مصرع القداسة على عتبات السياسة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-19-2024, 02:48 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-19-2003, 08:27 PM

intehazy
<aintehazy
تاريخ التسجيل: 02-08-2003
مجموع المشاركات: 1530

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة (Re: intehazy)



    صوفية الإسلام في السودان ...

    التصوف علم يبحث عن الذات الأحدية، وأسمائه وصفاته وبيان مظاهر الأسماء والصفات وخفاياها ويبحث كيف الوصول إلى هذه الذات ومتصوفة الإسلام زادوا بيان حال وفضل ومعجزات وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وبيان فضل آله الطيبين وكذلك أهل الله من العلماء والفقهاء والمتصوفين وكيفية سلوكهم ومجاهدتهم ورياضتهم وبيان فضائل الأعمال والترغيب فيها. وربما كانت قصائد أبونا البرعي في مجملها تحوي هذا التعريف الذي لم أجد أفضل منه. ومن نفحات المتصوفة أن قال أحد العارفين: من كان نظره في وقت النعم إلى المنعم لا إلى النعمة، كان نظره في وقت البلاء إلى المبلي لا إلى البلاء فيكون في جميع حالاته غريقا في ملاحظة الحق، متوجها إلى الحبيب المطلق وهذه أعلى مراتب السعادة. ويقول الشريف الرضي: تاهت العقلاء في ذاته تعالى وصفاته لاحتجابها بأنوار عظيمة، وتحيروا في لفظ الجلالة كأنه انعكس إليه من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين.13

    ويقول الشيخ العارف الواصل محي الدين بن عربي المتوفى سنة 438 للهجرة:

    لقد صار قلبي قابلا كل صورة
    فمرعا لغزلان ودير لرهبان

    وبيت لأوثان وكعبة طائف
    وألواح توراة ومصحف قرآن

    أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه
    فالحب ديني وإيماني

    والحب هنا ليس حب قيس وليلى ولا حب جميل بثينة، بل هو الحب كقيمة في حد ذاته وهو حب العبد لله وحب الله لعبده .. الذي إذا جاءه بملء الأرض خطايا أتاه بملئها مغفرة14، وهو الحب الذي في قلب المسيح و قلب غاندي نحو الإنسانية والخير و الحق والجمال والمثل العليا، وحب الخير والحق والجمال إنما هو حب الله، وهو الحب الذي تحدث به أئمة الصوفية وتغنوا به. تذكرني هذه الأبيات بمقولة لمحمد أحمد المحجوب: إنما مثلنا الأعلى .. حفاظنا على ديننا الإسلامي وتمسك بتراثنا العربي مع تسامح شامل وأفق فكري واسع وطموح يجعلنا نقبل على دراسة الثقافات الأخرى.

    ويقول أحد الصوفية: إن الله خلق الإنسان على صورة أسمائه الحسنى فهو محل لظهور أحكام هذه الأسماء وصفاتها وقابل لتجليات الحضرة الربوبية، الإنسان هو العالم الصغير الذي فيه انطوى العالم الكبير وهو الكتاب الجامع والعالم الطبيعي صفحات لهذا الكتاب، يقول الله في حديث قدسي: "لم تسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن".

    والمدارس الصوفية باختلافها كان لها الدور الأبرز في انتشار الإسلام في السودان، فقد اخترقت الحركات الصوفية الحواجز القبلية والإقليمية وتجاوزت بمسلكيتها الأخلاقية أطر التعصب15، وذكر الدكتور يوسف فضل في كتاب له عن الشلوخ، أن هناك العديد من الشلوخ نسبت إلى شيوخ الطرق الصوفية وتبعها مريدو الشيخ والمتبعون لطريقته وتشلخوا بها.

    كانت حملة عبد الله بن أبي السرح على دنقلا، بداية تعرض السودان للفتح الإسلامي ومع ذلك لم تتأثر حياة النوبة بالإسلام فقد عقدوا مع العرب اتفاقية البقط في دنقلا العجوز العاصمة المسيحية وقد ارتضى المواطنون فيها دفع الجزية للعرب. أما الذين اعتنقوا الإسلام فغالبا ما كان ذلك هربا من دفع الجزية لأن معظمهم عاد إلى ممارسة الطقوس المسيحية بعد ذهاب جيش ابن أبي السرح إلى مصر.

    وفي 1276 أرسل الظاهر بيبرس حملة أخرى قوية استطاعت هدم مملكة المقرة المسيحية وتدمير الكنائس في عاصمتها دنقلا العجوز. وهنا بدأ دخول العرب وبالذات الفارين من الحكم الأموي وأغلبهم كانوا من المتصوفة الذين دانوا بالولاء لعلي بن أبي طالب إبان حربه مع الأمويين في بداية دولتهم.

    اهتم الدعاة وجلهم من التجار والبدو الرحل والمهاجرين من الجزيرة العربية بنشر هذا الدين وهم ممن تنقصهم الثقافة الدينية العميقة فقد ركزوا على السمات العامة للدين دون التفاصيل المرهقة أو المقيدة16.

    تكونت دولة الفونج بعد أكثر من 200 سنة بتحالف قبائل الفونج مع قبائل العبدلاب العربية الأصل ليشنوا هجوما على مملكة علوة -آخر المعاقل المسيحية في السودان- ودمروا عاصمتها سوبا حتى أطلق المثل (خراب سوبا). وإذا تحدثنا عهد دولة الفونج 1504-1821م وهي أول دولة أطلق عليها مسمى دولة إسلامية في السودان. فقد كان إسلامها لا يعدوا أن يكون اسميا فقط، إذ يقول محمد النور ود ضيف الله في طبقاته نصا يوضح علاقة السودانيين بالدين فيقول عن دولة الفونج17 أنه لم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولا قرآن ويقال أن الرجل كان يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عدة.

    بعد الاستقرار النسبي الذي حققته دولة الفونج اجتاحت الحركات الصوفية السودان بأكمله دون جنوبه ونهل السودانيون من تعاليمها بل فضلوها على المدارس الفقهية السلفية وكما يحلل ذلك محمد أبو القاسم حاج حمد قائلا كانت الصوفية (وليست الفقهية السلفية) هي التيار الوحيد القادر على تمثل واستيعاب الحالة الفكرية السائدة (قبل الإسلام في السودان) .. مفهوم الحكيم في الثقافة الإفريقية يسقط نقسه على شيخ الطريقة، دائرة الرقص تسقط نفسها على حلقة الذكر وما بها من إيقاع جماعي .. وعبر هذه الإسقاطات المختلفة تمثلت الصوفية في السودان أبعاد الروحية الدينية الإفريقية ثم استوعبتها في إطار الدين الإسلامي وتطورت بها إلى صورة فقهية أكثر تحديدا. فقد مدت الحركات الصوفية يدها فتناولت مفتاح الشخصية الإفريقية وهنا بالضبط فشلت تيارات السنية النصية وكان مقتل الظاهريين وفقهاء مصر في بداية دولة الفونج18.

    وبعد استيلاء محمد علي باشا على مقاليد الحكم في مصر بدأ يمد عينيه إلى ما متع الله به الشعب السوداني من الأجسام والأراضي والكنوز وأرسل حملاته المسعورة لجلب الرقيق والخيرات حتى أسقط دولة الفونج في 1821م. وبدأت الدولة التركية السابقة كما يسميها السودانيين ولم يكن السودان وقتها بالنسبة لدولة محمد علي باشا في مصر سوى مصدرا للرقيق وأرض جباية للضرائب التي أنهكت كاهل المزارع والمواطن السوداني.

    أرسل السيد أحمد بن إدريس زعيم الأدارسة تلميذه محمد عثمان الميرغني الكبير سنة 1834م19. من الطائف بالجزيرة العربية إلى مناطق غرب البحر الأحمر لينشر التعاليم الإسلامية هناك وقد لقي الميرغني حظا وافرا من القبول والمحبة والأتباع والمريدين هناك وتركز ذلك النفوذ الديني ما بين أسوان و دنقلا و أسرع الكثير من أهل النوبة وسلكوا طريقته. وانتشرت طريقته بعد وفاته بواسطة خلفائه وأبنائه لتصل إلى سواكن وكسلا وإرتريا و مصوع وجنوب غربي الحبشة. وقد عاصر الميرغني طوال حياته (1793م - 1853) صراعات الوهابيين السلفيين ذووا الفهم الحجري للدين الإسلامي، القادمين من الدرعية في نجد، ضد الحركات الصوفية وضد الأشراف في مكة والطائف و مختلف أرجاء الحجاز. وهذه الصراعات قد تكون أحد الأسباب الذي دفعت الإدريسي لإيجاد مناطق نفوذ غرب البحر الأحمر عبر تلميذه الميرغني لمواجهة الخطر السلفي الذي يتهدد الدعوة متمثلا في الدولة السعودية أو الحكم الوهابي السلفي النصي. والطريقة الختمية هي إحدى الطرق واسعة الانتشار في السودان ويبدوا واضحا أن الطريقة ومنذ دخولها السودان كانت معادية للاتجاه السلفي أو النصي المتحجر وهو السبب الذي أدى لدخول إمام الطريقة إلى السودان.

    وفي لبب وهي جزيرة بالقرب من دنقلا ولد محمد أحمد بن عبد الله سنة 1844م. فنشأ وترك صنعة أهله وكانت صناعة المراكب وأحب العلم الديني فدرس على يد العديد من المشايخ واشتهر بتقواه وورعه وزهده وحبه للخير ونصرته للحق. وفي شبابه تاقت نفسه إلى التصوف فتعلم عند الشيخ محمد شريف نور الدائم وهو أحد كبار قادة الطريقة السمانية في السودان ثم غادر إلى الجزيرة أبا ليكون مدرسة صوفية نهل منها أهل المنطقة واستقطبت الكثير من السودانيين.

    جمع الشيخ محمد شريف نور الدائم قادة الطرق الصوفية وكان فيهم المهدي، عارضا عليهم إنشاء سلطة بديلة للحكم التركي الذي أرهق العباد ظلما وضرائبا واستغلالا وتعذيبا، لكن الشيخ عبد المحمود نور الدائم اعترض على تلك الدعوة وكره هذا الرأي واعتبرها جريا وراء السلطة20 ووافقه العديد من المشايخ. ولهذا رفض محمد شريف دعوة المهدي إلى الدولة المهدية فيما بعد.

    وفي عام 1881م قال محمد أحمد بأنه هو المهدي المنتظر ودلل المهدي على مهديته بأحاديث نبوية ورؤية رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قد أخبره بذلك كما دلل أيضا بأحاديث منقولة عن الشيخ ابن عربي والشيخ أحمد الإدريسي أستاذ الميرغني الكبير. وكتب ذلك إلى قادة الحركات والطرق الصوفية في أرجاء السودان وقام بزيارة بعضهم والتف عدد منهم حوله وتعلق أمل السودانيين في المهدي الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملأها الأتراك (التركية السابقة أو الحكم المصري التركي الذي بدأه محمد علي باشا) جورا وتعسفا وقهرا.

    والعديد من قادة الطرق لم يقبلوا الدعوة بصفتها خارجة عن الإطار الصوفي الداعي إلى الإصلاح بالتي هي أحسن. وقد كان قادة الصوفية في السودان يهربون من الحكم والسلطة كهروب الصحيح من المجذوم كما يقول حاج حمد. مع العلم أن المدارس الصوفية السودانية كانت تنهل من مصدر واحد ولعل كتاب الفتوحات المكية لابن عربي هو المصدر الأساسي لها. إلا أنهم اختلفوا حول قبول مهدية المهدي من عدمها وحول تسويس الحركة. وقد كانت دعوة المهدي التي تضمنت تكفير كل من لم يؤمن بمهديته سببا في إثارة الرأي ضده. كما أن المهدي انتهج نهجا دمويا لمحاربة أعدائه ومن لم يؤمنوا بمهديته مما أدى إلى المزيد من التباعد بينه وبين قادة الطرق الصوفية التي لم تنضوي تحت رايته.

    المثقف السوداني والمنهج التنويري ...

    فارقت دولة المهدي الإطار الصوفي للدين وانتهجت نهجا راديكاليا شبيه بذلك الذي تلبسه الحركات السلفية حتى في أحكامها الفقهية، رغم أن قرارات الخليفة التعايشي الذي خلف المهدي المتوفى عقب فتح الخرطوم بأشهر، كانت قرارات في معظمها مأخوذة من رؤيته للمهدي أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو نبي الله الخضر في المنام وكان يدير أمر دولته بواسطة هذه التجليات الصوفية، إلا أن الفكر الصوفي لم يكن متمثلا في بنية الدولة المهدية الإدارية والتنظيمية والسياسية.

    ومع مرور الأيام تحولت أكبر الحركات الصوفية انتشارا في السودان الختمية والمهدية أو الأنصار إلى طوائف أكثر من كونها طرقا صوفية. وبدأ أرباب هذه الطوائف يخوضون المسرح السياسي في فترة الحكم المصري الإنجليزي فتارة هذا مع هؤلاء أو ذاك مع أولئك ليصونوا مصالحهم وأموالهم ونفوذهم في السودان. واصطدمت الطائفتان بعد ذلك بالقوى الحديثة الصاعدة في السودان لتقف الطائفية بجانب الاستعمار ضد القوى الحديثة التي تفاعلت مع الثورة الوطنية المصرية الرافضة للاستعمار. وبدأ المثقفون السودانيون ينتشون بانتصارات الثورة المصرية ويخططون ويحلمون لنظيرة لها في السودان فكانت جمعية اللواء الأبيض بقيادة علي عبد اللطيف وهو ابن قبائل الدينكا الجنوبية.

    شنت الطائفتان حملات معادية للمثقفين ولجمعية اللواء الأبيض وثورة 1924. وقد كال حسين شريف رئيس تحرير جريدة حضارة السودان وهي الناطق الرسمي باسم علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي والشريف يوسف الهندي أي الناطقة باسم الطائفية والتي دعمها رجال الحكم البريطاني، كال رئيس التحرير للشعب الذي ثار بثورة 24 وانتفضت الخرطوم و بورتسودان و عطبرة. وكتب رئيس تحرير جريدة الطائفية تلك:إن البلاد قد أهينت عندما تظاهر أصغر وأوضع رجالها ... إنها لأمة وضيعة تلك التي يقودها أمثال علي عبد اللطيف ..إن الشعب ينقسم إلى قبائل وبطون وعشائر ولكل منها رئيس أو زعيم أو شيخ .. من علي عبد اللطيف هذا وإلى أي قبيلة ينتسب؟؟. ونسي الكاتب أن شرف علي عبد اللطيف ليس في انتسابه لقبيلة معينة بل في انتساب السودان كله لعلي عبد اللطيف. و حينها زمجرت الخرطوم وعلي عبد اللطيف في سجن كوبر وأخرجت أشعارها المخبوءة:

    ألا يا هند قولي أو أجيزي

    رجال الشرع أضحوا كالمعيز

    ألا ليت اللحى كانت حشيشا

    فتعلفها خيول الإنجليز21

    وهكذا وقف المثقف في وجه الاستخدام المشين للدين الحنيف وكأنه يقول لا قدسية لمفهوم ديني يقف في وجه المنطق والعقل والوطن.

    واستطاع مد المثقفين رغم تشعبه وتخبطه الذي أراه طبيعيا، استطاع أن يجر الطائفية إلى مواقعه ليتبنوا النداء الوطني الداعي إلى حرية الشعب السوداني وجلاء المستعمر الأجنبي. ونظرة خاطفة إلى تاريخ استقلالنا تشهد بوطنية السيد علي الميرغني والإمام عبد الرحمن المهدي وكفى بالدموع شهيدا يوم رفع الزعيم إسماعيل الأزهري يدا بيد محمد أحمد محجوب، علم السودان ذا الألوان الثلاثة الأزرق والأصفر والأخضر، إعلان استقلال أمة كافحت وناضلت وبذلت من كل غال ونفيس من أجل حريتها.

    وهنا بدأ فصل آخر وهو دخول الطائفية إلى معترك السياسة السودانية وهو ليس فصل فحسب بل يلزمنا دراسة نفند فيها هذا الموضوع.

    مرت لتك الفترة وصراع الدين والدولة يدور في الخفاء فالمثقفين أمثال عرفات محمد عبد الله، أحمد خير، معاوية محمد نور ومحمد أحمد محجوب والهادي العمرابي وتوفيق صالح جبريل وأبناء مدرسة أبو روف الاتحادية الذين شكلوا جزءا هاما في جمعية ود مدني الأدبية والتي من خلالها أطلق أحمد خير الدعوة لإنشاء مؤتمر الخريجين. ومختلف الكتاب والأدباء الذين امتلأت صفحات مجلة النهضة ومجلة الفجر بكتاباتهم في الحرية وتحرير المرأة والقومية والاشتراكية ونقد العقلية التقليدية. وتبنت الفجر خط وطني متنابذ مع الطائفية والقبلية وساعيا بكل جهد لتمييز المثقف السوداني بمواقف الحداثة والتجديد.

    وليس أوضح من انفتاح المثقف السوداني على الثقافات الأخرى من سياسة طلاب كلية غردون في مواجهة قرار الاستعمار بإلغاء ألف وظيفة وتخفيض مرتبات الموظفين السودانيين فقد قرروا مقاطعة البضائع البريطانية وطالبوا المجتمع بمقاطعتها كما صاموا عن الكلام واعتصموا تماثلا مع دعوة غاندي القائمة على الكفاح السلمي والعصيان المدني. وانقسام مؤتمر الخريجين إلى قسمين أحدهم بقيادة أحمد الفيل والثاني بقيادة محمد شوقي. وقد سميتا مجموعتي الفيلست و الشوقست.. الشوقست أدانت الإضراب الذي تبناه طلبة كلية غردون خوفا من مزيد من البطش على يد الإدارة البريطانية وهرعوا إلى السيد عبد الرحمن المهدي ليقنع الطلاب بالعدول وكانت هذه أول بارقة لتبني المهدي لما سمي لاحقا بحزب الأمة. أما الفيلست فقد أيدوا الطلاب المضربين. بذلك اختار كل شق منهم درب مقاومته للمستعمر فقد مال الشوقست إلى الاستكانة والسلم أكثر حتى من دعوة غاندي أما الفيلست فقد جنحوا إلى المواجهة.

    وليس أوضح من أن الصراع كان قائما آن ذاك من مقالة محمد أحمد محجوب التي كان عنوانها "قضاء على حصون الرجعية" في مجلة النهضة والتي لقيت معارضة من أنصار الفكر التقليدي فكتب مواطن مقالة يصف فيها المقال بأنها كلمات محفوظة من بعض ملحدي الأمم الخارجة عن الأديان ويلقي اللوم على التعليم اللاديني ويوقع مقاله باسم رجعي من بورتسودان. وساند كاتب آخر من القضارف، رجعي بورتسودان في مقال سأل فيه الشباب عما جنوه من التعليم غير التفرنج والتقليد الأعمى قائلا وإن كانت هذه نتيجته بيننا ونحن الشبان فكيف تكون بين فتياتنا آلائي لم يهبهن الله عقلا؟ والله إنها لطامة كبرى.22

    مصرع القداسة على أعتاب السياسة .. كان ذلك هو شعار الحزب الوطني الاتحادي ليأتي معبرا عن توجهاته الفكرية بكل وضوح، ولأرد به على كل الذين يتشدقون رغم جهلهم بأننا انحرفنا عن مسار الحزب. ولم يكن غريبا أن يكتسح الحزب في 1953م الانتخابات النيابية الأولى في تاريخ السودان بأغلبية مطلقة.

    أما بعد الاستقلال فقد عادت القضية إلى السطح بشكل واضح بالذات في الفترة التي تلت ثورة أكتوبر المجيدة. في خضم الحديث والنقاش حول دستور السودان. وشهدت تلك الفترة أكبر خطأ انتهجته الأحزاب في حق الديمقراطية والليبرالية السياسية باسم الدين، عندما كشرت جماعة الأخوان المسلمين عن أنيابها فرحة بل حق لها أن تحتفل عندما استطاعت أن تجر البرلمان إلى قرار حل الحزب الشيوعي وطرد أعضاءه من البرلمان وتبعها في ذلك الاتحاديون وحزب الأمة للمكاسب السياسية التي ستؤول لكل منهما. عندها خرج بيان اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ليثبت الطلاب وكعادتهم دوما أنهم صمام الأمان الوطني الذي يصون الديمقراطية وورد في لبيان:

    يا جماهير شعبنا لقد استطاعت بعض العناصر التي تقف في ضد التطور السلمي الديمقراطي لبلادنا أن تتسلل خلف شعار الدفاع عن الدين وتستغل هذا الحادث الفردي وتصور هذه القضية الأخلاقية كأنها نزاع سياسي ذلك لا لشيء إلا لضرب الديمقراطية وتصفيتها وكان أن خرجت مظاهرات تجوب شوارع العاصمة بتحريض من خطباء المساجد لا للدفاع عن الدين ولا لحماية البلاد ولا لحل مشاكلنا الخانقة بل فقط لمكسب حزبي رخيص وفرض طريق رفضته جماهير شعبنا منذ أكتوبر 1964. إننا نؤمن إيمانا جازما بأن الزج باسم الدين هي إساءة لمعتقداتنا لأنها تجعل من الدين مطية للأهواء والمطامع السياسية المنحرفة.

    والحادث الفردي الذي تحدث عنه البيان هو أن طالبا في معهد المعلمين كان قد أساء للإسلام وادعى أنه ماركسي. وبغض النظر عن كونه ماركسيا أم لا! فكما قال البيان هو حادث فردي أدى إلى طامة ديمقراطية في البلاد وتعدي على مفهوم الديمقراطية والليبرالية السياسية.

    وبعدها أتى نميري .. وبعد تخبط فكري وسياسي أتى ليطبق لنا قوانينه الإسلامية التي عزف الشعب حتى عن أن يسميها إسلامية فالإسلام منها براء، فسميت قوانين سبتمبر والتي صفقت لها الجبهة الإسلامية كثيرا لا لشيء إلا لأنها تعلم جيدا أن قوانينهم هذه لن تأتي إلا بالقوة ولن يقبلها الشعب السوداني بتعدديته وثقافته ووعيه. وأيضا أعادت الأحزاب الكرة مرة أخرى عندما أمنت للإمام نميري فعاد حزب الأمة بقيادة الصادق ليؤكد لنا أن الحديث عن منهج تحديثي مازال أمامه الكثير لكي يقف جنبا إلى جنب المدارس الفكرية الأخرى وكذلك فعل الميرغني. بقي الشهيد الشريف حسين الهندي ومعه جماهير الحركة الاتحادية ليشكلوا من جديد وبقيادة الشريف، الجبهة الوطنية الديمقراطية في نوفمبر 1979م، متحالفين مع القوى التنويرية أو اليسارية. ومن جديد جاءت الحركة الطلابية لتسجل شموخها فقد فاز التحالف الجديد في انتخابات جامعة الخرطوم في مارس 1980م، معلنين بذلك وقوفهم الصادق مع الديمقراطية رافضين أن ينخدعوا بأي شعار براق أو كذبة واهمة أو ينقادوا خلف القادة في اعوجاجهم الفكري ودخولهم في أزقة التاريخ والسياسة.

    وجاءت انتفاضة الشعب في 85م لتسقط الطاغية نميري وبعد عام من الحكم الانتقالي من جديد ترك المسرح للطائفية وكانت الجبهة الإسلاموية في صفوف المعارضة ريثما تحل مشكلات تنافسها مع الصادق المهدي حول شرعية التحدث باسم الصحوة الإسلامية وحول تبني نفس القوانين السابقة (قوانين سبتمبر) معدلة أو مستبدلة23. أما الحزب الاتحادي الذي قاده مولانا محمد عثمان الميرغني عقب استشهاد الشريف حسين الهندي وهو في أوج حربه مع الطاغية نميري. فقد سار الحزب بموازاة الشارع السياسي ليخرج برنامج الحزب الاتحادي أيضا باسم الصحوة الإسلامية صافعا التوجه الفكري للحزب منذ نشأته ومنجرفا مع التيار السائد.

    أبرم الميرغني و قرنق اتفاق أديس أبابا في نوفمبر 1988م والذي قضى بتجميد قوانين سبتمبر وحل مشكلة السودان في جنوبه وعاد الميرغني ليستقبل بطلا في السودان، رغم تململ الصادق من الاتفاقية وخلافه مع الميرغني حول تنفيذها. وكان للصادق المهدي مبرران للاختلاف مع الميرغني والتحالف مع الجبهة الإسلاموية، الأول هو اعتقاده بأحقيته في حل أزمة كأزمة الجنوب نظرا لأحقيته وأهليته التاريخية لذلك والثاني أن برنامجه يدعو إلى صحوة إسلامية ويأتي تجميد قوانين سبتمبر عقبة في طريقها كما رأى. إلا أن الأمل لاح لجميع السودانيين. ففي فبراير 1989م وقع 29 حزب ونقابة (68 حزبا ونقابة كما ورد في الإنقاذ الأكذوبة .. الوهم - إسماعيل أحمد محمد ، وديع إبراهيم) على برنامج السودان الانتقالي والذي قرر التحضير للمؤتمر القومي الدستوري في 4/7/1989م. وهكذا كانت ستنتهي محنتان للشعب السوداني في آن واحد، حربه في الجنوب ومشكلة دستوره العالق منذ الاستقلال وكانت تلك الاتفاقيات محل إجماع الشعب السوداني ماعدا الجبهة الإسلامية القومية. لأن تلك الاتفاقية كان من شأنها أن تهدم الخطاب السياسي للجبهة الداعي للجهاد ضد زمرة الأوباش في الجنوب كما يقولون. وكان الانقلاب خيارا مصيريا للجبهة لأن عدمه يعني إنهاء الحرب ووضع دستور للسودان أي إنهاء وجود الجبهة في الساحة السياسية. وجاء الانقلاب على عجل حتى دون وجود خطة مدروسة للحكم بعده فعلى سبيل المثال بدأت بإحكام الرقابة على النقد إلى درجة تطبيق الإعدام بسبب التجارة في العملة لتتحول فيما بعد إلى سياسة السوق المفتوح والرأسمالية الفاضحة وكأن شيئا لم يكن. ولا حاجة لنا لتعرية النظام والحديث عن الانتهاكات التي قامت بها حكومة الجبهة باسم الإسلام وباسم إنقاذ الوطن فقد خبرنا سياسة بيوت الأشباح والتصفية الجسدية والمهنية والأكاديمية والاقتصادية... الخ. بالفعل لا حاجة لنا لتعرية النظام فهو يفعل ذلك بنفسه وإن ادعى جنوحه إلى الديمقراطية والتسامح والعدل في الفترة الأخيرة (كما يدعي) إلا أن الحق لا يقوم وأساسه باطل.

    لم يكن مشروع الإنقاذ سوى استكمالا لمسيرة الطاغية نميري أو بالأصح استكمالا لمسيرة الجبهة الإسلامية التي وسوست لذلك الطاغية إلى أن نصبته إماما وخليفة إسلام ووسوست له إلى أن أعدم الأستاذ محمود محمد طه الذي كان أيضا يدعو لنهج إسلامي تجديدي .. وأتت لتكمل مشروعها الذي وأده الشعب بانتفاضة أبريل. لهذا لم يكن غريبا أن تبدأ الجبهة بإعادة قوانين سبتمبر83 في 91م مرة أخرى وتعيد سياسية النظام العام على السلوك الشخصي والمظاهر العامة للمجتمع وتستمر في تعاطي إشكالية الجنوب بإضافة العنصر الديني، ضاربين بحق المواطنة عرض الحائط لينقسم الوطن إلى مسلمين وغير مسلمين. واستمرت حملت النظام لأسلمت المجتمع قسرا .. وكانت النتيجة طبيعية .. انحلال أخلاقي واجتماعي في ظل انضباط مظهري شوفيني .. ارتفاع ملحوظ في عدد حالات الإصابة بالإيدز في ظل تكتم من الأجهزة الرسمية.. تكدس رأس المال في أيدي رجالات الجبهة وتدني المستوى الاقتصادي للمواطن وإدعاء توفير كافة الخدمات والسلع رغم تردي أحوال المواطنين .. حتى الكهرباء التي صرنا ندفع ثمنها مقدما فإننا لا نجدها... كل ذلك وأكثر باسم الإسلام.

    وأتت حملت النظام التي شنها على إعلان القاهرة متناسيا تماما أن هذا ما احتفل به السودانيون قبيل الخاتم من يونيو 89م وأتى هو ليجهضه وليدعم الحرب لمزيد من الخراب ويجبر الشعب على حرب أصلا لا يطيقها ولا يريدها وما زال يبث دعواته باسم الجهاد ويسجل برنامج في ساحات الفداء لكسب المزيد من الشباب ليلقي بهم إلى التهلكة ويغرر بآمالهم وتطلعاتهم وعاطفتهم تجاه دينهم. ورغم ذلك اكتسح تحالف القوى الديمقراطية انتخابات جامعة الخرطوم حتى رغم حملات التكفير التي نالت بعض أعضاء التحالف، لكن الخطير في الأمر هو أن تنظيم أنصار السنة المحمدية حصل عدد مرتفع من الأصوات. وكان ذلك مؤشرا لتراجع الخطاب التنويري في الساحة هناك وهو ما دفعني بإلقاء هذه الورقة لإعادة تسليط الضوء على القضية.

    إن الذين يتحدثون عن أن نهج الإسلام السياسي في السودان هو سمة طبيعية في المجتمع السوداني إنما يجهلون أو يغالطون أنفسهم لأن تجربتي نميري والجبهة الإسلامية لم تطبقا إلا في إطار ديكتاتورية ترفض الآخر لأن وجوده يعني زوال دعوتهما. أو ربما أن السودان خلال عقدين من الزمان حكم بديكتاتورية إسلاموية أنست البعض من هو الشعب السوداني. والحديث هنا عن نهج الإسلام السياسي وليس عن الإسلام كقيمة روحية واجتماعية وأخلاقية في المجتمع السوداني. أقول هذا لكي لا أجد اسمي مدرجا في قائمة التكفير التي تبناها بعض الإسلامويون مؤخرا في الخرطوم وأهدروا دم عشرات الكتاب والصحفيين، لأنهم عجزوا أن يطلقوا رصاص الجهل إلى عقولهم فأرادوا أن يطلقوا النار على قلوبهم.
    ______________________
    هوامش ومراجع:
    * شعار الحزب الوطني الاتحادي.
    1- القيد الذي أدعو لكسره ليس قيد الدين..لأن الدين ليس قيدا أصلا .. إنما هو قيد التحجر والتخلف والرجعية التي تأتينا باسم الدين في أكثر الأحيان.
    2- الهادي عثمان العمرابي - مجلة الفجر 1953.
    3- الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية .. الشيخ محمد عبده.
    4- الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية .. خليل عبد الكريم.
    5- الشيخ أبو حامد الغزالي صاحب إحياء علوم الدين المتوفى سنة 505 هـ.
    6- د. منصور خالد . لا خير فينا إن لم نقلها.
    7- النقل هنا هو النص أو ظاهر الشرع من قرآن أو سنة.
    8- الشيخ محمد عبده .. الإسلام دين العلم والمدنية .. أصول الإسلام .. تحقيق د. عاطف العراقي
    9- ابن رشد .. فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال
    10- منصور خالد .. لا خير فينا إن لم نقلها.
    11- أعلام الموقعين .. ابن القيم الجوزية.
    12- الصادق المهدي .. الإسلام النظام العالمي الجديد .. إصدار مركز الإعلام الخارجي لحزب الأمة.
    13- الكشكول .. الشيخ بهاء الدين محمد بن حسين العاملي المتوفى سنة 1031هـ.
    14- حديث قدسي.
    15- السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل .. محمد أبو القاسم حاج حمد.
    16- مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي .. د. يوسف فضل
    17- دولة الفونج أو سلطنة سنار أو السلطنة الزرقاء.
    18- السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل
    19- وهو من تنسب إليه الطريقة الميرغنية في السودان
    20- الأدب الصوفي في السودان .. د. الطاهر البشير .. النص والترجيع من السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل .
    21- السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل .
    22- النهضة .. المصدر السابق
    23- المصدر السابق.
    أرشيف ووثائق رابطة الطلاب الاتحاديين الديمقراطيين السودانيين - باكستان.
    الإنقاذ الأكذوبة .. الوهم - إسماعيل أحمد - وديع إبراهيم

    (عدل بواسطة intehazy on 09-19-2003, 08:38 PM)

                  

العنوان الكاتب Date
مصرع القداسة على عتبات السياسة intehazy09-19-03, 08:26 PM
  Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة intehazy09-19-03, 08:27 PM
  Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة Alsawi09-19-03, 08:37 PM
  Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة intehazy09-19-03, 08:43 PM
  Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة intehazy10-01-03, 05:28 PM
    Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة Hani Abuelgasim10-26-03, 07:42 PM
  Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة intehazy10-01-03, 10:00 PM
  Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة omer-gerja10-02-03, 10:11 AM
  Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة intehazy10-03-03, 05:04 PM
  Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة intehazy10-07-03, 09:08 PM
    Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة ahmed babikir10-08-03, 05:26 AM
  Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة intehazy10-08-03, 07:40 PM
  Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة intehazy10-17-03, 12:18 PM
  Re: مصرع القداسة على عتبات السياسة Hani Abuelgasim10-26-03, 07:24 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de