12.
وصل ... الوالد ... أبي ... أبتاي ... لقاء الإلفة روحا وجسداً ... لجسد يحمل جينات من ذلك الجسد ... ليلتحما وتلتحم أرواحهما ... ليتحدا روحاً وجسداً .. وكيمياء التجانس تؤدي دورها ليتفاعلا ... كمواد أولية لتفاعل كيميائي متجانس ....والمادة الأولى في التفاعل "عبد الله" كان أكثر ثباتاً ... وتكتظ شعيرات رأسه الدمويه بالدم المندفع من قلبه الثائر ... ليمتلئ صدره ويشهق لدرجة زهقان الروح لتنزف حروف الأشتياق... وكلما حاول الكلام ... يخرج حديثه كتأتأة .. بصوت متهدج ومتقطع وأنفاسه تلاطم جسد والده كثور هائج ... والذكريات تستنزف مافي القلب ... وتشغل مافي العقل ... ليزداد زفير عبد الله للهواء ... والشهقات المكتومة ليبحر في الوجد والحنين لكل شئ ... لوطن واب يتوخاه للخلاص وأم يرى أنها تركته ... ثم تنتهي الشهقات ولحظات الحنين ... لينكسر الفؤاد ... وتؤدي هرمونات الجسد فعلتها لجهازه العصبي اللاإرادي ... لتتحول شهقاته إلى تنهيده كالوميض الخافض ... ليكسر حاجز اللقياء ويحاول أن ينطق بها ... والدي... أبي ... أبتاي ... ولكن يعجز لسانه عن النطق بها وجل محاولاته للنطق بها مزيج من تمتمة ،وظلمة الأجواء حوله لحياته الغامضة ، حنين ، اشواق ، جروح من نوع اخر ... لتستمر كتأتأة متقطعة تنتهي بشهقة الصمت ... فيا ترى هل فطرته أدركت أي صنف من الرجال هذا "المحمد عمر" ليرفض اللسان أن ينطقها لينتهي بتنهيدةكومضة بدات في الإنخفاض لتكسر حاجز اللقياء وهاجس عبد الله ... ويديه تربتان على جسد والده ... وشعور مابين اللوعة والانتقام ... والمسامحة تجاه والده ... وحنين له ولوطنه...
طرف المعادلة الأخرى هذا "المحمد عمر" كان أكثر بروداً والطيف العابر في مخيلته ... لرائحة إمتزج فيها عبق الأرض برائحة النهر والخصوبة وخضرة المكان ... وطعم ثمار تلك الأرض ورائحة تلقفتها حواسه ... للريح المشبع بالرطوبة ورائحة الزهر ... وأصوات لمزيج من ثرثرة حديث الجيران للغات غير مفهومة و... ولغات عربية يتحدثها كل فرد بطريقته التي يعرفها ... واشكال الناس تمر سريعا وتلك الشجرة ... شجرة المانجو التي كان يقف عليها ... في النصف الآخر من بلده جنوب السودان ... لينحني علي جسد تلك الحسناء الرفيعة الطويلة ... وجسدها المتناسق الذي يغري كل من ينظر إليها و الجالسة تحت ظل الشجرة وهي تحمل طفلها الحنطي اللون ... ليحاول أن يتحسس جسده الصغير والذي كان يراه شفافاً ... كأثير ... ليرتفع ذلك الجسد فوق رؤوسهما ولا يستطيعان الامساك به ... لا الأب ولا الأم .. وهنا ينداح عن عنيي الأب دموع ساخنة بللت خديه وأنهمرت في جسد ولده .. فلذة كبده ... ليستجمع قواه ... لينظر لوجه ولده ... ذلك الوجه الذي أعياه الشوق والتنقل والترحال ولؤم الحياة ... وعينان غائرتان يسيل منهما دموع بللت أكمامه .. ليردد بصوت قوي ... عرفتك أنت فؤادي ... من فعل بك هذا ... ليعم البيت سكون عجيب .. ليبكي الأطفال والزوار .. وزوجة الأب والأرض والشجر والحجر ... ليعقب كل ذلك اهازيج من الفرح ... الذي يكتنفه غموض عجيب ...
يقضي عبد الله يومه ... فالثاني والثالث .. وفي اليوم الرابع ... يطرح الأب ... نفس كلام زوجته قبل عودته ... بأن لا مكان لك بيننا يا "عبد الله" .. وهذا "العبد الله" ... الوحيد الهوية ... وحيد السلوك ... وحيد الإتجاه قرر أن الوطن الذي تنكرت وتبرأت فيه أمه عنه ... وفي ظل الصراع المدهش لأب ظاناً أنه سيحتضنه ولكن نفره ... أن هذا الوطن ليس بوطنه ..."نعم قالها كذلك" .... فعاد لصديقه بالخرطوم .... وطفقا يجريان وراء الأمل بصبر دؤوب يخلو من الملل ... وأمل يحمل عبد الله في جوانحه ليوصله للثريا ... وهاهو يحمل شعلة الأمل لتضئ له ظلمات اليأس ... ولا بد لشجرة صبره أن تطرح ثمار الأمل ...
وعلينا أن نتابع آلام هذا الإنسان لحين لقائي به وماذا فعل به القدر ....
يتبع ...