|
فرسٌ للغريب[ إلى شاعرٍ عراقيّ ]
|
ُعِدُّ لأَرْثيكَ، عِشْرينَ عامًا من الحُبِّ. كُنْتَ وَحيدًا هناكَ تُؤَثِّثُ مَنْفًى لسَيِّدَةِ الزَّيْزَفُونِ، وبَيْتا لِسَيِّدِنا في أَعإلى الكَلامِ. تَكَلَّمْ لِنَصْعَدَ أَعْلى وأَعْلى... على سُلَّمِ الْبِئْرِ، يا صاحِبي، أَينَ أَنتَ? تَقَدَّمْ، لأَحْمِلَ عنكَ الكَلامَ... وأَرْثيك / ... لو كانَ جِسْرًا عَبَرْناهُ. لكِنَّه الدّارُ والهاوِيَة وللقَمَرِ البابِلِيِّ على شَجَرِ اللَّيلِ مَمَلكَةٌ لَمْ تَعُدْ لَنا، مُنْذُ عادَ التَّتارُ على خَيْلِنا. والتَّتارُ الجُدُدْ يَجُرُّونَ أسْماءَنا خَلْفَهُم في شِعابِ الجِبالِ، ويَنْسَوْنَنا ويَنْسَوْنَ فينا نَخيلاً ونَهْرَيْنِ: يَنْسَوْنَ فينا العِراقْ أَما قُلْتَ لي في الطَّريقِ إِلى الرِّيحِ: عمَّا قَليل سَنَشْحَنُ تاريخَنا بالمَعاني، وتَنْطَفِئُ الحَرْبُ عمَّا قَليل وعمَّا قَليلٍ نُشَيِّدُ سُومَرَ، ثانِيَةً، في الأَغاني ونَفْتَحُ بابَ المَسارحِ للنَّاسِ والطَّيْرِ من كلّ جِنْسِ? وَنَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جاءَتْ بِنا الرِّيح... / لَنا غُرَفٌ في حَدائِقِ آبَ، هُنا في البِلادِ الَّتي تُحِبُّ الكِلابَ وَتَكْرَهُ شَعْبَكَ واسْمَ الْجَنوبِ. لَنا بَقايا نِساءٍ طُرِدْنَ من الأُقْحُوانِ. لَنا أَصْدِقاءُ من الغَجَرِ الطَّيِّبينَ. لَنا دَرَجُ الْبارِ. رامبو لنا. ولنا رَصيفٌ مِنَ الكَسْتَناءِ. لَنا تكنولوجيا لِقَتْلِ الْعِراق تَهُبُّ جَنُوبيّةً ريحُ مَوْتاكَ. تَسْأَلُني: هَلْ أَراك? أَقولُ: تَراني مَساءً قَتيلاً على نَشْرَةِ الشَّاشَةِ الْخامِسَة فَما نَفْعُ حُرّيّتي يا تَماثيلَ رودانَ? لا تَتَساءَلْ، ولا تُعَلِّقْ على بَلَحِ النَّخْلِ ذاكِرَتي جَرَسًا. قَدْ خَسِرْنامَنافِينَا مُنْذُ هَبَّتْ جَنوبِيّةً ريحُ مَوْتاك... / .. لا بُدَّ مِنْ فَرَسٍ لِلْغَرِيبِ لِيَتْبَعَ قَيْصَرَ، أَو لِيَرْجِعَ مِنْ لَسْعَةِ النَّايِ. لاَ بُدَّ مِنْ فَرَسٍ لِلغَريبْ َما كانَ في وُسْعِنا أَنْ نَرى قَمَرًا وَاحِدًا لا يَدُلُّ على امْرَأَةٍ ما? أما كان في وُسْعِنا أَنْ نُمَيِّزَ بَيْنَ البَصيرَةِ، يا صاحِبي، والبَصَرْ? لَنا ما عَلَيْنا من النَّحْلِ وَالمُفْرَداتِ. خُلِقْنا لِنَكْتُبَ عَمّا يُهَدِّدُنا مِنْ نِساءٍ وَقَيْصَرَ... والأَرْضِ حِينَ تَصيرُ لُغَةْ، وَعَنْ سِرِّ جلجامشَ الْمُسْتَحيلِ، لِنَهْرُبَ مِنْ عَصْرِنا إِلى أَمْسِ خَمْرَتِنا الذَّهَبِيِّ ذَهَبْنا، وَسِرْنا إِلى عُمْرِ حِكْمَتِنا وكانت أَغاني الحَنينِ عِرَاقِيّةً، والعِراقُ نَخيلٌ ونَهْران... وكانت أَغاني الحَنينِ عِرَاقِيّةً، والعِراقُ نَخيلٌ ونَهْران... ولي قارِئٌ في الجَنُوبِ. ولي حَجَرُ الشَّمْسِ في نَيْنَوى وَنَيْروزُ لِي في ضَفائِرِ كُرْدِيّةٍ في شَمالِ الشَّجَنْ ولي وَرْدَةٌ في حَدائِقِ بابِلَ. لي شاعِرٌ في بُوَيْب ولي جُثَّتي تَحْتَ شَمْسِ العِراق على صورَتي خَنْجَري. وعلى خَنْجري صورَتي. كُلَّما بَعُدْنا عَنِ النَّهْرِ مَرَّ الْمَغولِيُّ، يا صاحِبي، بَيْنَنا كَأَنَّ القَصائِدَ غَيْمُ الأَساطيرِ. لا الشَّرْقُ شَرْقٌ ولا الغَربُ غَرْبٌ. تَوَحَّدَ إِخْوَتُنا فِي غَريزَةِ قابيلَ. لا تُعاتِبْ أَخاكَ، فإِنَّ الْبَنَفْسَجَ شاهِدَةُ الْقَبر... ... قَبْرٌ لِباريسَ، لُنْدنَ، روما، نيويورك، موسكو، وقبر لِبَغْدادَ، هَلْ كانَ من حَقِّها أَن تُصَدِّقَ ماضِيَها الْمُرْتَقَبْ? وَقَبْرٌ لإِيتاكَةِ الدَّرْبِ وَالْهَدَفِ الصَّعْبِ، قَبْرٌ لِيافا... وَقَبْرٌ لِهوميرَ أَيْضًا وَلِلْبُحْتُرِيِّ، وقبرٌ هو الشِّعْرُ، قبر من الرِّيحِ... يا حَجَرَ الرُّوحِ، يا صَمْتَنا! نُصَدِّقُ، كَي نُكْمِلَ التِّيهَ، أنَّ الخَريفَ تَغَيَّرَ فينا نَعَمْ، نَحْنُ أَوْراقُ هذا الصَّنَوْبَرِ، نَحْنُ التَّعَب وقَدْ خَفَّ، خارِجَ أجسادِنا، كالنَّدى... وَانْسَكَب نَوارِسَ بيضاءَ تبحثُ عن شُعَراءِ الْهَواجِس فينا عَنْ دَمْعَةِ الْعَرَبِيِّ الأَخيرةِ، صَحْراء... صَحْراء ولا صَوْتَ يَصْعَدُ، لا صَوْتَ يَهْبِطُ، بَعْدَ قَليل سَنُفْرِغُ آخِرَ أَلْفاظِنا في مَديحِ المَكانِ، وَبَعْدَ قليل سَنَرْنو إِلى غَدِنا، خَلْفَنا، في حَريرِ الكَلامِ القَديم وسَوْفَ نُشاهِدُ أحْلامَنا في الْمَمَرَّاتِ تَبْحَثُ عَنّا وعَنْ نَسْرِ أَعْلامِنا السُّود... / صَحْراءُ للصَّوْتِ، صَحْراءُ لِلصَّمْتِ، صحراءُ لِلْعَبَثِ الأَبَدِيّ
محمود درويش
|
|
|
|
|
|
|
|
|