الفتى ديغو مارددونا، استلم الكرة من أردليس، سحبها كريشة، وليست كرة، ديغو أبن الأحياء الفقيرة، يجري بالكرة، كوكب الأرض يراقبه كله، أكثر وأمتع مما يشاهد الجمعية العامة للأمم المتحدة، أتغير منه الآلهة في هذه اللحظة، فالمسيحي والملحد والغني والبوذي والمسلم، أمسكوا انفاسهم، وقد بشرهم حدسهم بأن في الأمر أعجوبة، فالجري، والثقة التي يركض بها، تبوح بأسرار، تدرك بالحدس، بأن في الأمر أمثولة ستلد اليوم، بل بعد لحيظات، أمسكت شعوب الكوكب الأرضي، الغارق نصفه في الليل، والنصف الآخر في النهار، وأطرافه غروب وشروق، انفاسهم، وهم يرون فتى احياء بونيس ايرس القذرة، يسعى في المعلب، راع ونعجة حبيبة، طيعة، وحيدة، كرة قدم منقطة، كجلد الفهد..
ألم يقل دارون بان الانسان هو سليل الحيوانات، وتقلب في الصور، من نوع لأخر، و من فيصلة لأخرى، فرشاقة الغزال، ومكر الثلعب، وسرعة الفهد، وقوة الأسد، وعين الصقر، كلها ورثها ماردونا، "فالأيدي الماهرة تجسد الخيال، مهما تسامى، يد الفنان، وقدم ماردونا، سيان"..
صمت الكوكب كله، ذلك الصمت الذي تسمع فيه حركة إبرة الساعة اليدوية، كأنه رعد، وضربات القلب، كأنها قنبلة أنفجرت، أمسك الناس انفاسهم، لا شهيق أو زفير، بل كرة تخضع لبهلوان ماكر، يفكر أسرع من الآخرين، بل أعمق، وأجمل، وينفذ ويمارس ما يبوح له خياله الكروي العجيب، مستلهما ما سمعه وورثه من حكايات واساطير الهنود الحمر العجيبة، غارق كفنان فيما ترسمه ريشه قدمه بالكرة، يرسم خطط عسكرية مباغته، على ضوء تأمله لنيه العدو، ويباغته قبل أن يرمش له طرف، غزال أمام سلحفاة، وشاعر أمام تاجر جحود، بربك (كيف يلتقيان)، إيها المنكح الثريا سهيلا؟!! بربك، كيف يلتقيان!!..
لا كاهن، أو عراف يقرأ خطواته المقبلة، يبتكر طريقه بجدة، لم يسبقه خيال عليه، أو ذاكرة، يرسل نفسه بعيدا عن ركام العادات والتقاليد الكروية، "أن يكون نفسه، وليس غيره، أيا كان"، ياله من بارع، يحبس الأنفاس، بهذه الجدة المتناهية، كبرق عجيب، يضئ حنايا الكوكب كله...
استلم الكرة في منتصف الملعب، بل انقصه منه قليلاً، او زد عليه، بشكله الكاركاتوري القصير، بارز الصدر، وأحدب، الصدر، "القرد عند امو غزال"، وأمه هؤلاء المتفرجين كلهم، في الملعب، أو شاشات التلفزيون، المحبة تجمل كل شي، تزخرف كل شئ، سحب الكرة، ثم ربطها بحبل غير مرئي برجله، بنى قلعة خفية حولها، عين زرقاء اليمامة لن تبصرها، ثم مضى كملك، على سجاد أخضر حي، كعازف، كعبقري، كأنشتأين، "يدرك قوانين الضغط، والاحتكاك، والقوى ورد الفعل"، في زمن يخرج عن التصور..
امامه مساحة خالية، لا أدري ماهي اللغة التي يتفاهم بها مع الكرة، إنه من قبيل سليمان، ينقرها وهو مسرع نقرات عجاب، برفق وتأني، مع سرعته الفائقة، كأنه يقرفها، كعازف ينقر الوتر لخلق نغمة لا تزيد أو تنقص فتفسد اللحن، يضربها بظهر الكدارة، حيث السيور، كأنه يمسد ظهر حبيبة، أو يمرر على عنقها ريشة حمام وهي غافية، حالمة، يالها من علاقة عصية الوصف بين قدمه والكرة، سر بينه وبين الكرة، لا يعرفه إنسان ليتوقعه، ولا خصم فيدركه، يدفرها امامه كراع ونعجة يتيمة، كشاعر وقصيدة، تحس برغبة الكرة في اللعب معه، طفل يتشعلق على ظهر أبيه، وهي ترغب في معانقة الشبابك، كما يرغب الأطفال في التهام الحلوى، أمام اب كريم، رحيم، وقادر، قالت قدمه للكرة (لك ما تشائين، ستعانقين الشباك)...
هو والكرة، لا أحد معه، هو في واد، واللاعبين في واد آخر، كان في تلك الحالات العجيبة من التجلي في حياة الفرد، حين تحس بأن الكون كله في راحة يدك، كما أمر المسيح البحر الهائج فسكن كطفل، جرى كإعصار، واجههه لاعب انجليزي، طفل أمام حاوي يخرج الفيل من كمه، والأرانب من اذنيه، والخريف من رجليه، والسحب من كم قميصه، معا، وفي آن واحد، تذبذبت عيناي اللاعب الانجليزي كفأر خائف، كل توقعات الطقس لا تنفع معه، تركه مذهولا، أمام معادلة في الفيزياء والخيال والقدرة، صعب فهمها أو هضمها، إلا بعد سويعات من حدوثها، (أين اختفى ماردونا ياناس)، لم يجده امامه، وحين نظر خلفه، وجد الإعصار تجاوز أكثر من ثلاث لاعبين أنجليز، وهو في طريقه لحارس حزين، شقي، رمى به القدر أمام الإعصار، والريح الصرصر، ومباغته الشعر والشعور..
*** يرقص في الحبل، وهم يترنحون في الطرق الوسيعة، السعيد والمشرف على الموت لا يتفاهمان، بعيد تسجيل الهدف، والكرة في طريقها لمعانقة الشباك، حائط المبكى والفرح، معا، رفع ريشه رجله من الكرة، بعد إكتمال لوحة الجوكندا، بأبتسامتها الساحرة ليوم الناس هذا، تبختر عزا، ومجدا، وأما بنعمة ربك فحدث، وأي نعمة أعظم من موهبة فريدة، وبكر!!..
هل استخدم وشم تشي جيافارا المرسوم على كتفه الأيسر، تعاويذ الهنود الحمر، قرأ في تلك اللحظة طالع النجم والأفلاك، أنها يأتمر بها الآن، بمواقع النجوم، فتشبه بالبخور، في رقته وسحره، كائن بلا عظم أو عمود فقري يسعى في الملعب، بخور يشم ولا يقبض، مضى كملك على سجاد أخضر حي، محروس بدعوات حواري ارجتنينا، وقلوب ذات غصة في جرح فوكلاند، يرتدي القميص ذو الخطوط الزرقاء والبيضاء، الماء واللبن، الفطرة والعلم، ويرتدي الرقم (10)، وليال عشر، تحفظه،..
جرى، حول الملعب، بطفولة النصر، محبوبا، في داكار وبيونس ايرس والقاهرة، وأمبدة..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة