|
"رحيل الزين" ... د. حاتم الصكر
|
في استذكار الطيب صالح مناسبة ـ مفاجأة ؟ـ غيابه تحضر بقوة أعماله التي خلدته وحفظته في الذاكرة السردية المعاصرة ، رغم ابتعاده المبكر وصممته وقلة إنتاجه، وانصرافه مؤخراً إلى تدوين ذكرياته عن المدن والأمكنة التي عاش فيها وأحداثها التي قدر له أن يعيشها، وكأنه يدون وصيته الثقافية والفكرية، لكونه شاهداً ذا أهمية فقد عشان في الغرب، وتوجب عليه معاينة المعادلة بين الوجود هناك والعيش هنا بالعقل وبالضمير، وهو ما جسده في روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) التي احتلت مكانة بارزة في المدونة السردية العربية الحديثة .. كعمل فني فكري محكم. لم يكن كثير من طلاب قد قرؤوا شيئاً للطيب صالح عندما قررت لهم روايته " عرس الزين " للدراسة والتحليل في مادة النثر الحديث ، لكنهم بعد أيام كانوا يتحدثون عن الزين كشخصية مألوفة وحميمة بدءاً من أسمه المميز، وقد لفت انتباههم انتشال الطيب صالح للزين من الهامش الاجتماعي إلى المركز، وزواجه بنعمة التي ترفض وجهاء القرية، وتساءل بعضهم عن إمكانية وجود حدث مماثل في الواقع يتحول فيه الفتى الأبله الظريف والدميم بطلاً تتزوج به أفضل فتيات قريته . تنتهي الرواية والزين وسط الراقصين، ( واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة وجسمه النحيل فكأنه ساري المركب). راح الزين يقود الحشد منتظراً على الجماعة التي عدته مجنوناً وعاملته بقسوة فثأر منها، وقام بالتعويض عما أحسه غبناً وتهميشاً، فكانت النهاية برمزيتها تشير إلى الانحياز لمخلوقات الهوامش المقصاة والحواشي المهملة، وكان السودان نفسه بلد الطيب صالح يقف في قلب دائرة الرواية العربية ويظهر بإبداعه إلى العالم من بعد عبر أعماله. عندما رحل الطيب صالح في الأربعاء الرمادي الحزين تذكرت بكاء الزين ليلة عرسه عند قبر الشيخ الحنين، كان والداً رمزياً له وبصوفيته ورقة مشاعره قدم البديل للأب الغائب في الرواية، وقام بتعويض آخر، هو عصب روايات الطيب صالح في الحقيقة. إذا كان الدارسون يعرفون الرواية بأنها " فن التحولات " كما هي حال السرد العربي في أجمل متونه كـ" ألف ليلة وليلة" وعلى أسا ذلك التعويض يتحول الأشخاص وتتحول مسارات السرد وأحداثه. هكذا نلتقي مصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال" فلاحاً مقترناً بامرأة من غمار الناس، بعد أن قتل زوجته البريطانية، وعاد من رحلته الشمالية خائبا، كأنما ليترجم مقولة " إن الشرق شرق والغرب غرب لا يلتقيان ولا يأملان اللقاء؛ لأنه مستحيل، فالشرق الكتلة والشرق الجهة ينأى عن الغرب كتلة ووجهة، لذا كان سفر مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال ودراسته وزواجه ومحاولة العيش في الغرب ضرباً من المستحيل الذي أعاده الى النسيان في زاوية قصية من وطنه، ولكن ليلامس قضية من أخطر ما كان ـ ولا يزال ـ على لائحة الثقافة والآخر. لقد عالج الطيب صالح بسرد روائي سلس بسيط وموجز أشد القضايا تعقيداً، وعانى ما عاناه أبطاله وبلده وثقافته العربية من أسئلة حارقة وعنت وتهميش، لكن احتفاء الرواية العربية به واعتناءها بجهده كان مكافأة للإبداع غير المصنوع بشهرة أو شائعة. تقرض المنافي بموت الطيب صالح قلماً آخر، وتسكت نبض قلب مرهف؛ لكن ميراثه سيحكي لأجيال القراء لمدى لا يحده زمن أو يوقفه غياب.. فالطيب صالح ليس عابراً أو ماراً بالمصادفة في مساحة الرواية والثقافة العربية، وها هم شخوص أعماله يلتمون اليوم حول جسده الراحل وفكره وحكيه الباقي عبرهم، وعبر قرائه ودارسيه.
صحيفة السياسية، يومية تصدرها وكالة الانباء اليمنية ، الأحد 22 فبراير 2009م ، ص 15
|
|
|
|
|
|