رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-18-2024, 11:16 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-04-2003, 01:20 PM

Alsawi

تاريخ التسجيل: 08-06-2002
مجموع المشاركات: 845

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات (Re: Alsawi)


    الجزء الثاني

    كان مدير مدرسة حلة مرجي الابتدائية جالساً خلف منضدته الخشبية في مكتبه الذي يتوسط فصول المدرسة الستة، ذلك البناء الحجري المتين الذي يعتبره حسن ود سارى الليل أحد معجزات الإنجليز التي خلفوها في هذا البلد. كانت الفصول الستة تصطف في شكل طولي من الغرب إلي الشرق، يتوسطها مكتبان يفتح كل منهما قبالة الآخر. أتخذ المدير أحدهما مكتباً له وصار الآخر مكتباً لبقية المعلمين جميعهم. مساطب طويلة أمام الفصول تعلوها فرندات أسندت بأعمدة خشبية طليت بالبوهية الخضراء، مجموعة من أشجار النيم الكبيرة تملأ فناء المدرسة في شكل شبه مربع. تتناثر عنابر السكن علي مقربة من الفصول بادٍ عليها التصدع وشبابيك بعضها مخلع، ورغم أنه يبدو أنها لم تحظى بالصيانة منذ زمن ليس بالقريب، إلا أنها ظلت صامدة تقاوم عاديات الزمان. يحيط بالمدرسة سور عظيم من السلك الشائك خلفه زرب من شوك السيال.
    كان الوقت صباحاً وقد أنحشر جميع الطلاب داخل فصولهم، ترتفع أصوات بعضهم أحياناً مرددة لألفاظ غريبة وغير مفهومة في نغمة موسيقية جميلة. كان المدير جالساً خلف منضدته منكباً علي بعض الأوراق عندما سمع (كركشةً) وصوت نقر منتظم علي البلاط. رفع المدير رأسه، وأطل بعينيه من اعلي نظارته العتيدة التي استرخت علي أرنبة أنفه خلف خط النظر ليتبين حسن ود سارى الليل ينتعل حذاءه ( المركوب ) المصنوع من جلد البقر غير المدبوغ ويتوكأ بحذر شديد علي عصاه التي أرتفع صوت نقرها علي البلاط. تقدم حسن ود سارى الليل في هيبة وتردد، فهو لم يعتاد ارتياد هذه المباني الحكومية التي بنيت من الأسمنت والزنك والأحجار، فقد أنعم الله عليه بالصحة وكفاه شر دخول شفخانة القرية الوحيدة ورائحتها التي تذكر بالمرض. لقد كان حسن ود سارى الليل يكره تلك المباني التي تردد مع المتحدث صوته، كما أنه كان يهاب كل شئ له صلة بالحكومة وخصوصاً البوليس الذي يرتبط دائماً بالشرور.
    رحب ناظر المدرسة بحسن ودعاه للدخول. ركز حسن عكاز ته علي باب المكتب وتقدم بهدوء يعكره صوت حذاءه، تقدم نحو كرسي وُضع علي الجانب الأيمن لتربيزة المدير عندما هوت العكازه علي البلاط الأملس وانزلقت متدحرجة ومهرولة علي البلاط يساعدها شكلها الدائري مصدرةً لإزعاج وجلبة شديدين، الأمر الذي زاد من خوف حسن ود سارى الليل وحرجه. تبين المدير من علي نظارته ذلك الطفل الصغير الذي ما برح متشبثاً بمؤخرة جلباب والده تملأه الرهبة والانبهار، مبقياً إصبعه السبابة معلقاً علي أسنان فكه الأسفل ومداعباً له بلسانه برفق وبراءة وانبهار.
    لقد بدا وجه محمد اكثر إشراقاً عندما أعملت أم مونه يدها في صحن الزيت أدارتها علي وجهه وجزء من صدره، ويستطيع الناظر إلي شعره للوهلة الأولي أن يتبين أنه قد استحم في وقت غير بعيد. لم تنسي والدته أن تجهزه للذهاب إلي المدرسة، فألبسته جلبابه الذي كان يحتفظ به للعيد ووضعت له ملفحته الصغيرة علي كتفيه وحول عنقه يتدلى أسفلها (حجابه) الصغير يحرسه من العين والشيطان.
    انزوى محمد خلف والده خائفاً من ذاك الشخص الذي طفق ينظر إليه من عيون أربع. لقد كان من السهل علي المدير أن يعرف سبب مجيء حسن ود سارى الليل إلي مكتبه، إذ أن تسجيل التلاميذ الجدد للمدرسة قد قطع شوطاً بعيداً، إلا انه أبي إلا أن يقوم ببعض الأسئلة الروتينية.
    تناول المدير القلم وأخذ يكتب بعد واجب الترحيب والسؤال عن الغرض :
    - قلت لي ما هو أسم الولد ؟
    - أسمه أم حٌمد.
    - محمد منو ؟
    - أم حمٌد ولدى أني.
    - انت أسمك منو؟
    - أسمي حسن.
    - حسن ود منو ؟
    قالها المدير في عصبية ظاهرة.
    - حسن ود سارى الليل.
    - يا حسن ود سارى الليل. ولدك عمره كم سنه ؟.
    - أم حمٌد ولدوه سنة الجراد.
    - يعني قبل كم سنة ؟
    - بجي زي سته سنوات.
    حرر المدير إيصالاً مالياً قام حسن ود سارى الليل علي أثره بانتزاع جذلانه الجلدي الثقيل من جيبه وأخذ يعد نقوده الحديدية حتى وصل إلي العشرة ودفعها للمدير عبارة عن رسوم التسجيل بالمدرسة.
    بعد مرور أسبوع علي هذا اليوم، وفي منتصف السوق المحلي الأسبوعي الذي أعتاد أن يجتمع فيه أهالي القرية والقرى المجاورة لعرض سلعهم وشراء حاجياتهم، شاهد الناس سبورة كبيرة احتلت موقعاً هاماً وسط السوق وعليها اثر كتابة واضحة بالطباشير الأبيض.تجمع أمامها بعض الذين نالوا قسطاً من التعليم- وقليل من هم- يقرأ بعضهم بصوت عال، ويتهجى بعضهم حرفاً حرفاً محاولاً تجميعها في ذهنه لفك هذه الطلاسم. لقد كانت السبورة تحمل الآتي:

    إعلان هام

    تعلن مدرسة حلة مرجي الابتدائية جميع الذين تقدموا بتسجيل أبنائهم للعام الجاري لحضور اجتماع لجنة القبول يوم غد الخميس وبصحبة أبنائهم.

    وشكراً
    علي سالم
    مدير مدرسة حلة مرجي الابتدائية

    في يوم الخميس كانت حلة مرجي تعج بنشاط غير مألوف، سور المدرسة الخارجي امتلأ بالحمير وعليها السروج، الجمال بعضها معقول إلي الأرض وبعضها مربوط إلي أفرع الشجر، وعمائم كثيرة تلج إلي داخل المدرسة وتتخذ لها موقعاً وسط الجمع المحتشد تحت ظل شجرة النيم الكبيرة داخل سور المدرسة. في هذا اليوم اعتمدت لجنة القبول التلميذ محمد حسن ساري الليل بالصف الأول بمدرسة حلة مرجي الابتدائية.
    اشرف حسن علي ابنه حتى وضع عنقريبه الصغير في عنبر عثمان دقنة، وفرش عليه البرش ووضع شنطته الحديدية التي أحضرها من مدينة بارا خصيصاً لهذا اليوم الموعود، وضعها تحت (العنقريب) وهي تحتوى علي مستلزماته الضرورية: غيار المدرسة، آنية صغيرة مصنوعة من الألمونيوم لشرب الشاي والماء، قلم رصاص، وصرة صغيرة من القماش بها قليل من )الآبرى( والسكر.
    لقد بُنيت الداخلية في شكل عنابر كبيرة من الحجارة والأسمنت في شكل طولي من الشرق إلي الغرب. كان عنبر عثمان دقنة العتيق يجثم في الجانب الغربي منها، نوافذه الخشبية بعضها مشرع للريح، وبعضها مخلع تكسوه بقايا (نملية) ممزقة. كان عنبر عثمان دقنة يمتد طويلاً من الغرب إلي الشرق بنوافذه الكثيرة وكأنه قطار، أُتخذ سقفه من الزنك اللامع، يرتفع من الوسط وينحدر نحو الطرفين وكأنه ظهر ثور. أجتاز محمد عتبة العنبر المخلعة في حذر وحب استطلاع معتمداً علي إصبع والده الذي ظل قابضاً عليه يحسه غليظاً داخل قبضة يده الصغيرة يستوحي منه الأمان والثقة. مجموعة من التلاميذ يقبعون داخل العنبر متقابلين في شكل حلقات صغيرة يستأنسون ويضحكون، بعضهم نائم علي (عنقريبه) وبعضهم يطالع في (نوت) صغيرة بين أيديهم، وبعضهم يتطاردون ويتصايحون دخولاً وخروجاً.
    كانت العناقريب الصغيرة قد رصت في شكل صف طولي في محاذاة حائط العنبر من الجانبين، بينما تُرك وسط العنبر كممر عام. بعض هذه العناقريب صغير وبعضها كبير وبعضها متوسط الحجم دونما انسجام، ويحوى أي منها مفرشاً يختلف عن الآخر في غير ما نظام، بينما بقيت بعضها عاريةً إلا من حبالها المصنوعة من السعف. بعضها تبدو عليه آثار النعمة، وبعضها بائس حقير، تتدلى حباله المتقطعة إلي أسفل وكأنها تريد أن تغوص داخل البلاط الأملس المتين.
    بعضها يقوم علي أربع أرجل وبعضها يقوم علي ثلاثة وبعضها أُسند إلي حجارة كبيرة تقوم مقام الأرجل المفقودة. اسفل العناقريب تقبع شنط مختلفة الأحجام والأشكال، أغلبها من الحديد، كما تناثرت أحذية صغيرة وثياب وسراويل وأشياء أخرى كثيرة.
    جلس حسن ساري الليل علي مؤخرة عنقريب ابنه الذي حشره وسط الزحام، يوصيه ويعلمه كيف يحافظ علي أشيائه، ومد إليه بقطع نقدية ظل محمد يغمض عليها يده الصغيرة حتى بعد مغادرة والده للمدرسة.
    لم ينس حسن بأن يوصي حامد - زميل محمد في الحلة - علي ابنه كثيراً قبل أن يغادر، وما أن هبط حسن ود ساري الليل عن عتبات العنبر مغادراً حتى قفز قلب محمد وشعر بالوحدة والخوف. مجموعة من قدامي التلاميذ يتحدثون ويقهقهون يردد صوتهم سقف العنبر وحيطانه، فتبدو لمحمد غريبة تزيد من خوفه ووحشته. مكث محمد بقية يومه جالساً علي عنقريبه الصغير يتأمل الحجارة والنوافذ ووجوه زملاءه الذين كانوا ينظرون إليه في استغراب وشفقة وترحيب. بقي محمد هكذا حتى مغيب الشمس عندما سمع صوت الجرس عاليا يرن، ولاحظ أن التلاميذ قد بدءوا يهرعون نحو الفناء الواسع أمام الفصول ويتراصون في شكل صفوف طويلة ومنتظمة بينما قام بعض الكبار منهم بالمرور عليهم وعدهم واحداً واحداً، وكانوا يكتبون شيئاً علي كراسات كانت بحوزتهم. بعد زمن وجيز تفرق التلاميذ يجرون في اتجاهات مختلفة صوب عنابرهم يصدرون ضوضاءً وجلبه عظيمتين، وبعد لحظات كانوا يلجون العنابر في تسابق محموم ويقبض أىمنهم علي مقدمة عنقريبه ويسحبه بسرعة على البلاط تجاه الخارج ويسقط به من أعلي العتبة متخذاً منه عربة يقودها ويحجز به موقعاً في الفناء الخارجي. كان التلاميذ يقضون لحظات المساء الأولي خارج العنابر يستمتعون بالهواء الطلق ويتسامرون تحت القمر المنير..
    بقي محمد قابعاً علي سريره داخل العنبر في ذاك المساء الصيفي الحار يراقب كل ذلك حتى حضر حامد واصطحبه إلي ساحة العشاء، حيث شاهد مجموعة من الصحون الكبيرة البيضاء وقد اتخذت لها مواقع مختلفة في الساحة، بينما تجمع حول كل واحد منها عدد من التلاميذ يناهز السبعة. كانت هذه الصحون تحتوى علي كومة من (العصيدة) المصنوعة من دقيق الفيتريت المتسخ، ما كاد محمد يلتقط منها لقمة واحدة ويسرى طعمها الباهت إلي كل أجزاء فمه حتى تذكر أمه واخوته هناك وحن إليهم حنيناً جارفاً.
    عند الصباح الباكر لبس الجميع ملابس بيضاء نظيفة، وخلعوا عنهم الأسمال المتسخة، غسلوا أيديهم وأرجلهم ووجوههم وحملوا حقائبهم الصغيرة واصطفوا في شكل مربع في فناء المدرسة كل حسب فصله، بينما وقف بعض الأساتذة علي المسطبة المرتفعة أمام مكاتبهم، وكان أحدهم يحمل سوطاً ويلوح به في لا مبالاة. بعد أن اصطف الجميع سكوتاً، أفردوا أيديهم أمامهم مقلوبة علي ظهورها. دار عليهم الأستاذ الذي في يده السوط متمعناً في ملابسهم وأجسادهم، توقف لفترة طويلة أمام محمد حسن ساري الليل، تفحصه من أعلي رأسه حتى أخمص قدميه في قرف وإزدراء ظاهر وفجأة جذبه من جلبابه وقال:
    - لماذا لم تغسل جلبابك؟
    صمت محمد وعيناه تدوران في محجريهما، باهت اللون شاحبه.
    قال الأستاذ بلهجة آمرة:
    - لا تأتينا غداً بهذا الشكل.
    وأومأ محمد تلقائياً بالموافقة.
    واصل الأستاذ سيره، وكان كثيراً ما يتوقف عند بعضهم ويقول كلاماً. وقد رآه محمد حسن يضرب أحدهم بالسوط علي يديه الممدودتين أمامه لأنه لم يقلم أظافره، وحمد محمد الله أن صورة جلبابه الشاذة قد غطت علي بقية بلاويه، فأخذ العبرة في الحال.
    في اليوم التالي غسل محمد جلبابه وقلم أظافره وغسل وجهه ويديه ورجليه كما يفعل زملاءه. وفي الطابور، وقف عنده الأستاذ أيضاً. دعك إصبعه علي صدره فخرجت منه خيوط سوداء طويلة، ثم رفع جلبابه الطويل ونظر أسفله.. جذبه إلي الأمام وطلب منه الوقوف مع المنتظرين أعلي المسطبة العالية. وكان الأستاذ في مروره غالباً ما يُخرج خمسة إلي عشرة تلاميذ مخالفين لقواعد النظافة في المدرسة ويطلب إليهم الانتظار علي المسطبة العالية حتى ينصرف الجميع، ثم يتولاهم بالضرب والتوبيخ. وكان محمد يومها رابعهم، فوقف يرتعد وكأن رجلاه لا تقويان علي حمله، ينظر أمامه في ذهول.. وكأنه قد انقضي شهر حتى اكمل الأستاذ طوافه بعد أن انتدب آخرين إلي المسطبة رفقاء لمحمد.
    بعد توبيخ وإرشادات كثيرة لم يفهم محمد أغلبها لأن عينيه وقلبه كانا معلقين بالسوط، تلقي عقوبته: خمس جلدات، وانصرف إلي فصله مغرورق العينين، وعندما تجمع حوله زملاؤه يسألونه، أجهش بالبكاء.
    قضي محمد أيامه الأولي في وحشة وهم شديدين علي الرغم من محاولات حامد تذليل كل الصعاب التي تواجهه وتبصيره بشكل الحياة في المدرسة وتعريفه بأجزائها والأماكن التي يحصل فيها علي ضروراته مثل البئر والمطبخ والحمامات و السوق وغيرها. كان محمد صغيراً نسبياً إذا ما قورن ببقية زملائه في المدرسة، يشكو قلة المصاريف والمناصرين من التلاميذ القدامى إلا من حامد.. لهذا كان كثيراً ما يتعرض للظلم والإساءة من تلاميذ المدرسة إذا غاب عنه حامد، أو فارقه لأمر ما، وقل أن ينام الليل كله بغطائه في ليالي الشتاء داخل عنبر دقنة ذي الشبابيك المخلعة، فقد كان قدامي التلاميذ يعرفون موقعه فيتسللون إليه في جنح الليل ويسرقون ثوبه إما بدافع الحاجة أو لشهوة الظلم والتسلط، ولا يجد محمد ثوبه إلا عند الصباح مرمياً عند ممر العنبر. وكان يعاني كثيراً من قلة المصروف الأسبوعي، إذ انه كان يقابل والده مرة واحدة كل أسبوع هو يوم السوق الأسبوعي للقرية، حيث كان والده يحضر ليشترى بعض مستلزمات البيت من دقيق وسكر وشاي أو لبيع شيء ما، كان محمد يأخذ منه مصروفاً أسبوعيا يستعين به علي رداءه الأكل في الداخلية، إلا أن المصروف لم يكن في الغالب يكفيه حتى نهاية الأسبوع، وكان كثيراً ما يلجأ للاستدانة من بعض الموسرين من زملائه مقابل أن يرد لهم ذلك مضاعفاً يوم السوق، وكان في بعض الأحيان يعجز عن السداد مما يعرضه لإهانات الدائنين، فقد يكون عليه أن ينفق نصف مصروفه لاستعادة قلم الرصاص الذي ضاع، أو شراء نوتة إضافية يطلبها الأستاذ في الفصل، أو قطعة صابون، وقد تغريه بعض طيبات السوق. في مثل هذه الحالات لم يكن لينجو من الإهانات في كل الأحوال، فهو إما أن يشترى بمصروفه الشحيح مستلزمات الدراسة، ويتعرض لإهانات الدائنين، أو أن يسدد بها دينه ويتعرض للعقاب والتوبيخ من مُدرسيه.
    لقد كان نظام التسليف الربحي تجارة رابحة لدى الموسرين من التلاميذ، يستثمرون فيه الفائض من أموالهم في اليومين الذين يسبقان يوم السوق الأسبوعي، فقد كان العوز يجبر فقراء التلاميذ للقبول بهذا الرهان، وكان محمد كثيراً ما يقع في الحرج إذا تأخر والده عن الحضور ليوم السوق الأسبوعي، وقد يحضر والده ويعطيه المصروف ولكن عند رجوعه في المساء للمدرسة كان يتعرض لإغراء زملائه الذين يعرضون الحلوى بشعارات مغرية، فقد كان بعضهم (يكشكش) كيس الحلوى ويصيح وسطهم:
    - حلّي ضروسك قبل الفلس ما يدوسك.
    كان محمد يفكر في مغزى العبارة، حقاً سيدوسه الفلس في أخريات الأسبوع لا محالة فيسارع للاستمتاع باللحظة. أوانها كان يقابله أصحاب الدين بتكشيراتهم المعهودة مطالبين بحقهم في غلظة، وعندما يعتذر محمد كانوا لا يصدقون وكانوا يعتبرون أن ذلك مماطلة وعصيان منه، فكانوا ينهالون عليه ضرباً ولكماً ولا ينجو منهم إلا بعد تدخل حامد واشتباكه مع الدائنين أو تسوية الأمر علي أن يدفع لهم بعد عودته من البيت من العطلة الأسبوعية التي تنتهي مساء الجمعة. وكثيراً ما تعرض محمد للضرب والركل وسط تجمهر التلاميذ للضحك والشماتة. لقد استفاد محمد من كل ذلك دروساً قاسية وتعلم كيف يوازن بين الدخل والمنصرف.
    كان محمد يسير وسط زملائه في المدرسة لا يفارقه إحساسه بالجوع والحاجة، ولا تفارق ذهنه ذله الدين ومهانة الدائنين له. كان يسير في المدرسة دون أصدقاء، كثيراً ما كان بعضهم يفاجأ به فيسأله عن أهله وقريته، وينصرف عنه مصدقاً أو غير مصدق. ظل محمد حتى منتصف العام مجهولاً وسط الضوضاء، لم يفارقه شعوره بالضياع وسط مجتمع كبير وغريب عليه. لقد شعر بهذا الإحساس قوياً عندما مرض ولم يجد أحداً إلي جواره يواسيه ويآنسه ويجلب له الضروريات التي يحتاجها، أوانها كان يشتد به الحنين إلي أمه ويزرف الدمع الثخين مع كل نوبة هم تنتابه ويستجيب لها جسده الهزيل فتسرى فيه قشعريرة كسريان الكهرباء. أوانها كان يتذكر أمه التي كثيراً ما تكون إلي جواره أوقات المرض والتي هي جميع مواسم الأمراض، فلا يمر موعد أحد الأمراض كالحمى الخريفية أو الرمد الشتوي إلا وكان محمد أول المصابين، ولكن كانت أمه دائماً إلي جواره لا تملك ما تقدمه له سوى الحنان والعطف الذي كثيراً ما نعم به، فكان يشعر بارتياح عميق اثر مرور راحة يدها برفق وحنان علي جبينه المتعب، أو علي أوصاله المرتعشة. لكنه الآن يئن وحيداً تحت وطأة المرض، يتقلب علي عنقريبه الصغير دون أن يكون له صديق يواسيه، وذكريات أمه لا تفارقه وهي تحثه في وجل وإلحاح علي تناول شيء من الطعام. يتذكرها وهي تتجول حوله نهاراً تسد بقع الشمس التي أبت إلا أن تتسلل من خلال فرجات (الراكوبة) العتيقة. لقد كانت تظلل له بثوبها تارة وتحوله هو تبعاً لمواقع الظل تارة أخرى. يتذكرها وهي تطرد الذباب عن وجهه بطرف ثوبها تارة، أو تنتزعه لتغطيه به تارةً أخرى، ولكن لا يستقر لها حال حتى تكشف عن وجهه تارة أخرى وكأنها لا تريد أن يغيب وجهه عن ناظرها. كانت تنظر إليه بشفقة وعطف فيقرأ في عيونها الحنان والرأفة. وما تبتعد عنه قليلاً لبعض شأنها إلا جاءت إليه مسرعة تتحسس جسده المنهك كلما أزداد أنينه تحت وطأة المرض.
    كان كل ذلك يجول بخاطره وهو وحيداً لا صديق له ولا رفيق في مدرسة حلة مرجي الابتدائية، وفي الركن الغربي لعنبر عثمان دقنة، قابعاً علي عنقريبه الصغير يفكر ويتسلى بفرقة القمل عن ملابسه.
    عاش محمد ساري الليل كل عامه الدراسي غريباً وحيداً في المدرسة، وإن كان يعوض غربته بالتفوق في دروسه، إلا انه كثيراً ما كانت تحدث له المضايقات بسبب هذا التفوق استخفافاً وسخرية، فقد كان سليمان الأكثر ازدراءً به هو الأكثر بلادة في الفصل. فكنت تجد كراسته وقد أغرقها الإهمال، بداخلها الكثير من الدوائر الحمراء التي رسمها المدرس حول بقع سوداء نتجت جراء استخدامه (للاستيكة) لمحو أخطائه الكثيرة. فقد كان سليمان يكثر من استعمال (استيكته) التي هي عبارة عن قفل (لفتيل) البنسلين الصغير لمحو أخطائه الكثيرة، فكانت تترك له آثاراً سوداء بالكراسة قد يتركها سليمان كما هي أو قد يحاول التخلص منها عن طريق بل إصبعه بلسانه ثم دلكها فتخرج في شكل مطويات صغيرة سوداء تترك بالورقة (رهافة) واضحة للعيان حيث يرسم الأستاذ حولها دائرة حمراء عند التصحيح.
    في اليوم الأخير من أيام السنة الأولي التي قضاها محمد بالمدرسة، كان التلاميذ فرحين بقدوم الإجازة وفي انتظار جرس الطابور الصباحي الذي تعلن فيه النتائج للامتحانات. كانت المدرسة مليئة بالضجيج والحركة، فالكل يجهز لمغادرة المدرسة، وعند سماع جرس الطابور هرع الجميع إلي فناء المدرسة، واصطفوا مصنفين أنفسهم حسب الفصول، كلٌ في المكان الذي أعتاد عليه. لقد كانت لحظة رهيبة أزداد فيها معدل نبض القلوب، والجميع يستعجلون إذاعة النتيجة. تقدم علي سالم مدير المدرسة وتكلم كثيراً قبل أن يقدم مشرف الصف الأول ليعلن نتيجة الصف الأول.
    تقدم مشرف الفصل الأول ممسكاً بكشف طويل، وبدأ يقرأ:
    - الأول : محمد حسن ساري الليل.
    وصفق الجميع في الوقت الذي بدأ فيه بعضهم يهمهم ساخراً. لم يصدق محمد نفسه وتقدم وسط الجميع وكأن رجلاه لا تكادان تصلان الأرض، صافحه المدير وقدم له الشهادة ومعها صندوق أبيض صغير ملفوف بعناية عبارة عن الهدية التي اعتادت المدرسة على تقديمها للمتفوقين. وتوالت الأسماء وتوالت الفصول حتى عرف كل طالب نتيجته، ثم أنصرف الجميع في كل الاتجاهات، بعضهم فرحاً يولول وبعضهم يبكي نادباً لحظه. وما هي إلا ساعات حتى خليت المدرسة تماماً من الطلاب. لقد بدأت الإجازة فعلاً.

    (عدل بواسطة Alsawi on 08-04-2003, 01:21 PM)

                  

العنوان الكاتب Date
رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-04-03, 01:18 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-04-03, 01:20 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات ahmad almalik08-04-03, 02:55 PM
    Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-04-03, 04:08 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-10-03, 09:01 AM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-21-03, 06:55 AM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات ahmad almalik08-28-03, 01:08 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-28-03, 04:49 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Nada Amin08-28-03, 10:07 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-29-03, 12:39 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Nada Amin08-29-03, 03:56 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-29-03, 09:04 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Nada Amin08-29-03, 09:31 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات bushra suleiman08-29-03, 11:40 PM
  Re: رواية جديدة للدكتور حمد عمر حاوي: أفواه وفتات Alsawi08-30-03, 08:26 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de