|
يحيى فضل الله : أنتمي إلي خطاب قصصي مفتوح علي التأويل
|
القاص والشاعر السوداني يحيي فضل الله :
أنتمي إلي خطاب قصصي مفتوح علي التأويل
حاوره: سعد جاسم
يحيي فضل الله: قاص وروائي وشاعر ومسرحي سوداني.. صدرت له الأعمال القصصية والكتب التالية: حكايات لم تثمر ــ 1988 ــ تداعيات ــ 1995 ــ حكايات وأساطير سودانية ــ 1999 ــ وقد عمل ممثلاً ومخرجاً في المسرح القومي السوداني ورئيساً لوحدة المسرح التجريبي بأمانة المسرح، ومديراً للورشة المسرحية بالمركز السوداني للثقافة والإعلام في القاهرة.. وهو شاعر يكتب بالفصحى والعامية السودانية وله منجز غنائي متميز مع الفنان السوداني المعروف مصطفي سيد أحمد.. التقينا في منفاه الكندي في العاصمة أوتاوا ــ وكان هذا الحوار:
أنت متعدد الاشتغالات في العملية الأدبية والمسرحية، حيث تكتب القصة وأصدرت مجموعتين قصصيتين هما: حكايات وأحاديث لم تثمر و تداعيات، وأنت شاعر نشرت الكثير من النصوص الشعرية. ومخرج مسرحي أخرجت مجموعة من المسرحيات المهمة، فلماذا هذه التعددية؟ وأين تجد ذاتك أكثر؟ وهل تري أن التعددية تشتيت للجهد الإبداعي؟
ــ أنا أنتمي لتلك الطاقة الإبداعية، الطاقة السحرية (الدراما) وأعلن الآن دراميتي فقد كانت علاقتي بالدراما ككل وكتفاصيل، هي طاقة واحدة لكنها متعددة، وأنت تعرف ــ يا صديقي لتخصصك في فنون المسرح ــ إن فنون المسرح ــ التمثيل والإخراج و.. و.. هي الدراما في مجمل ما توصف به. إنها بؤرة تتماهى فيها الأشكال الإبداعية، التي تتجاور وتختلف في نسيج هذه الطاقة، الحكي، الشعر، المسرح بمختلف تمازج الثيمات الفنية فيه، فنون الكتابة، الفنون البصرية الصارخة مثل الباليه، والفنون السمعية كالأغنية مثلاً، أنا أستطيع أن أعلن ان الدراما الكثيفة قد تجملت عندنا بهذا الملمح في الأغنية، أنا أتعدد وأحاول أن أتهدد وأتسكع في حقول وبراري الدراما وأهرب من ذلك السجن التعبيري، أنا لا أعرف حتى كيف اختار لقصيدتي العامية والفصحى هذا الاختيار، مثلاً إذا سُئلت لماذا هذه القصيدة كتبتها بالعامية السودانية وتلك كانت بالفصحى، صدقني لا أعرف، يبدو أن القصيدة لها قدرة أن تختار مصيرها وتحاول أن تتنفس بملامحها، حسب اختيارها وقديماً عندنا، قال شاعر الأغنية السودانية المعروف سيد عبد العزيز:
ملكة وجمالها فريد خلقوها زي ما تريد
لذلك لم أتوان مطلقاً في أن أحاول أن أمرح في هذا الحقل الفسيح، الدراما حيث ألجأ إلي التشخيص فأنا ممثل ويداهمني التشخيص نفسه ويتسلل إلي كتاباتي القصية. فتراني أتقمص الشخوص فأعود هنا إلي فكرة جوهرية في فن التمثيل (التشخيص)، فكرة التقمص، فهناك شبكة من الهارموني أحسها في هذا الاشتباك بين هذه التجليات الدرامية، علائق شفيفة في هذا النسيج، نسيج الذاكرة الدرامية التي تميز ظلال النار في الغابات من ظلال لمبات كهرباء المدن، تلك التي تزيفت الآن، بالمناسبة الذاكرة الدرامية ليست ذاكرة فتوغرافية وفيها صفات ذلك الحقل الفسيح، صفات الانفلات والخروج والتمرد وتلك الشهوة المختومة بكل أحلام الإنسانية، شهوة إصلاح العالم كما يقول الشاعر صلاح عبد الصبور. علي أي حال لقد كان هذا الاحتفاء بحالة كوني كائناً درامياً، إلا أنني احلم بأن أكون مفيداً في هذا المجال الذي يراهن علي المتعة ويخيّل إليّ بأنني وجدت كي أنتمي إلي التجليات الدرامية.
السينما مدخلي الى الأدب
* متي بدأت علاقتك بعالم القصة؟
ــ منذ الطفولة حيث يُحكي عني بأنني كنت طفلاً مشاغباً، وكنت أعرف ذلك بخبث طفولي ملتبس بالاكتشاف كأن أتناول حذاء أمي وأقذف به في بئر الأدبخانة، هل تراني أحتاج هنا لأن أقول بلا مؤاخذة ؟ ــ كنت أقذف بالأحذية في تلك البئر محاولاً أن أسمع صوت ارتطام الحذاء بذلك العمق اللزج، دخلت السينما، بل دخلتني السينما وأنا في السادسة من عمري، إذ أن والدي كان يدير بوفيه ومطعم السينما وكنت أدخل إلي صالة العرض بالباب الذي يدخل به النادل الجرسون وكنت أتوغل حتى الطابق الثاني كي أعرف سر ذلك الشعاع الذي حين يسقط علي الحائط الأبيض يضج بالحركة وبالناس والحيوانات والأشجار، أزعج عمي الطيب الذي يدير الشريط بتساؤلاتي الكثيرة، كنت أريد أن أعرف سر هذا الشريط، ما زلت أحاول أن أنبش ذاكرتي و الهبات الحمراء والصفراء والزرقاء والخضراء والبرتقالية تتلامع ملونة أيام الأعياد، هناك في ليل مهمل، سينما كادقلي لصاحبها عمر الخليفة. تأسس في العام 1956 (كادقلي) هي مدينة تخصني هي عاصمة إقليم جنوب كرفان أو جبال النوبة. السينما كانت إحدي أهم مداخلي إلي هذه البوابة المرمزة وأهم مخارجي نحو الحكي، نحو السرد، كنت أحكي الفيلم الذي أشاهده... وكان لي جمهور صغير، أتباهي عليه بهذا التميز، قدرة أن تشاهد فيلماً، كنت أحاول أن أكون طرزان بين أشجار الجوافة، كنت أستمع لحكايات الناس علي مقهى ومطعم والدي، كنت أحاول امتصاص الشخصيات التي أصادفها في كل مكان وزمان، أحكي عنها، طبعاً ــ مع تعديلات طفيفة حتى أخفي متعتي أو حتى لا أتماهى مع الواقع، المرجعية الواقعية للشخصية في القصة لابد أن تخفي هناك في الخبايا ولكنني لابد أن أذكر عالماً آخر، له في الدهشة مقام، هو عالم الجدات (الحبوبات)، حبوبتي السرة بنت عبد السلام أم والدتي وحبوبتي بنت مدني أم والدي، هذا العالم كثيف الرؤى، نقي السرد، يلوذ بالأحلام والكوابيس والهواجس المطلقة، عالم من الحكي والأحاجي، والحجوة، وسحرني الحسن البصري لاحقاً وحين أفقت من هذا السحر وراجعت حكايات السرة بنت عبد السلام حاولت أن أحوّل الأحاجي إلي شهرية، أنا أري الآن وأشاهد الآن رجلاً يحترق بالنار ويجري الرجل إلي النهر، كي يطفئ الماء النار ولكن الماء لم يستطع إطفاء النار، فاشتعلت بكثافة ليتحول ذلك الرجل إلي رماد ينتمي إلي التيار وتبقي علي سطح النهر شعلة من ذلك اللهيب لتخبو تدريجياً، هذه احدي عوالم الجدة السرة بنت عبد السلام وتراني الآن أحاول أن أسطر اليومي منتمياً إلي ذلك الحكاء. وعندي تجربة مهمة وهي أنني أقرأ نصوصي القصصية للجمهور، أحكيها وأوظف في ذلك قدراتي من التمثيل وتجولت لا حكي في مدن وقري وجامعات ومجالس صغيرة. وقد كنت أحاول اقتفاء أثر ذلك الوناس السوداني. ونّاس من الأنس والاستئناس وتعني الذي يعرف كيف يحكي، وما زلت أقتفي ذلك الأثر وقد لا أصل إلي نهايته ولكنه يخصني من باب الانتماء والمتابعة ولي مشروع سردي سميته تداعيات أجرّب فيه نوعاً من السرد يحتفي حتى بالنكتة والحكاية والطرفة السياسية والحكايات الشعبية وتشغلني الآن شخصية غرائبية هي البعاتي وهو المنبعث أي ذلك العائد من الموت، شخصية بها من الرعب الميتافيزيقي الذي في خبايا الجدل الأزلي بين الموت والحياة، ولا أنسي أن أذكر شلة الأصدقاء، الأصدقاء القدامى والجدد المتعبين كما يقول الشاعر محمد محيي الدين، أصدقاء مختبري التجريبي لكل حالات انتمائي للدراما. إن علاقتي بالقصة في مقام الشهيق والزفير. وقد حاولت التوغل أكثر في هذا العالم فأنجزت رواية تحولات في مملكة الأحلام وهي مخطوطة تحت الطبع. وأتورط أكثر في هذا العالم حيث أشتغل الآن علي مشروع سردي جديد تحت مسمي منمنمات سردية .
الانفصال عن النص
* الخطاب القصصي لديك استبطان لأفق وجودي... وبهذا أنت تتقاطع مع الأطروحة الرؤيوية للخطاب القصصي السوداني في الستينيات، فما هي أبعاد هذا الخطاب؟
ــ أظن أن من الصعب أن يحدد قاص ما أبعاد خطابه القصصي، لأنه لو استطاع أن يحدد هذه الأبعاد فهذا يعني أن مشروعه اكتمل وطالما أن المشروع الإبداعي يشتهي دائماً الكمال فجذوته تكمن في هذه الشهوة، شهوة لا تحد، لذلك فأنا أراهن علي الخطاب القصصي المفتوح علي التأويل دون التخلي عن نقاء السرد وخشونته وبهذا يتهمني بعض النقاد بأني أحاور ما هو يومي في نصوصي القصصية. فسألتهم عما لو أنّ في السودان أزمة حادة في الخبز، أزمة الخبز هذه موضوعه يومية ولكن ما الذي يمنع أن تكون موضوعة كونية؟ ما الذي يستطيع أن يعطيني الآن وجداناً نقياً لم تخربشه التفاصيل اليومية، للبعد الدرامي، حرية أن يكون بسيطاً إلي درجة الكونية، أما أن يستبطن خطابي القصصي لأفق وجودي فهذه عندي من البداهات لأن النص الإبداعي، أي نص إبداعي هو ثمرة ذلك الحوار الحميم بين الإنسان والوجود. والنص الإبداعي يخفي دائماً قدراته علي الخلود وراء امتصاصه لتفاصيل الوجود، ان الوجود كمفهوم هو وجود دائم في المطلق الملغز أو المطلق الواضح الصريح كالموت مثلاً، حين انفصل عن نصي الذي كتبته. وأتحول إلي قارئ يدّعي الحياد أحس بأن النص قد انفتح عليّ أكثر وأتحسس تفاصيل إخفاء صنعتي ككاتب، أتواري خلف الشخصيات، استنطقها وأحاصرها وتحاصرني في الأمكنة والأزمة وهنا لا مناص من الاستناد علي ذائقة مدربة. ولابد أن أتقاطع مع رؤية الخطاب القصصي الستيني، لأنني خارج هذا التحديد الزمني ـ الستينيات، مع أن هنالك ثمة ملاحظة وهي أن ذاكرتي، ذاكرة الطفولة تحديداً، ذاكرة ستينية بمعني أنني عايشت الحياة في الستينيات كطفل وذاكرة الطفولة تفيض بمخزون جوهري للذاكرة الإبداعية، إذن الستينيات هي في مقام الذاكرة التي أعايش بها الراهن الآن أو راهن السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. وهنا أنا أدخل بها الألفية الثالثة، هذا الصراع بين الذاكرة والراهن يمنحني الحق بأن أتقاطع والحرية أن أشاكس ذلك التراكم الجميل من السرد السوداني.
* تتميز نصوصك القصصية ببناء شخصية محورية تصنع الحدث وتتمفصل باقي الأحداث والمواقف حولها، ألا تري بأن هذا يعتبر ضعفاً؟ وما هي المستويات التي تتحرك شخصياتك القصصية من خلالها؟
ــ أنا مهتم بالبناء الدرامي للشخصية القصصية ولن يعمل هذا الاهتمام علي إهمال الحدث الدرامي والموقف والبعد الزمكاني، الشخصية القصصية من الممكن أن تكون فانوساً أو أن تكون مكاناً، طاحونة مثلاً، أنا هنا لا أتحدث عن مركز القصة أو البؤرة أو بمفهوم النجومية البطل، قد اختار تكنيك المنولوج أو الحوار أو استخدم الراوي أو أن أخلط وبمتعة سردية بين الراوي والشخصية القصصية أو أمارس ذلك التهاون بين الأزمنة والأمكنة، الزمن الدرامي والمكان الدرامي، استخدم هذا الأسلوب وبشكل ملاحظ في مجموعتي القصصية الأولي الصادرة عن دار النشر (جامعة الخرطوم) حكايات وأحاديث لم تثمر كنت مغرماً بأن أتقمص الشخصية أو تتقمصني الشخصية أو نلتقي أنا والشخصية في مفترق الطرق وتدخلني مضيفة إلي هذا التقمص شخصيات أخري وتفاصيل مشهدية كثيفة الانتماء وذلك البحث الخفي عن الصورة، عن اللقطة السينمائية الكادر والعلائق الشفيفة بين الشخصية وهي تقتحم عالم القارئ بنفسها وبين التفاصيل وهي تتقاطع وتتداعي من الداخل كي تجادل الخارج من خلال الحوار الداخلي أو المنولوج كنت أعرف أنني انتمي إلي تركيبية خاصة، وأعني بذلك التركيب بين تفاصيل النص القصصي من خلال عبارة قصصية لها ملمح مميز، العبارة القصصية هي قدرة امتلاك القارئ بواسطة اللغة، لغة النص القصصي متاهة لا يعرف سراديبها إلا الذين يمتلكون هذه الميزة ــ (ذاكرة تركيبية)، الذاكرة البسيطة والمسطحة تبتذل النص القصصي، لابد من ذاكرة مركبة، ذاكرة نقية الانتماء للنص القصصي، ذاكرة خشنة وشرهة في تخزينها للتفاصيل، ولا أظن أن ذلك يعتبر ضعفاً والدليل أن الأحداث والمواقف تتمفصل علي حد تعبير الصديق الناقد أحمد طه امغريب، حول الشخصية المحور، أي أن المحور متحرك بهذا التمفصل وخاصة أن معيار هذا التمفصل هو التناثر في التفاصيل، علي كلّ أنا لم أسجن نفسي في أسلوب ولكني أجرب وأحتشد بهروبات صغيرة وكبيرة من نصي المنجز، يقلقني جداً النص الذي أنجزه ولي تمارين خاصة ليست للنشر إلا إذا توافرت لها قدرات تقذف بي نحو سريالية منفلتة، ربما، ما زلت أتوغل في مشروعي السردي تداعيات الذي نشرت منه نصوصاً في كتاب أول وعلي وشك الصدور الكتاب الثاني، هذا المشروع أتوغل فيه مانحاً نفسي حريات أكثر بحكم التداعي والمزج بين أساليب وثيمات وملامح في الكتابة وصولاً إلي عبارة قصصية تمتلك قدرة أن تشاكس قارئها إلي درجة التأهل، ومن هنا يستطيع الخطاب القصصي أن يمارس وجوده المشروع والجدلي بين القارئ والكاتب.
تري ما هي مستويات شخصياتي القصصية؟ النص القصصي مقذوف في الاحتمال، فهو مشروع جمالي محتمل، محتمل لدي الكاتب محتمل لدي القارئ ومحتمل في المسافة بينهما فهو محمول جمالي وجماليته تحتمل تعدد التأويل. ولأن نظرية محاكاة الواقع أصبحت لا تحتمل فكرة التأويل المتعدد والمفتوح. ومن هنا يأتي مقام المستويات، مستويات النص القصصي وليست مستويات الشخوص القصصية، فالمستويات التي يحشد بها نص قصصي تدخل في ذلك المطلق، كأن نقرأ نصاً عن عامود كهرباء في شارع ما، فنقول كن العامود مستو والشارع مستو وننسي أن هناك مستوي ثالثاً ورابعاً وخامساً ومستوي مبهماً ومستوي خفياً ومستوي مرمزاً ومستوي اشارياً وهكذا، النص القصصي مستويات وتلك المقولة البنيوية من قبل البنيوية وأظنها منسوبة للإمام علي بن أبي طالب النص حمال أوجه فأنا أستعيرها وأقول إن النص القصصي حمال مستويات.
* ان شخوص نصوصك ديناميكية ومنتجة رغم ما تعيشه وما يحيط بها من أفق مغيب اجتماعياً ومهمش اقتصادياً من قبل المركز السلطوي داخل النص، فكيف استطعت المزاوجة بين أفعال شخصياتك وما تعانيه من تغييب وتهميش؟
ــ ديناميكية الشخصية وحيويتها داخل النص ترجع إلي الشخصية نفسها، الشخصية التي تم اختيارها كي تتحرك في فضاء النص، لابد من شخصية ذات حيوية، الشخصية العادية لا تستفزني، يستفزني ككاتب قصصي ما هو منفلت وما هو خارج السياق المألوف، أنا مع ذلك المغني خارج السرب، لذلك يتأتى لي أن أقول وبمرجعية بسيطة إن الشخصية القصصية مختومة بالقول القصصي أو الخطاب القصصي إن شئت. والسؤال الجوهري الذي يشاكس النص الإبداعي، هو، ما الذي يريد أن يقوله النص ــ مقام القول باعتبار أن القص يتوسل بالقول المنطوق أو المقروء، ويمكنك أن تحس بذلك وأنت تتذوق نصاً قصصياً له قدرة أن يستفزك، أن يرمي بك في التهلكة، أن يعريك من ورق توت السائد والبديهي، هذا النص القصصي لا بد لي من حيوية، هي حيوية الشخصية القصصية، ديناميكية الشخصية القصصية، أياً كانت تفاصيل هذه الشخصية، أياً كان احتشادها بالفعل العادي كي تصارع ذلك المركز السلطوي وهي شخصية لها قدرة علي أن تتفاعل مع نسيج القمع والقهر والتهميش، تفاعلاً إلي حد الانتماء مع التضاد. وهنا استند الى ذلك الموظف المغيب المهمش في قصة الكاتب الروسي، المخلص الأعظم، تشيخوف ــ (موت موظف) ــ ذلك الموظف الذي راح ضحية إثر عطسة لم تمهله طويلاً ومات وهو يحاول الاعتذار ويبدو فيه للشخصية التي هي المركز السلطوي المصاب، واعتذر حتى مات، تري كيف عبرت هذه الشخصية (الموظف) عن ذلك الوصول إلي تلك الحتمية الموت ؟ قلت سابقاً وفي هذا الحوار أن بي رغبة حارقة ومتعمدة في الذهاب نحو الأسطورة، أسطورة اليومي، أساطير وأساطير فيما يتعلق بما هو يومي، أنا أنتمي إلي هذه الرغبة الحميمة، ان أحاول اسطر اليومي، لذلك فان شخصياتي القصصية تحاول هزيمة هذا التهميش والتغييب بفضح السلطة أياً كانت هذه السلطة التي سلطت علي أفكارنا وبمحاولات خبيثة ومتعمدة تسعي في أن تتسلط علي خيالنا ولكن هيهات.
التقارب بين العاميات
* أنت كثير الاهتمام بتوظيف جماليات الحكي والسرد في نصوصك، ألا تري أن الحكي والعامي منه خاصة سيجعل من نصوصك شديدة المحلية وعويصة علي القارئ العربي الآخر؟
ــ أولاً، من الذي.. يجترح نصي القصصي؟ أنا طبعاً، طيب، من أنا؟ هل أنا كائن يفترض فيه أن تكون قدراته التعبيرية من خلال ما أنتج من كتابة، قدرات واصلة، قدرات عالمية، أنا من نسيج عوالمي وعوالمي هي ذات انتماء وثيق إلي محلي، أين هو محلي الآن؟ هل أنا صاحب محل كي أصبح محلياً، أنا الآن لا أستطيع أن أجد أو اكتشف محلي لإصابتي بداء الغربة ومعاقرة المهاجر والمنافي، لا أخجل إطلاقا من استخدام العامية السودانية وأؤمن ان العامية السودانية هي أقرب إلي الفصحى، قبلها الطيب صالح انتمي إلي هجين اللغة. و إبراهيم إسحاق احتفظ بعامية أهالي دارفور ــ دارفور إقليم في غرب السودان ــ وحين تم فحصه ــ اعني الروائي السوداني إبراهيم إسحاق لاذ بوليم فوكنر الكاتب الروائي الأمريكي الذي جعل شخصيات رواياته تستخدم العامية الإنكليزية الأمريكية، أنا أنتمي إلي فكرة أن اللغة كائن متحرك وله قدرة امتصاص نبض المجتمع، اللغة كائن اجتماعي لا أستطيع ان أخون هذه الفكرة لذلك تجدني غير منزعج من أن أكون كاتباً محلياً ولا أظن أنه من الصعوبة علي قارئ عربي آخر أن يقرأ لي وأحيلك الآن إلي ما بيننا من نقاشات حول التقاربات والاختلافات بين العامية السودانية والعامية العراقية مثلاً، في لحظة كتابتي للنص لا أحدد نوع القارئ ولكنني أستطيع أن أقول إنني منشغل في ذلك الوقت ــ لحظة الكتابة ــ بالنص وعلائقه الشائكة، واللغة كائن هزم فكرج التحنيط في نسيج التفاعل بين الثيمات، هل تراني أحتاج أن أكتب بتلك اللغة التي سأل فيها المعري الغاز الوجود؟ لا أعتقد ذلك، أنا أنتمي للغتي انتماء العطر للورد، انتماء الحرف للفكرة.
الإفادة من المسرح
* لقد استطعت الاستفادة من دراستك للمسرح في توظيف الحوار المسرحي، المنولوج الداخلي للشخصيات، فما هو مدي ومعطيات هذا الاشتغال الدرامي في النص القصصي الجديد؟
ــ دراستي للمسرح رتبت تفكيري الدرامي باعتباري مشتغلاً بالدراما ولي فيها منجز في تجلياتها المختلفة كممثل ومخرج، لذلك كان من البديهي أن أستفيد من تلك الحيوية لدراستي للمسرح، ولم أكتف بتوظيف الحوار والمنولوج فقط ولكنني توغلت في كتابتي القصصية إلي أبعد من ذلك، فتجدني أستفيد من تكوين المشهد المسرحي في تكوين مشهد قصصي عبر اللغة، أمتطي اللغة كي أصل إلي المشهد، المشهدية، أن تشاهد، أن تري ولكن ليس عبر الأداة المعروفة العين بل عبر علائق في الخيال والذاكرة. لو تحدثت عن جولة لي في شارع الرشيد ــ بغداد ــ تري هل يشاهد ذلك من يقرأوني؟ لذلك أقول المشهدية عبر اللغة، عبر القول وهذا في مقام الاحتفاء بالمكان، حين زرت خان الخليلي كان ذلك بتحريض من نجيب محفوظ ولكني لم أجد ذلك المشهد الذي نقله لي محفوظ عبر اللغة، وجدت مشهداً آخر مختلفاً ولكني أحب مشهد نجيب محفوظ أكثر من خان الخليلي الذي تسكعت فيه؟ ربما لأنه مرجعيتي، علي كل، استفدت من دراستي للمسرح في بناء الشخصية الدرامية وتحليلها وكيف اختفي كسارد أو حكاء أو راو أو حتى نكتنجي ــ من نكتة ــ بإقصاء صنعتي وقديماً قالوا: المسرح أبو الفنون يبدو أنني لم أضل الطريق لأن دراستي للمسرح قربتني أكثر من سر اللعبة، سر اللعبة هو عنصر التكوين، كيف تكون نصاً إبداعيا، التكوين هو حرفة الانسجام بين الثيمات بحيث لا تخون ثيمة محددة رفيقتها في سياق العمل الإبداعي، التكوين جوهرة النص الإبداعي، اللوحة، القصيدة، العرض المسرحي، القصة، الحكاية، النكتة، المسرحية، التكوين عنصر مشترك بين كل هذه التجليات الإبداعية وبانتمائي لفن المسرح دراسة وممارسة أجدني قد امتلكت مفاتيح قد تفتح أبواباً وقد تغلق أبواباً، أما عن معطيات هذا الاشتغال الدرامي في النص القصصي الجديد، فهي معطيات مجانية اذ لابد لأي نص قصصي من اشتغال علي الدراما وإلا أصبح هذا النص ــ جديداً أو قديماً ــ معلقاً هناك علي حبال الموات. النص القصصي الذي لا يستفيد من الدراما نص عقيم، نص خارج خصوبة أن ينتمي إلي تلاقح الأفكار.
الكوميديا السوداء
* نطوي معظم نصوصك القصصية علي سخرية وكوميديا سوداء، فهل هي سخرية من الواقع المعاش تتعالي لإعادة إنتاجه كواقع حر وإنساني يحفل بالجمال ؟
ــ هناك كوميديا سوداء وهذا يعني بالتضاد التلقائي وهنالك كوميديا بيضاء، وأياً كان تلوين هذه الكوميديا، فإنني أجترح كوميديا ذات لون آخر، وأحسب أنني أحاول الانتماء إليها وهي الكوميديا الرمادية، بين الأبيض والأسود، هذا لا يعني الحياد ولكن في مقام النص الإبداعي هي حالة جدلية، هي ما تجلي من الرماد، هي الحالة بين اللهب والانطفاء، تري أين يمكن أن نجد الدراما النقية إن لم نجدها هنا في هذه المنطقة الغريبة، منطقة بين اللهب والانطفاء، وهنا يمكن أن نحقق ذلك الوجود الكوميدي الساخر، وقديماً اذكر نكتة تنتمي إلي هذه الكوميديا الرمادية، قيل إن أحدهم قابل أحدهم، لاحظ، أحدهم قابل أحدهم، بدون أسماء، هنا الرماد، أحدهم قابل أحدهم فسأله: هل أسرع الحصان أم هذه البئر أعمق؟ فردّ ذلك الأحدهم قائلاً: لا، أبداً، أجمل هذا الرغيف. الكوميديا السوداء أو ما يسمي بالتراجيكوميدي ذلك الخليط بين المأساة والملهاة، بين ما هو مأساوي وما هو مفرح ومضحك، حتى ذلك الخليط الذي حسبه نقاد وأصحاب نظريات المسرح بمعيار لم يعد كافياً كي يمتص هذا الواقع الذي صارعت تفاصيله تفاصيل الخيال، نعم، أنا كاتب ذو سخرية وأحب أن أسخر ولكن السخرية لم تعد تكفي لأنها قد تتحول إلي أداة تفريغ، لذلك تدعم هذه السخرية بالتأمل وتبقي هي سخرية متأملة، مجادلة، مناهضة، مقاطعة ومكاجرة ومشاترة، وهي بالتأكيد سخرية متأملة لا تتعالي كي تعيد الواقع بل هي تندغم في الواقع كي لا تعيده كما هو بل إلي ما هو أفضل وأكثر إشراقا وأكثر إنسانية.
الكائن الغنائي
* ما الذي ورطك في هذا العالم الشائك: الشعر، وما هي جدواه بالنسبة لك وللمتلقي الآن في عصر العولمة ووسائل الاتصال الحديثة؟
ــ الشعر هو تاريخ انفعالي بالكون، هو النقاء الدرامي الذي أنتمي إليه، ان لحظة القصيدة، أميل إلي التجريد، هي لحظة ولكنها بحساب الزمن المألوف تساوي سنيناً. وهي لحظة الوهج الكاشف للأغوار السحيقة، لحظة تلك الشهقة التي يعجز عن إطفائها كل ظلام العالم. من ورطني في هذا العالم؟ يخيل إلي أنني ورطة ذاتها، أنا الورطة، اكتب الشعر بالفصحى وبالعامية السودانية التي انحاز إليها حين أرغب في الغناء ولي في مجال الأغنية منجز اتباهى به ويوثق هذا التباهي مصطفي سيد أحمد ذلك المغني الذي علمنا ان نتآلف مع الاستثناءات ونجافي العادي والمألوف فكان أن خصّني بغناء قصائدي بالفصحى والعامية، دائماً أحسب نفسي كائناً غنائياً حتى حين أكتب نصي القصصي. لا أدري.. ولكن بي ذلك المس من الغناء ولا اعتقد ان عصر العولمة سيهزم هذا الغناء وذلك الشعر، بل يمكن لوسائل الاتصال الحديثة ان تكثف هذا النشاط الجميل وقديماً قال المفكر العالم قريتي والعولمة تلك التي خنقها الشعار السياسي من هذا العالم، وأنا أحس بان مدينة أوتاوا بكندا تخصّني بالقدر الذي تخصني فيه قرية كركراية بجنوب كردفان. لذلك سأغني عن هذا العالم الذي يخصني، سأكتب قصيدتي عن هذا العالم الذي هو قريتي، فأنا كائن عالمي بملامحي الخاصة. ---------------------------------- المصدر : جريدة (الزمان)
|
|
|
|
|
|