نشرت جريدة «الرأي العام» في عددها بتاريخ 19 مايو 2003م مقالاً للاستاذ محمد ابراهيم نقد نقلاً عن صحيفة «البيان» الاماراتية تحت عنوان :«المجتمع المدني العربي يواجه خطر التحول الى شاهد زور» والمقال جدير بالتعليق لعدة اعتبارات:
اولاً : ان الموضوع حيوي وضروري وجاء في وقته timely.
ثانياً: ان الطرح جاء موضوعياً وشيقاً وبصورة تغري بالقراءة واعادة القراءة.
ثالثاً: انه جاء من شخصية سياسية مرموقة - وفي ذلك مؤشر ايجابي يحسب لصالح السياسيين ان يهتموا بالمجتمع المدني ويتناولوا قضاياه بالتحليل والتعليق. وقليل جداً من سياسيينا من يهتم بهذا الكيان الاستراتيجي «هذا اذا استثنينا مساهمات الصادق المهدي المقدرة في هذا الصدد»
رابعاً: رغم ان الاستعراض جاء لواقع المجتمع المدني العربي كنا نود لو ان الاستاذ افرد حيزاً في مقاله أو خصص ملحقاً لتناول واقع المجتمع المدني في السودان بالتفصيل - دون الاكتفاء بمساهمات حيدر ابراهيم وحسن عبدالعاطي فقط.
خامساً: اشارته العابرة الى التكوينات القبلية والطائفية والطرق الصوفية، والادارة الاهلية ، والخلاوي- دون الاسهاب في ذلك!
سادساً: اشكالية ارتباط المنظمات الطوعية بالحكومات في الغرب الرأسمالي.
بداية نود ان نذكر ان الاستاذ نقد - مشكوراً - قد رمى حجراً في بركة ماء آسن لاشك انها ستثير كثيراً من دوائر ردود الفعل، التفكير والاسهمات - خاصة ما يلي الواقع السوداني .. كذلك كنا نود ولو بصفة عامة ان يبدي وجهة نظره الخاصة من واقع تجربته كسياسي له رسالة اجتماعية مبنية على خلفية سياسية وفكرية - ولاشك ان في ذلك اثراء واضافة.
حصر الاستاذ نقد نفسه في الاعتماد على المرجعيات اليسارية والارث الماركسي - دون النظر للقيم والمرتكزات الفكرية التي شكلت العمل الاجتماعي في عالمنا العربي. كذلك ركز الكاتب بحثه على مؤسسات المجتمع المدني الحديث فقط، ولان المجتمع العربي لم يصبح حديثاً بعد! فبدا المجتمع المدني متخلفاً بالضرورة! وهذا خلل منهجي «STRUCTURAL» لازم الكاتب في كل الاستعراض.
كذلك لم يتعرض المقال للعولمة وادواتها وتأثيراتها في صياغة المجتمع المدني العربي والوطني وفرص التشبيك وتوحيد اللغة والفعل المشترك - تحت واقع ثورة الاتصال والمعلومات وتآكل السيادة الوطنية «راجع موقف المجتمع المدني الدولي في الف مدينة من حرب العراق».
على ان الكاتب خلص الى ان «الشمولية العشائرية» في وطننا العربي هي التي خنقت اطلاق المجتمع المدني في وطننا العربي - ونوافقه ان الشمولية من حيث هي - حتى ولو كانت شمولية اشتراكية - تربة غير صالحة لانطلاق وتطور المجتمع المدني كذلك اتسم الطرح بصفة عامة بالحكم السالب على المجتمع المدني العربي ! بيد ان هناك نماذج باهرة في لبنان وفلسطين، والسودان كان يمكن الاشارة اليها «يلاحظ ان القاسم المشترك لهذه الدول وجود مساحة للعمل المستقل عن الدولة». كذلك بصفة عامة تجنب الكاتب الخوض في القاء الضوء على الخلفية الدينية للعمل الطوعي والاجتماعي خاصة الاسلام الذي يشكل دين الاغلبية في الوطن العربي، وكيف ان ذلك أسهم في بلورة وصياغة الوجدان العربي من القرن السابع الميلادي نحو النشاط الاجتماعي.
اما اشكالية تلقي المنظمات الغربية للتمويل من الدولة فالسؤال الذي يطرح نفسه ماضير هذا التلقي اذا كانت العلاقة بين المنظمات والحكومات القائمة على اسس ديمقراطية لم تتغير لعدة قرون؟ ذلك اذا اعتبرنا ان الاحزاب احدى مؤسسات المجتمع المدني! مادام يتم تداول السلطة على اساس ديمقراطي، وان ذات الحكومات قد خصصت عبر ادواتها الديمقراطية ميزانيات لدعم نشاط المجتمع المدني !! بيد ان الكاتب لم يقدم بديلاً لتجنب هذا الدعم . وربما اراد ان يحذر من مغبة تضارب المصالح الحكومية والمدنية ؟ وللحقيقة ظل هذا التضارب يحدث وباستمرار دونما الوقوع في هذه المحاذير - واليك هذه الامثلة:
* منظمة الطفولة السويدية تتلقى دعماً منتظماً من الحكومة السويدية. هذا الدعم محدود بسقف معين بحيث لا يتيح للحكومة مقاعد داخل مجلس الادارة قد تؤثر في توجيه السياسات!
* رفضت منظمة اكسفام البريطانية استلام دعم مالي لانشطتها في العراق من الحكومة البريطانية - وذلك لموقفها المعارض لموقف الحكومة البريطانية في الحرب على العراق.
* رفعت كل من رعاية الطفولة السويدية والبريطانية تقريراً مشتركاً عن انتهاك حقوق الطفل الفلسطيني تحت الاحتلال الاسرائيلي وتم استعراض التقرير في جنيف، وهو تقرير لم يرض كل الحكومات الديمقراطية التي تخصص ميزانيات للعمل المدني. بعض هذه المواقف لا ترضى الحكومات ولكن هذه مواقف مرتبطة بالشفافية والمسؤولية التي تحكم عمل هذه المنظمات وهي مواقف مبدئية وان شئت قل مواقف سياسية!
* في عام 1998م وبعد احداث بحر الغزال الشهيرة والمآسي الانسانية التي لازمتها رفعت كل من منظمات رعاية الطفولة الغربية، اكسفام واطباء بلا حدود ومنظمة كير تقريراً مشتركاً للمانحين - فيه انتقاد شديد للسياسة المتبعة تجاه الحرب والسلام في السودان. وقد ادى التقرير الى تحول استراتيجي افضى الى تطورين مهمين:
1/ الاهتمام بالسلام ووقف الحرب كأولوية - حيث كانت سياسة المانحين في السابق تركز على الاستجابات الانسانية.
2/ النظرة غير المنحازة لطرفي النزاع «الحكومة والحركة» لاول مرة . المجتمع المدني السوداني:
غنى عن التذكير ان الارث الاجتماعي في السودان «SOCIAL CAPITAL»
متميز في مجال التطوع وفعل الخير ومساعدة الآخرين ويتمثل ذلك في الادوار التقليدية كالفزع ، والنفير، والتعاون، واغاثة الملهوف، واكرام الضيوف، وشتى اشكال التكافل الاجتماعي. تمثل العشيرة والقبيلة - خاصة في الريف- صمام امان اجتماعي SAFETY NET لايمكن ان يتدنى لمستويات نشهدها في اعرق الدول الديمقراطية - تظهر جلية عند الكوارث والملمات. أما أحد أركان الاسلام كالزكاة والقيم الدينية الاخرى كالوقف الاسلامي الذي شمل دعم كل اوجه العمل الاجتماعي من صحة، وتعليم، وحتى التشجير فهي تشكل محطات اساسية لايمكن القفز فوقها، فبصفة عامة يشكل الوازع الديني مرجعية فكرية ونفسية مواتية في توجيه الفعل الاجتماعي في السودان. المؤرخ لمسيرة نشاط المجتمع المدني بالسودان الحديث لابد ان يقف على تجربتين ناصعتين:
* تأسيس معهد القرش الصناعي عام 1931م الذي تم على يد نفر كريم من اهل السودان لاجل ايواء وتدريب الاطفال الفقراء والمشردين على الحرف المختلفة ليشقوا طريقهم في الحياة وذلك بدفع قرش واحد! بصفة مستدامة STANDING ORDER وظلت الفكرة حية وعاملة الى يومنا هذا «رغم تغير سعر الصرف» وهو البادرة الوطنية الاولي من نوعها على مستوى العالمين العربي والافريقي.
* اتجه اول تجمع وطني للمتعلمين السودانيين «مؤتمر الخريجين » في عام 1938م وذلك قبل عشرين عاماً من الاستقلال الى اشاعة التعليم عن طريق المساهمة الاهلية - باعتبار ان التعليم اهم استثمار اجتماعي لمستقبل السودان. فانتشر التعليم الاهلي بجهد وطني خالص في كل انحاء السودان اسهم في تعزيز الاستقلال ورفع الوعي الوطني.
* في العام 1970م قام جهد متواضع على اكتاف خيرين لمساعدة الصم. تطور هذا الجهد عبر المؤسسية الى سياسات صياغة مناهج، وتدريب معلمين، وبناء معاهد، وتخريج مؤهلين وانتزاع حقوق - عبر كفاح امتد لاكثر من ثلاثين عاماً للجمعية السودانية لمساعدة الصم.
* يقيني انه في ظل تحديات السلام والتنمية الراهنة الآن في الازمة السودانية قدم المجتمع المدني السوداني انموذجاً فريداً تحت ظل الحرب المستعرة فقد استطاعت هذه المؤسسات ان تتواصل مع رصيفاتها الوطنية عبر خطوط النزاع متمثلة في انشطة الاكاديميين ، ومؤتمرات المرأة، ومحاربة اختطاف النساء والاطفال ومكافحة الالغام ..الخ.
خلاصة الامر ان المجتمع المدني هو تعبير مخلص عن واقع المجتمع بصورة اساسية والتفاعل الايجابي مع هذا الواقع في استقلالية عن السلطة - ولايعني ذلك بالضرورة معاداة السلطة أو عدم التفاعل الايجابي معها بما يخدم اهداف المجتمع المدني .. وبالطبع يكبر هذا الدور في ظل الانظمة التي تتيح مساحة له باعتباره قيمة مضافة ADDED VALUE وشريكاً اساسياً في الفعل الاجتماعي، واعتباره في النهاية بوصلة ومؤشراً لمآل الواقع بكل صدق - أو ان شئت شاهداً على اهلها وليس شاهد زور!
في النهاية الشكر للاستاذ محمد ابراهيم نقد على مقالته القيمة، واتمنى ان يتناولها كل المختصين والمعنيين كمدخل للنظر في هذا المبحث المهم، خاصة والساحتين الوطنية والاقليمية تمران بتغييرات جذرية في ظل التحديات الكونية العنيفة الراهنة - عسى ذلك ان ينفع الناس فيمكث في
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة