المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-18-2024, 05:57 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-12-2003, 10:11 PM

أبنوسة
<aأبنوسة
تاريخ التسجيل: 03-15-2002
مجموع المشاركات: 977

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد (Re: أبنوسة)

    مع ذلك، لا يعتبر أهل السنَّة أن الأحاديث النبوية هي وحي، لأنها ليست كلام الله.
    لا، هذا غير صحيح! فهي تُعتبَر بمثابة الوحي الذي صاغه النبي محمد؛ أي أنها كلام الله بلغة محمد. فالإمام الشافعي يعتبر أن السنَّة هي الحكمة المذكورة في القرآن. والفرق بين القرآن والسنَّة، المتجسدة أصلاً في الحديث، أن السنَّة هي كلام الله الموحى إلى محمد، لكنها ليست لغة الله، بل لغة محمد. أي أن الفرق لدى الشافعي هو أن القرآن متعبد في قراءته لأن اللغة من عند الله؛ أما السنَّة فهي قرآن لا يتعبد في قراءته لأن الصياغة هي صياغة محمد. والسؤال هنا: هل كان القرآن، قبل ظهور هذا التمييز، كلام الله ولغته في الوقت نفسه، أم لا؟ لذلك فإن طرح السؤال عن لغة القرآن مرتبط بطرح السؤال عن السنَّة، ومتى تكوَّنت المفاهيم الأساسية داخلها؛ وهذا في رأي سابق على الشافعي، الذي صاغها بشكلها النهائي.
    إذاً الباحث في تعامله مع نصوص السنَّة هو أيضاً أمام مشكلة قداسة، كحاله مع القرآن؟
    طبعاً! فالمشكلتان مرتبطتان الواحدة بالأخرى، كونهما وحياً. وهذا يتطلب منا أن نستعيد أيضاً مفهوم الوحي، وهل الوحي، وفق المفهوم الديني، أُغلِق بقوله تعالى: "خاتم النبيِّين" [الأحزاب 40]؟ ولماذا يؤمن المتصوفة بغير ذلك، ويقولون إن الختم هو ختم وحي التشريع، وليس وحي الفهم؟ حتى إن ابن العربي، في تناوله حديث الرسول "لا نبي بعدي"، يقول: "ليس أشد على أهل الله من هذا الحديث." لكنهم ذهبوا إلى أن لا نبي يشرِّع من بعد النبي محمد. الحال مشابهة لذلك عند الشيعة الذي يعتبرون أن توارث العلم عند الأئمة معناه استمرار انكشاف معنى الوحي في التاريخ.

    مفهوم الوحي له مكانه أيضاً داخل الفلسفة الإسلامية؛ وهو قائم على مفهوم الخيال الذي يشترك فيه النبي مع الفيلسوف. فالفيلسوف يتصل مع العقل الفعال أو العقل الأول مثلما يتصل النبي مع الوحي. والفرق بين النبي والفيلسوف ليس في الوحي، ولكن في تعبيرات الوحي، أي اللغة التي تعبِّر عنه من خلالها. حي بن يقظان وصل إلى كل المعرفة التي وصل إليها الوحي الذي آمن به سلامان، لكن اللغة التي يعبِّر فيها عن الحقيقة مختلفة. وهذا يحيلنا على ابن رشد. كل هذا يبين لنا أن المسلمين كانوا مشغولين بالأسئلة نفسها، وحاولوا أن يجدوا حلولاً لها.
    في عودتنا إلى جذور المشكلة لا نتبنى هذه الحلول، ولكن نتعامل مع المشكلة في سياقها التاريخي، ونربط هذه المفاهيم بتاريخها الثقافي، المقموع والمهمَّش. ونحن اليوم، عندما نجد حلولاً، لا نكون بدورنا خارج إطار الثقافة.
    لكنك في بعض كتاباتك تستدعي المعتزلة بحثاً عن مشروعية تاريخية، وتتبنى أحياناً الحلول التي يطرحونها، كفكرة أن ألوهية القرآن لا تعني أزليته، لأنه لا يمكن أن يقال إن القرآن أزلي بجانب الله، قديم مثل الله. فهذه الفكرة معتزلية بامتياز.
    لا. هنا يجب أن تقرأ أعمالي في شكل تاريخي. ففي كتابي الأول كان هذا صحيحاً؛ لكني لا أعتقد ذلك الآن. أنا اليوم أستشهد بهم فقط على قرائن ومواقف تاريخية، أكثر مما أستشهد بهم بحثاً عن مشروعية لفكرة أريد أن أطرحها. أما فكرة أزلية القرآن فأنا لا أتبناها في صيغتها الدينية، وغالباً ما أستخدمها في السياق السِجالي، كما في كتاب التفكير في زمن التكفير، لأن الذي يحاججك يضرب بقوة التراث، وأنت في ردِّك تحاول أن تبيِّن تناقضه، كونه يرتكز على تراث واحد. لذلك لا أعتقد أن العودة إلى خلق القرآن وقِدَم القرآن في الإطار المعرفي للمعتزلة يمكن أن يحل لنا أي مشكلة، لأننا اليوم داخلون في قضية لغة القرآن نفسها التي لم يتطرق إليها المعتزلة أبداً.

    في إطار موضوع اللغة ومدلولاتها، هناك بعض النظريات البراغماتية في الفلسفة الأنغلوساكسونية، وفي مقدمتها الأبحاث المتأخرة لفِتكنشتاين. وأنت تحاول أن تبرهن أن الكلمات والتراكيب اللغوية لا تجد معناها الأول والحقيقي داخل بنية النص نفسه، ولكن في إطار الاستخدامات العملية التي يصنعها بها البشر داخل سيرورة واقعهم الاجتماعي.
    اللغة، في مجال تداولها، هي بمثابة عملة متداولة. لكن النص يتم تداوله أيضاً كدالٍّ وكعلامة؛ ومجالات تداوُله تختلف، وهذا يعدِّد المعاني فيه. وإذا كان أصحاب نظرية النص الخام يتصورون أنهم يستطيعون العودة إلى النص في مجال تداوُله الأصلي، فإن هذا مستحيل لأن اللغة، كعملة تداول، لا تصاب بالتلف كالأوراق المالية! وتالياً فهي تقوم بتحولات في المعنى وتتجدد. مثال: في التداول الأوَّلي للنص القرآني لم يكن هناك تناقض بين "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" [الإخلاص 4] وبين "يد الله فوق أيديهم" [الفتح 10]. أي لم يكن هناك تناقض داخل الأنموذج الثقافي لدى الجيل الأول بين إله منزَّه تماماً، "ليس كمثله شيء" [الشورى 11]، وبين إله له عين ويد، يحب ويكره ويبغض. عندما تغيَّر هذا الأنموذج، لأسباب كثيرة جداً، وتغيَّر معه مجال التداول (العلاقة مع غير العرب، وترجمة الفلسفة، والاحتكاك مع الفكر اللاهوتي المسيحي، إلخ) انكشف التناقض. الفكرة هنا أنك يجب أن تكون مسلحاً بنظرية في اللغة، وبنظرية في النص، وبنظرية في علم العلامات، لأن النص يتحول، ككتلة، إلى علامات. مثلاً: كلمة "السماء" داخل العبارة القرآنية "السموات والأرض"، في تداولها الأصلي، تعني أي شيء علا؛ أما كلمة "السماء"، في تداولها اللاحق، فباتت تحيل على عالم غني بالملائكة والجن والعرش إلخ؛ أي تحولت المفردة اللغوية، من خلال مجال التداول، إلى مفردة علاماتية.
    إذاً النصوص الدينية هي في عملية تداول مستمرة؛ وهي قادرة على إعادة إنتاج معناها، ليس في معنى التكرار، ولكن في معنى التجدد والتطور. والأكيد أنها لا تقوم بذلك بنفسها، ولكن من خلال ما يصنعه المؤمنون بها من خلال التداول.
    استخدامك لمصطلح "الأنموذج" paradigm يحيلني على علاقتك الأكاديمية ببعض النظريات الغربية، وببعض المفكرين الغربيين. فنادراً ما نراك تستشهد بهم، أو تدخل في حوار مع بعض أطروحاتهم، رغم الانطباع المتولد لديَّ بحضورهم الخفي في أعمالك.
    إذا كنت أستفيد في أبحاثي من بعض النظريات، في نصوصها الأصلية أو في ترجماتها، فأنا في الحقيقة حريص أن أتمثل هذه المفاهيم الغربية في سياق الثقافة العربية. وأنا أكتبها باللغة العربية، فلا يشعر القارئ بالرطانة التي تحيل على لغة أكاديمية عالية. وما أسهل أن أقوم باستشهادات من فوكو ودرِّيدا، مثلاً؛ لكن هذا يصبح قصاً ولصقاً!
    لكن مصطلح paradigm الذي استخدمتَه يحيل على أبحاث توماس كون T. S. Kuhn عن القطائع العلمية داخل فضاء الفكر الغربي [راجع كتاب كون بنية الثورات العلمية]؛ وأنت تسحبه من سياقه إلى سياق آخر. والسؤال هنا: هل أنت تستخدمه بمعنى القطيعة العلمية لدى كون؟ ولماذا لا تحيل قارئ كتبك على مراجعك النظرية؟
    لا، ليس في الضرورة أن أكون استخدمت paradigm في المعنى نفسه، ولكن في معنى التغايُر في الأسس المعرفية على الأقل. أي أن paradigm، بالنسبة إليَّ، هو الانتقالة الأساسية في مجال الثقافة والمعرفة. ولا يهمني كثيراً بعد ذلك مسائل تاريخ استخدام المفهوم النظري داخل الثقافة الغربية. أنا لا أشتغل بتاريخ الفكر الغربي، أو بتاريخ الفلسفة، فأدخل في نقاش حول المفاهيم والأطروحات. وإذا استخدمت بعض هذه المفاهيم فأنا لا أستخدمها قبل أن تصبح واضحة.
    أما في موضوع المرجع، فأنا في الحقيقة لا أملك مرجعاً محدداً، لأنها قراءة تحولت إلى جزء مني. والقارئ الواعي بالمصطلح يعرف مراجعه، وخصوصاً أنني لا أستخدم أي مصطلح وهو لا يزال في حال التباس داخل مجال اللغة العربية. وأنت هنا تُلزِمُني، في شكل أو في آخر، أن أنخرط في هذه القضايا النظرية. محمد أركون مشغول بهذه القضايا؛ ويجب أن أقول لك أني مدين له كثيراً في موضوع المنهج. لكن انشغال أركون بهذا الموضوع لا يسمح له بالاشتغال كثيراً بما وراء ذلك. أنت يمكن أن تبذل عمرك كله في الكلام عن الوصفة والمقادير. أنا أحب أن أدخل المطبخ وأجرِّب!
    هذا يحيلنا على وجودك منذ سنوات خارج العالم العربي، كأستاذ زائر في جامعة ليدن، يدرِّس طلابه باللغة الإنكليزية. رغم ذلك، معظم كتاباتك لا تزال تصدر باللغة العربية، وتندرج في فضاء مسائل الثقافة العربية – وكأنك، روحاً وفكراً، لم تغادر قط العالم العربي!
    لا أرغب أن أُبعَد عن المجال الثقافي العربي؛ وخوفي الرهيب هو أن أبقى في الغربة فأنتمي إلى المجال الثقافي الغربي. عمري كله أمضيته في القضايا الساخنة داخل الثقافة العربية؛ وأنا حريص جداً أن تبقى معظم كتاباتي باللغة العربية، وأن لا أكتب إلا القليل باللغة الإنكليزية. فرغم أني على اطلاع على القضايا الساخنة في الفضاء الفكري الغربي، لكني لست طرفاً فيها، ولست جزءاً من حلِّ مسائلها.
    غالباً ما تستغل بعض الأوساط الثقافية والإعلامية في الغرب قضية التعاطف مع المثقفين المسلمين المضطهدين في بلادهم، بسبب آرائهم النقدية من الفكر الديني، كغطاء من أجل شنِّ حملات عنصرية ضد الإسلام كدين. ألم تتوجَّس حال وصولك إلى أوروبا من أن تُستخدَم قضيتُك في هذا الاتجاه؟
    هذه نقطة مهمة جداً. لكن دعني أقول إن السياق الذي سافرت فيه إلى هولندا خلق عندي تخوفاً شديداً من أن يحتفي بي الغرب باعتباري ناقداً للإسلام كدين. هناك إغراء حقيقي بالنسبة إلى أي إنسان مضطهَد ومظلوم تحت خيمة الحماية أن يستطيب حكاية الاضطهاد والظلم هذه. وأنا كنت واعياً، وحذراً جداً، حيال هذه النقطة، إلى درجة أنني رحت أبدأ محاضراتي هناك وأنهيها بطقوس الخطاب الإسلامي، الأمر الذي لم أكن أفعله في العالم الإسلامي! وهذا ليس تظاهراً، بل عائد إلى أني كنت متخوفاً حقيقة في البداية أن يحتفي بي الناس ويقدِّروني لأنهم يرون أني أنقض الإسلام من خارجه؛ في حين كنت حريصاً أن أؤكد لهم أني ناقد للفكر الإسلامي من داخل الإسلام، وأني مسلم، وأن القضية ليست قضية دينية، ولكنها قضية سياسية في الجوهر.
    ثمة جانب آخر يتعلق ببعض الباحثين. فبمجرد أن يكون الواحد منهم في الغرب يصبح لديه ميل إلى أن تعترف به المؤسَّسات الأكاديمية الغربية وتحتفي به وكأنه واحد منها. فتراه لا هو ينتمي تماماً إلى المجال الثقافي الغربي، ولا هو قادر على المحافظة على انتمائه إلى مجاله الثقافي الأصلي (إذا استثنينا طبعاً إدوارد سعيد). أما بالنسبة إليَّ، فأنا هنا "أستاذ زائر"؛ وهي صفة تجعلك جزءاً من المؤسَّسة الأكاديمية، ولكنك، في الوقت نفسه، تنتمي إلى فضائك الثقافي الخاص. وإذا كنت أنا نفسي ضد فكرة أن أعيش بإحساس الضحية فإن سعادتي كانت كبيرة لأن الجسم الأكاديمي في جامعة ليدن لم يتعامل معي كأستاذ ينشد الحماية، بل كأستاذ زائر له شرفه الخاص، كمفكر وكإنسان، ولا يرضى أن يتاجر بقضيته.
    في كتابك الأخير دوائر الخوف في خطاب المرأة نلاحظ تداخل الهمِّ الذاتي مع الهم الجماعي. ترى هل أثَّرت الأزمة التي أصابت زوجتك ابتهال يونس وأصابتك في مسارك الفكري؟
    الهمُّ الذاتي كان دائماً موجوداً في أبحاثي؛ لكنه في هذا الكتاب أصبح مفصَحاً عنه في شكل أوضح، وخصوصاً أنه كتاب عن المرأة. الأزمة التي تعرَّضنا لها، زوجتي وأنا، لا تزال تسمَّى قضية نصر حامد أبو زيد. حتى القوى الثقافية والوطنية، التي تعتبر نفسها تقدمية في مصر، تناولت القضية على أنها قضية رجل تعرَّض للاضطهاد؛ مع أنها، في الأساس والجوهر، ظلم فادح ارتُكِبَ في حقِّ امرأة. نحن هنا أمام شرف امرأة امتُهِنَ. وهي لم تؤلف أي كتاب عن الإسلام؛ ومع ذلك لا تزال القضية تُطرَح في الخطاب العام على أنها قضية نصر حامد أبو زيد وحده. وهذا دليل على أننا نعيش داخل ثقافة ذكورية. السؤال هو: لماذا لم ينفُذوا في حربهم ضد أبحاثي إلا عبر الحلقة الضعيفة التي هي قانون الأحوال الشخصية والطلاق؟ ولنفترض، جزافاً، أن ذلك المدعو نصر حامد أبو زيد يجب أن يعاقَب لأنه، حسب ما يقولون، اقترف مُنكَر الردَّة. طيب، فليعاقَب! لكنهم، كما قالت ابتهال، يتعاملون مع المرأة على أنها دمية الرجل! وأفضل عقاب له هو حرمانه دميته، مستغلين وجود جناح ضعيف في المجتمع والمؤسَّسات والقوانين. رغم ذلك كله، لا أريد أن أتعامل مع هذه القضية على أنها قضية شخصية. فأنا لو عشتها على هذا الشكل، وعشت آلامها فردياً، لكنت انتهيت من زمان.
    بالتوازي مع قضية الطلاق والتفريق، هناك قضيتك كأستاذ جامعي ومكانتك داخل الجامعة. فكأن معركتك الأساسية هي أيضاً دور الجامعة المصرية ومكانة الأستاذ الجامعي وحريته داخل هذه المؤسَّسة المدنية؟
    [صارخاً] طبعاً! هذه قضيتنا كلنا. وقد كتبت في مقدمة التفكير في زمن التكفير عن دور الجامعة، وعن الأسباب التاريخية التي أدت بهذه المؤسَّسة، المفترَض أنها مدنية وعلمانية، إلى أن تصبح ضعيفة وهشة، وأن تستسلم، منذ بدايتها، أمام أي هجوم تشنه عليها المؤسَّسة التقليدية.
    وعلى الرغم من عدم وجود عائق قانوني يحول دون عودتي إلى مصر، فأنا لم أعد حتى الآن، وقلت في شكل صريح أني لن أعود ثانية إلى مصر إلا كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير أو دكتوراه في الجامعة المصرية. لكن الواضح أن الجامعة وصلت إلى درك باتت لا تتحمل فيه حتى هذا الطلب لأستاذ لا يزال مسجلاً كعضو في طاقمها التدريسي. وفي المناسبة، حتى جامعة دمشق لا تتحمل ذلك. فقد حاول د. صادق جلال العظم أن يدعوني كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير، أو حتى للمشاركة في أسبوعها الثقافي، وفشل في ذلك!
    يقول بعضهم إنه لو كان لبيروت دورها الثقافي والجامعي الذي اضطلعت به في مرحلة الستينات لاستضافت الدكتور نصر حامد أبو زيد في جامعاتها، بدل أن يذهب إلى هولندا. ما رأيك بهذا الكلام؟ وهل أنت مستعد للعودة إلى العالم العربي إذا عرض عليك التدريس في إحدى جامعاته؟
    أنا في انتظار دعوة من الجامعة المصرية أولاً؛ ولكن أيضاً من أي جامعة عربية. ولو عُرِضَ عليَّ منصب أستاذ في أي جامعة عربية فسأترك هولندا في اليوم الثاني، لأني سأكون مع ناسي وأهلي. لكن إذا تحقق هذا فمعناه أن الجامعة مختلفة والمكان مختلف، لأنهم لن يدعوني لأصمت، ولكن لأعبِّر بحرية عن خطابي وتفكيري.
    هل تعتقد أن هناك أملاً في أن تربح معركتك داخل الجامعة المصرية؟
    يعني إيه "أربحها"؟! أنا اليوم داخل على الستين؛ وسأحال قريباً على التقاعد، بحسب قوانين الجامعة المصرية. يعني خلاص مافيش معركة، وعلى الأجيال الجديدة أن تخوض معركتها. الجامعة المصرية خُرِّبَت بفعل عوامل الفساد المنتشرة في المجتمع ككل – والفساد يسند بعضه بعضاً. أنا لا أتوقع أن تقوم قائمة للجامعة المصرية في المستقبل القريب، ولا حتى للجامعات العربية؛ فالوضع ليس أحسن حالاً هنا في دمشق. والمفارقة أنني هنا في سوريا؛ بمعنى أن المجتمع قبل بي. وحتى السلطة السياسية ليست ضدي؛ والدليل أنها سمحت بقدومي. بما يعني أن الجامعة أكثر تخلفاً من السلطة السياسية المستبدة، والاثنان أكثر تخلفاً من المجتمع! هذه ظاهرة خطيرة. فالمفروض أن تكون الجامعة هي رأس رمح التقدم في أي مجتمع؛ الأمر صار عندنا مختلفاً. في السابق لم يُكفَّر طه حسين داخل الجامعة. أنا كُفِّرت في الجامعة وحوكمت خارج الجامعة!

    كُفِّرتُ في الجامعة وحوكمت خارج الجامعة!
    هذا يقودنا إلى سؤال عن الواقع الثقافي المتردِّي في مصر. فأين نحن اليوم من ذلك البلد الذي شهد ولادة فكر النهضة وحَضَنَ كبار كتابها؟
    دعنا من الكلام بمنطق الحنين! الواقع أن إنهاك مصر لم يكن فقط لأسباب اقتصادية أو عسكرية؛ إنما حصل استنزاف للعقول خلال الحقبة النفطية نتيجة التحالف المصري–السعودي–الأمريكي والهيمنة السعودية على المؤسَّسات الدينية؛ فتحولت المؤسَّسة الدينية في مصر إلى مؤسَّسة وهابية بعدما كانت أشعرية. حدثت هجرة للمصريين بأعداد كبيرة جداً إلى دول النفط؛ فعادوا بعقول تم غسلها بمنطق إيماني مختلط بالثراء. وإذا كان مفهوم النفط نفسه، كبنية اقتصادية، معناه أن تتحقق الثروة من دون عمل؛ أي أن الثروة موجودة تحت الأرض، ولا يحتاج استخراجها سوى إلى الحفر، فإن هذا ساهم في ترسيخ بنية معرفية تعتقد أن المعرفة موجودة في الماضي، وهي لا تحتاج إلى إعمال العقل للوصول إليها، بل تحتاج فقط إلى نبش الماضي بحثاً عن حلول للحاضر. سيطرةُ هذه البنية المعرفية المنبثقة من ثقافة البترول جعلت العمل والتفكير بلا قيمة. حركة المدِّ التي كانت تخرج من مراكز الحضارة إلى مراكز البداوة انقلبت، بفعل البترول وأزمات الحروب، وأصبحت البداوة وقيمها وفقهها تزحف على الحضارة. وهذا، في رأيي، ساهم في التفكك الثقافي الذي نشهده اليوم، ليس في مصر وحدها، بل في الكثير من البلدان العربية، كسوريا مثلاً.
    من يتحدث معك يشعر أن لديك قلقاً أن لا تعود إلى مصر.
    آ... طبعاً! ليس القلق بل الحزن. كنت أتصور أنني تجاوزت هذا الموضوع؛ لكني صرت أفكر فيه كثيراً. هو ليس الحنين إلى مصر، أو القاهرة، أو حتى إلى الجامعة، ولكن رغبتي أن أزور قريتي وألتقي إخوتي الذين لم تُتَح لي الفرصة حتى لوداعهم. عايز أروح أسلِّم عليهم وأمشي. لكن لن تكون هناك زيارة للقاهرة في برنامج الرحلة. أروح القاهرة أعمل إيه؟ لو كانت الجامعة دعتني، كنت نزلت القاهرة برايتي كأستاذ جامعة. الوطن انحصر في مكان الميلاد؛ أما الوطن الواسع فلا أحد يستطيع أن يحرمني منه! غير أنني بتُّ أحمله داخلي.
    في الحفلة الغنائية التي قدَّمها الفنان محمد منير في دمشق، ضمن مهرجان دار المدى الثقافي، كنتَ جالساً في الصف الأول، ولاحظ الجميع أن دموعك انهمرت فجأة. ما السبب؟
    أريد أن أقول لك شيئاً، لكن لا أعرف كيف أقوله! أنا شخص عاطفي، ولا أخجل من ذلك. عندما شاهدت فيلم المصير، وسمعت لأول مرة أغنية "علِّي صوتك بالغُنى"، وجدتُها طريفة وضحكت. لكن عندما غنَّاها محمد منير هنا في دمشق ولحظة قال: "لسَّه الأغاني ممكنة"، انتفضت ولم أعد أستطيع أن أتحكم بدموعي، ورحت أسأل نفسي: أفعلاً هي ممكنة؟
    مرة دعتني جمعية أهلية اسمها "فضاءات ثقافية" إلى مدينة طنجة في المغرب. وفي ليلة الوداع أقيم عشاء، وراح بعض الأصدقاء يغنِّي للشيخ إمام، فانهمرت دموعي، فتوقفوا عن الغناء وأخذوا يعتذرون، متخيِّلين أنهم جرحوني. فقلت لهم: لماذا تتصورون أنه الألم؟ استمروا في غنائكم، ودعوني في دموعي؛ هي بمثابة غسيل لي!
    ما سبب إصرارك على زيارة قبر الشاعر نزار قباني في مقبرة باب الصغير بدمشق؟
    إن موت شاعر كبير كنزار قباني في إنكلترا، بعيداً عن وطنه، وعودته في نعش ليدفن فيه، وما حدث في لندن، عندما رفض بعض المتطرفين إدخال جثمانه للصلاة عليه في الجامع، كان له أثر في نفسي؛ فحدث نوع من التماهي، تخيلت فيه أن الأمر نفسه يحدث مع زوجتي إن هي قررت أخذ جثماني إلى مصر. طبعاً، هناك أيضاً الألم لفقدان شاعر كبير أغنى وعينا بشعره الإنساني العميق جداً والبسيط جداً. شاعر عظيم عاش في الغربة؛ وعندما مات، باتت السلطة مهتمة بالجثمان، وعرضت طائرة عسكرية من أجل نقله إلى وطنه! هذه الحادثة أيضاً مسَّت ألماً في داخلي.

    أمام ضريح الشاعر نزار قباني
    زرتُ أيضاً قبر ابن العربي وقبر صلاح الدين في دمشق، ولم أستطع أن أتوقف عن مقارنة تواضع قبر صلاح الدين بأبَّهة الأضرحة لبعض القادة العرب. لا أنكر أني، في الآونة الأخيرة، رحت أتأمل في مسألة الموت ومعنى القبر وقيمته. وكما قلت سابقاً، تمنيت على زوجتي أن تدفنني حيث أموت، ولا تتجشم عناء نقل جثماني إلى مصر. الأرض كلها أرض الله، ولا أريد لزوجتي، إلى جانب الحزن الذي ستعيشه، أن يقول أحدهم كلمة أو يكتب مقالاً يجرحها ويزيد عناءها. وحتى إذا عدتُ إلى مصر ميتاً، واحتُفِي بجثماني، فما معنى ذلك، إذا كنت سأموت وحيداً وبعيداً عن وطني؟!
    هل أنت مجروح من وطنك؟
    نعم، بمعنى الغضب، ولا أخجل من ذلك. فمن حقي أن أكون غضبان. أعتقد أن غضبي أحياناً يحميني؛ وهو لم يقل منذ لحظة مغادرتي قبل سبع سنوات. أحب مصر إلى درجة أني لا أريدها أن تكون مقبرة لي. مصر وطن حُرِمْت العيش داخله؛ فلماذا أُدفَن فيه؟! إذا كان وطنك لا يريدك حياً، يجب أن تحرمَه منك ميتاً.
    أنا أميِّز بين مصر الناس ومصر المؤسَّسات. لكن، مع ذلك، هي علاقة غريبة جداً. أحياناً أفكر بمصر وكأنها أمي؛ لكنها أمي التي رفضتني ونبذتني. هذا آلمني جداً إلى درجة أني – وكنت لم أغادر مصر بعد – قلت لها: يا مصر أنا عاوز أفتح للضوء كوة وأنتِ مش عايزة. فبخاطرك يا مصر!

    بخاطرك يا مصر!
    أنا بعيد عن المكان، وليس عن الناس. أحمل حبي للمصريين وغضبي من مصر... الجامعة... الجامعة جرحي.
    أجرى اللقاء محمد علي الأتاسي
                  

العنوان الكاتب Date
المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص zumrawi04-12-03, 02:48 AM
  ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد أبنوسة04-12-03, 10:02 PM
    Re: ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد أبنوسة04-12-03, 10:07 PM
      Re: ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد أبنوسة04-12-03, 10:08 PM
        Re: ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد أبنوسة04-12-03, 10:11 PM
          Re: ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد أبنوسة04-12-03, 10:11 PM
            Re: ولقاء آخر مع المفكر نصر حامد أبو زيد Dr.Elnour Hamad04-13-03, 12:20 PM
  Re: المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص zumrawi04-14-03, 06:12 AM
  Re: المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص THE RAIN04-14-03, 03:31 PM
    Re: المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص doma04-14-03, 04:20 PM
      Re: المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص هدهد05-10-03, 02:18 AM
        Re: المفكر نصر حامد أبو زيد لـ(الزمان): ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص هدهد05-10-03, 02:28 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de