|
مؤتمر " الشيوعي ".. عرس الزين وطائر الفينيق - فائز الشيخ السليك
|
مؤتمر " الشيوعي ".. عرس الزين وطائر الفينيق الإثنين 26-01-2009
قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة - وقد جاءت كعادتها قبل شروق الشمس - وهي تكيل لها لبنا بقرش: "سمعت الخبر ؟ الزين مو داير يعرس ". وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة. واستغلت حليمة انشغالها بالنبأ فغشتها اللبن . كان فناء المدرسة "الوسطى" ساكنا خاويا وقت الضحى، فقد أوى التلاميذ إلى فصولهم، وبدأ من بعيد صبي يهرول لاهث النفس، وقد وضع طرف ردائه تحت إبطه حتى وقف أمام باب " السنة الثانية "وكانت حصة الناظر.
" يا ولد يا حمار.. إيه أخرك ؟ "
ولمع المكر في عيني الطريفي:
" يا فندي سمعت الخبر ؟ "
" خبر بتاع إيه يا ولد يا بهيم ؟ " ولم يزعزع غضب الناظر من رباطة جأش الصبي، فقال وهو يكتم ضحكته : " الزين ماش يعقدو له بعد باكر " وسقط حنك الناظر من الدهشة ونجا الطريفي. ومؤتمر الحزب الشيوعي السوداني الخامس كان مثل "عرس الزين" رواية الكاتب الطيب صالح، فقد كان حدثاً كبيراً، ومفاجأة أدخلت الدهشة في نفوس الناس؛ لأنّه حدث ظل الناس ينتظرونه أكثر من ثلاثين عاماً على طريقة "العنقاء والخل الوفي"، فالبعض ينتظر الحدث كنوع من حب الاستطلاع، وآخرون ينتظرون اشفاقاً، وهناك من ينتظر بتعاطف، وهناك من ينتظر في شماتة، وهناك من كان حقاً يريد مناقشة قضايا جوهرية تحدد مسيرة واحد من أعرق الأحزاب السودانية، ومن بين هؤلاء طرفة الزميل الرشيد الذي ظلّ يجمع الملفات كل مرة، ويعلّق حل كل قضية منذ عشرين عاماً على عقد مؤتمر الحزب، فمات الرجل، ولم ينعقد المؤتمر، وتحركت القضايا، وظلت الملفات حبيسة الأدراج، أو المخزن، وتؤكد الطرفة ذلك الحضور الكبير كما اسماه البعض "جيل البطولات" بجلاليبهم البيضاء، ونظاراتهم المقعرة، أو عجلات سيرهم داخل قاعة المؤتمر، وغير شك أيضاً فقد كان هناك حضور لافت لجيل التضحيات، ومن بينهم من خرجوا الى الدنيا ساعة انتهاء جلسات آخر مؤتمر للحزب العتيق، ولو أننا كنا نتمنى أن يكون للجيل الجديد حضوراً موازياً للجيل القديم، في داخل المؤسسات لتجري دماء جديدة في داخل الشرايين العجوزة لكي تمنح الجسد المنهك جرعات "التجديد"، وتؤكد صيرورة الحياة، وتوارث الأجيال، وتداول السلطة سلمياً. و على طريقة مهرولي "عرس الزين" بالطبع كنت من بين المهرولين نحو بهو قاعة الصداقة في ذلك "اليوم الأحمر القاني"، واضطررت لالغاء اجتماعنا الصباحي مع رؤساء الأقسام لنذهب كلنا لنشاهد الحدث الذي قال البعض في خبث أنه يتكرر مرةً كل أربعين سنةً، ودافعي من الذهاب كان حقيقةً هو حرصي على دعم عملية التحوّل الديمقراطي، وتشجيع الاحزاب السياسية لممارسة الديمقراطية من داخلها قبل أن تطالب بها في الفضاء الخارجي، لا سيما وأن المؤتمر يعقد في ظروف تقف فيها كل البلاد على حافة الهاوية، وربما تتدحرج داخل الجب، وهو أمر يتطلب قوة قوى التغيير، ومن ثم وحدتها في "جبهة عريضة" شمال وجنوب وفق برنامج وطني ديمقراطي يخرجنا من عنق الزجاجة، ويقودنا الى بر الأمان، وهو ما يضمن تنفيذ اتفاقات السلام، واكمالها بتسوية عادلة في اقليم دارفور، ووقف النزيف هناك، ومن ثم المضي في طريق المصالحة الاجتماعية وفق الحقيقة والمصالحة، والمساءلة، وفي ذات الوقت محاربة الفقر والتهميش وعبور أزمتنا الاقتصادية التي تتجاهلها غالبية القوى السياسية. لكن وبرغم الاحتفائية البهيجة، والحضور الأنيق وهبوب نسمات الحرية، فإنّ ثمة خيبة قد تسللت خفيةً الى نفوس كثيرين، وهي خيبة مرتبطة بضرورة التجديد؛ شكلاً ومضموناً، فالناس تهفو للتغيير، وأول علامات التغيير هو تغيير الفهم للقيادة، والقيادة الأبدية التي يتحدد أجل انتهاء دورتها بقوانين الحياة، وأعمار الناس، وسنة الله وحقيقته الثابتة، وكان العشم قد غشى نفوس بعض الديمقراطيين باندفاع ثورة تجديد داخل مفاصل الحزب العتيق لتعطي شارات ايجابية حول التحول الديمقراطي، وفي ذات الوقت خلق فرص للكوادر الشابة لتتبوأ أماكنها في عملية ادارة الكيانات السياسية، وقد كان العشم قبل كل ذلك يحدو الكثيرين في وجود تغيير في مفهوم الحزب للماركسية، ومراعاة ظروف ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ودول شرق أوروبا الشيوعية في أواخر القرن الماضي، واجتياح موجة العولمة في ظل القرية الكونية وتدفق المعلومات، وهو أمر يحتاج مراجعة في السياق العام المربوط بكل الدنيا، وبالسياق الخاص؛ حيث الفضاء السوداني، وهو فضاء واسع، وشائك، وثر؛ وان أبرز معالم هذا الفضاء هو وجود دولة بالمفاهيم الحديثة للدولة لا تزال في مرحلة التخلق، أو هي مشروع عند بعض، فالدولة هنا تعيش مرحلة ما قبل الرأسمالية برغم قوانين الخصخصة التي أقرتها "الانقاذ" من أجل "تمكين" محسوبيها، وبؤر مشروع الاسلام السياسي، وعناصر ذات المشروع ؛ الوطني منها، والوافد، ونمط الانتاج في السودان هو نمط زارعي، أو رعوي، مع وجود بعض ملامح النظام الرأسمالي في ظل غياب واضح للطبقة العاملة، وهو ما ينعكس في طبيعة الصراعات السياسية والمسلحة في البلاد، فهي صراعات ذات طابع ثقافي/ عرقي/ ديني، مع أثر اقتصادي محدود يظهر في التهميش الاقتصادي، وهو واقع جعل معظم الصراعات؛ وهي صراعات ثقافية بين المركز والهامش، أي أنه صراع بسبب الاستعلاء الثقافي من جهة، والتهميش من جهة أخرى، وهو ما يتطلب وقفة من "الحزب الشيوعي" ازاء قضية التنوع الثقافي، والقوميات، والعوامل الدينية والثقافية، فهي في النظرية الماركسية تظل عبارة عن بنى فوقية لبنى تحتية هي الاقتصاد وعلاقات الانتاج وانماطه وقيمه، وضرورة سيطرة طبقة البروليتاريا في خاتمة المطاف. ويبدو أنّ الخطاب العام، وهو ما لاح في أفق الجلسة الافتتاحية يمنحنا ثقةً في أن بزوغ شمس التغيير الكبيرة يظل أمراً عصياً، وهو ما قد يضع الحزب في ذات القالب القديم شكلاً ومضموناً. أقول ذلك؛ وفي ذهني نضالات الحزب، وأدبياته التي أثرت على كل القوى السياسية، ودور اليسار كله في السياسة السودانية كمدرسة سياسية لا تزال بصماتها واضحة في مسار الحياة السياسية، ولهذا كانت الحفاوة بانعقاد مؤتمر الحزب، وهي دعوة للقوى السياسية الأخرى؛ لتعقد مؤتمراتها مثلما فعلت قبل ذلك "الحركة الشعبية"، وهي حفاوة تصل عند البعض تشبيه عقد المؤتمر مثل عرس الزين، أو هي عند أعضاء الحزب وشبابه ومحبيه؛ مثل طائر الفينيق، والذي تقول عنه الأسطورة إن عمر الفرد منه يمتد لحوالي خمسمائة عام، وفي نهاية "حياته" يجثم الطائر الخرافي على عشه في استكانة وغموض ويغرد لآخر مرة في حياته - الراهنة - بصوت خفيض حزين، إلى أن تنير الشمس الأفق فيحترق ويتحول رماداً وهو يصدر أصواتاً تبدو أقرب إلى الأصداء. وعندما يكون الجسد الضخم قد احترق بالكامل، تخرج يرقة صغيرة من بين بقاياه وتزحف في دأب نحو أقرب بقعة ظليلة وسرعان ما تتحول إلى طائر الفينيق التالي، وهكذا.. فهل من جديد ؟ أم سنحتفي فقط بمظاهر التحوّل الديمقراطي؟. http://ajrasalhurriya.net/ar/news_view_1602.html
|
|
 
|
|
|
|