|
شعب أسطى ... بلد شامخ
|
قرية صغيرة قابعة في شمال السودان. جنوب غرب دنقلا بحوالى عشرين كيلو ( تسمى قعب اللقية ، أو قعب الباب ، يسكنها عرب القنقناب ). عرب أقحاح أشاوس ، يفوقون حاتم الطائي أريحية و كرما. ربما لم يسمع بها الكثيرين. قرية مهملة كباقي معالم السودان، لا موقع لها في خارطة السياحة. و لكنها إن كانت في أي بقعة أخرى من العالم ، لكانت تتصدر صفحات الصحف ، و نشرات الأخبار ، و المجلات السياحية. هذه القرية حباها الله برمال ساخنة طوال أشهر العام ، فيقصدها ( المكنكشين من الرطوبة ) بقصد العلاج. في خلال أسبوع ، تكون الرمال الساخنة التي يدفن فيها المريض قد عملت عمائلها. القرية صغيرة ، و إمكانات أهلها بسيطة ، لذا يتوجب على طالب العلاج الذهاب بذبائحه و دواجنه ، فالتغذية مهمة أثناء العلاج ، و خاصة الشوربة الدافئة.
بعد هذه المقدمة ، أعرج بكم إلى إمرأة مصرية في العقد الثالث من عمرها ، بنت بلد ميسورة الحال ، أبتليت بمرض الروماتيزم في يديها ، مما جعل أصابع يديها تتقلص شيئا فشيئا. حاولت شتى أنواع العلاج ، فلم تجد نفعا. صرفت مالا كثيرا دون جدوى. عمها كان مدرسا بعطبرة في إحدى مدارس البعثة التعليمية المصرية ، سمع بهذه القرية في إحدى مناسبات عطبرة. أخبرهم المدرس المتقاعد بهذه القرية ، فتوجهت المريضة إلى أسرة سودانية مقيمة في القاهرة تربطهم بها صداقة حميمة و قديمة و تم الإتفاق للذهاب للسودان الشقيق و محاولة العلاج في هذه القرية ، فربما ، ( الأرضة جربتْ الحجر ). جاءت إجازة الصيف ، فشدت المصرية مع الأسرة السودانية الرحال للخرطوم لأول مرة في حياتها. و بعد عدة أيام في ضيافة الأسرة السودانية في الخرطوم ، تم الحجز في إحدى اللواري حيث لم تكن هناك في ذلك الوقت البصات السياحية المريحة كما هو الحال الآن. إبتسامة عريضة كانت تعلو وجه المصرية ، فقد كانت تعتقد أن الرحلة ستكون كرحلة القاهرة أسوان أو القاهرة الأسكندرية. لم تكن تدري ماهو السفر باللواري إلى الشمال في ذلك الحر الذي يلحم الحديد. لأنها ضيفة و مريضة ، أعطوها مقعدا بجانب السائق مع واحدة من الأسرة السودانية الصديقة. و بعد تفقد كرتونة الزاد و حفاظة الماء المملوءة بالثلج و بقية العفش ، تحرك اللوري على بركة الله . الصباح كان هواؤه باردا شيئا ما ، و المصرية روحها المعنوية عالية ، تطلق النكات ، و الونسة ( تقول يا ليل ). شيئا فشيئا ، بدأت معالم الحضارة تتلاشى ، و بدأت سلسلة المرخيات تعطيهم ظهرها ، و الونسة تخف وتيرتها كلما إرتفعت درجة الحرارة ، و تتطاقش كبايات الماء البارد من الحفاظ المملوء بالثلج. ثم بدأت مساحيق المكياج تذوب من وجه المصرية عندما إنتصف النهار. لا تسمع غير صوت الماكينة و هي تزمجر لتشق عباب الرمال المتلاطمة. قالت المصرية و القلق يبدو في عينيها : هو إحنا حنصل إمتى ؟ رمقها السائق بنظرة خاطفة و إبتسم إبتسامة بدت معها سنة ذهبية تبرق في ضوء الشمس. فأزاح طرف العمة التي تغطي فمه و قال : إنت يا دوبك في أول الطريق. لو وصلنا بكرة في الليل يكون كويس. يا لهوي ، بكرة بالليل ؟ ليه ؟ هو أحنا راجعين مصر تاني ولا إيه ؟ ضحكت السودانية و ضحك السائق و هو يرمي ترسا ثقيلا . بدأت المصرية تتوتر ، فالشعر الذي كان متماوجا بتسريحة جميلة ، صار ( كحلاوة قطن ) منفوشا ، لا لون له بفعل الغبار. الأيادي في حركة دائبة بالهبابات تستجدي هبة نسيم. الحذاء الجميل القطيفة ( أبو فيونكة ) إستبدلته بشبشب ( سفنجة ). إنتهى الثلج من الحفاظة ، و بقيت النشارة في القاع. أعطوها ماءا من البرميل ، فإذا هي تلفظه بفعل طعم الجازولين المخلوط به. ( حتى لا يستهلك الركاب كمية كبيرة من الماء ). قالت : إحنا لو مشينا كدة في الحر دة طول النهار ، أنا حأبقى كويسة من الشمس دية ، دة مش معأووول دة. و لا أحد يرد عليها. مافيش حمامات في الحتة دي؟ و لا أحد يرد. عاوزة أشرب شاى. و عندما أعطوها كوب الشاى ، أزاحت الذباب بيدها ، و لكنه كان ( مكلبا ) بحافة الكوب بعناد ، فهو شريك في الكباية بحق الإستيطان في هذه المنطقة النائية. رشفت رشفة واحدة ، و قالت : إيه دة ؟ شاى مش ممكن ، دة زى ما يكون كدة منقوع بهارات. صار شكلها مثيرا للشفقة من الإحباط الذي ألم بها. تصبرها السودانية بأنها بعد هذا التعب ستتعالج بإذن الله في القعب . فتهون عليها متاعب الرحلة. هناك صلة قربى بين السائق و اللوري و الجربكس و الماكينة و الدريكسون و الصاجات و المساعد و الرمال و القهاوي المنثورة على جانبى الطريق. و إلا ماذا تسمون هذا التناغم الذي يحدث بين كل هذه الأطراف ؟ اللوري يغطس بلساتكه الأربعة في الرمال ، فتقول أن لا خروج ، فإذا بالمساعدين و الصاجات ، يفعلون العجب ، فينطلق اللوري كالمارد ينثر الرمال على جانبيه و ينطلق و هو يعوي بفعل الكوز الذي يربطه المساعدين في العادم. يعزف السائقون نغمات معينة بالبوري ، فيعرف أصحاب القهاوي و السائقين الآخرين ، و أطفال العرب ، إسم السائق القادم بنغمته. يتعطل اللوري ، فتحبس أنفاسك في ذلك العتمور ، و تقول أنك ماكث هنا إلى ما لا نهاية ، و تنعس بفعل الحر و التعب ، فتستيقظ بصوت دوران ماكينة اللوري. ألم أقل لكم أن هناك علاقة ما بين كل هذه الأطراف ؟ عشرة و عيش و ملح و جازولين و رمال و شاى أسود و زاد بايت. لم تتمعن المصرية في كل هذا ، كان كل همها في معاناتها من الرحلة و في يدها التي تنتح كالملسوعة من عقرب. هو إحنا رايحين فين بالظبط ؟ لا أحد يرد. عندما وصلوا دنقلا ، إشتروا كل ما يتاجونه للأسبوع الذي سيمكثونه في القعب. عندما وصلوا القعب ، نظر أحد الشباب إلى المصرية و هو يحدر طاقيته الحمراء للأمام و هو يقول : بالله المرة بقت زى بصلة التقلية. أنظروا لهذا التشبيه البليغ و سرعة البديهة ، فبصل التقلية تخالطه حمرة مع بقاء بعض بياض البصل ، مع نشفان قليل بفعل التحمير ، تشبيه لا يضاهيه إلا سرعة بديهة أهلنا الرباطاب. فالمصرية صار وجهها بعدة ألوان ، مستسلمة للتعب. بعد كل هذا ، رجعت المصرية للقاهرة في تمام عافيتها ، و صارت لفترة طويلة تروج لقرية قعب اللقية أو قعب الباب ( و كانت تنطقها ( أعب اللئية ، دي حاقة ما حصلتش ) و لكن عندما يسألوها كيف الوصول إليها كانت تقول : أنتو بس روحو الخرطوم ، و من هناك حيوروكو توصلولها إزاى ) كانت الرحلة جرحا في ذاكرتها ، و لكن كان عزاؤها في العلاج الذي لم تصرف فيه عشر ما صرفته في القاهرة. لا أعمل دعاية لهذه القرية ، فأنا ليس ( قنقنابي ) و لا من القعب ، و لكن ، ألا توافقوني ، بأن البلد شامخ و ذاخر ، و أن شعبنا شعب أسطى ؟ تسلموا و تسلم يا حبيبي السودان.
|
|
|
|
|
|
|
|
|