نفوق  من  محنة  موت الراحل  القاص والروائى  زهاء الطاهر .  حتى  داهمتنا  محنة  موت  التشكيلى  والسينمائى  حسين شريف .  و لم  يمر  اسبوع واحد  حتى  جاءنا  خبر  وفاة  الشاعر  والتشكيلى  غريب الله محمد عبد الواحد .
 
 وبلا شك ان  الموت حق  . عندما  يموت الانسان  موتا  سعيدا ,   وهو  يزهو فى بيئة  طبيعية  حوله  الاحباب ,  و فى  وطن   هادىء  ليس  به  ظلم ومذابح  يفتخر صانعوها  بقلة عدد ضحاياها .  ولكن  فى  وطن يظل الموت  يلتقط  مبدعيه  واحدا تلو الآخر,   بسبب المحن والكدر  التى  تسبب فيها نظام سياسى جائر  يكتنز الموت بين شدقيه . نقول ان مسئولية  موت  هؤلاء المبدعين ,  بهذه الطريقه  وبهذا العدد و خلال  فترة  سياسة محددة ,  دامت طوال الخمسة عشر عاما ,  هى  ولا شك  فترة  هذا النظام السياسى الجائر,  الذى  تسبب فى كل تلك الازمات و ما زال ,    يكون موت مبدعينا   المجانى هذا,   تهمة مباشرة  تعلق حول عنقه الآثم .
 
 ومات  حسين شريف , التشكيلى الذى  يبدأ لوحته من  مركزها ,  ثم  يحرك الفرشاة  حرة  على المساحة البيضاء  لينتج  عوالم اللون البهية  . واللون جسد   يتماوج  على خطوط التكوين  . كان من  الأوائل الذى تمردوا  على   سيمترية مدرسة الخرطوم التشكيلية ,  والتى  تستند أعمالها  على  ايدلوجية التراث و المعاصرة  .  وقد اتخذ  من  التداعى الحر  الى  اقصى ما يحتمل اللون  من حريه ,  أفقا له فى ممارسته الابداعيه  ,  يتماهى   بلا حدود   مع  ذات  تتكون  الآن وهنا ,  خارجة على  كل  قيود السلط  بكافة اشكالها . لتكون اللوحة  جسدا  لا يحتمل  بهاء اللون الحر ,  و تكوين  خارج المعاقل . و ليكون اللون فى حركيته  و مغامرته   و انفعاله الشعرى هذا ,  هو  الذات والهوية  و الوجود  .
 
 و مات  حسين شريف  السينمائى  الشفيف , صاحب الافلام القصيرة  ذات المعانى الكبيرة ,  وكان اول ما شاهدت له  ,  وكنت  ضمن مجموعة من الاصدقاء ,   تجمعنا  فى  صالونه( الجاليرى )  لنشاهد  ابداعه الجميل   ذات  مساء  صيفى   بالقاهرة .   الفلم الذى تخرج به من معهد السينما بلندن,   وكان  حول غربة طالب  افريقى  ييتمزق  بين   واقع يعيش فيه   و آخر  يننتمى اليه  و لكنه بعيد عنه . ويتكون الفلم من  لقطات  شاعرية  , تنتقل  بين لحظة  وأخرى  من  امدرمان  بتفاصيلها الحيوية كمكان  يؤرق الذاكرة و يحتوى الذات ,  والى لندن  مركز  الحضارة الحديثة  والتقدم , و خلال هذا التأرجح ,  تحدث المفارقات و المغامرات اليومية  لطالب  اسود يعيش  فى لندن السينيات . نعم انها  تيمة مصطفى  سعيد ,   و لكنها  بالاساس تيمة  الستينات المفضلة  او ما يسمى بالصراع الحضارى  بين  الشمال والجنوب .ولكن تبقى المعالجة  السينمائية  التى عالج بها  الراحل حسين شريف  هذا الموضوع , تبقى  معالجة  جمالية عالية القيمة ,  أخرجها  فنان بصرى  حاد البصيرة.
 
 كما شاهدت له  فى ذلك المساء ,  فلمه  الأكثر شهرة ( انتزاع الكهرمان ) و الذى أخرجه عام  1974م , و قد داعبت  عدسته الحميمة بأناملها العاشقة ,  جسد مدينة  ترقد بحسرة  وندم , كأنثى  عارية  يواجهها  بحر   أزرق ,  هيولى الزرقة , هجرها عاشقوها  الميامين  الى مدن أخرى  أكثر شبابا  و نضارة .  كانت  العدسة   تتحرك  بانسياب شعرى آخاذ ,    داخلة و خارجة تسعى بين بيوت سواكن  الجميلة والعتيقة والمهجورة   . كانت العدسة   تموسق  الاشواق  التى  تأوهتها  شقوق البيوت  العتيقة ,  و تبكى  عشاقا  طالما كانوا   يدلقون وجوههم صوب البحر ,  و يلتمسون  دفء  الحب النقىء  بين  جدرانها  هذه .(ويا  بابل العذاب  و يا  سواكن  الاشواق العتيقة) . عدسة  حسين شريف  تلك استنطقت جدران  بيوت سواكن  التى  داهمها الصمت منذ  وقت  مضى ,   تحدثت شقوقها و بكت  أحجارها المزخرفة , ولم  تحكى  حكايتها  تلك  الا لها . عدسة  خلفها  عيون اسطورية ترى ما لا يرى  .  اكتشفت  جينات   الأرق فى  الجسد المؤبوء بالهجر  و الوحشة .
 
 كما شاهدنا  فى تلك الأمسية القاهرية , لقطات من فلم  قيد التصوير  ( التراب و الياقوت ) ,  و يستند  الفلم  على فكرة  الدياسبورا السودانية,  التى  بدأت تتصاعد وتائرها منذ بداية التسعينيات ,   كنتيجة   حتمها  الوضع السياسى و الاجتماعى  الذى  وجد الشعب السودانى  نفسه فيه  , مستنقع  الدماء والقهر  الغير مسبوق .  عدسة حادة المزاج   تركز  اشعاعها  الباهر,  على  جسد شاب  مصلوب على  عمودين ,  تحت شجرة  نابتة وحيدة فى  صحراء ,  و تحته  لهب  نيران  تبدأ اشتعالها  على  الجسد  -   الضحية . و تتوسل  هذه اللقطة ( الاوسكار) .  بأشعار  لمحمد عبد الحى  وتارة  لمحمد المكى ابراهيم  واخرى  لصلاح احمد ابراهيم  و بصوت   حسين شريف  نفسه  .
 
 . ومات حسين شريف ,  الفنان العملاق  موتا  سعيدا ,  كما أتمنى ,  وقد  ترك  لنا  عوالم  بصرية  لا يحد  جمالها حدود . ترك لنا  فكرة الحرية التى ينبغى ان  نبدأ منها ابداعنا  وننتهى بها  . حيث  لا نهاية لها  الا  بها  ,   و فيها . كطائر( السيمرغ ) ,   يرى ذاته فى ذاته  ويبنى وسيلة فتحها وخلقها معا  . انها الفعل الغامض والجوهرى  . الشعرية الفاعلة  . لغة تكشف المجهول  و تخلقه فى آن  واحد ,  ويصبح الفنان  فى  مغامرته هذه رائيا .
 
 |  |  
  |     |  |  |  |