|
معركتي مع التمساح
|
معركتي مع التمساح *السر مصطفى صيف 1980 وأنا داخل مطار الخرطوم في انتظار وصول الخبير الألماني المستر جورقن برونكي الموفد من قبل مؤسسة فردريش ناومان الألمانية لدعم وتطوير معهد الإعلام في إطار العون الفني الألماني للسودان، وكان عملي مديراً للعلاقات العامة وضابطاً للمشروع الألماني يفرض علي استقبال الخبراء وتسهيل مهامهم والعناية بأمورهم الرسمية وأحياناً الشخصية. هبطت طائرة الأيرباص المصرية واستقبلت المستر برونكي عند سلم الطائرة وبعد عبارات السلام والترحيب توجهنا إلى قاعة كبار الزوار لبضع دقائق ومن ثم إلى مقر معهد الإعلام ذلك المنزل الصغير الذي يتبع منازل "الجاكسون" في الخرطوم غرب شمال السكة الحديد حيث كان في انتظارنا الأستاذ عمانويل داؤود أنطوان مدير عام المعهد لاستقبال الخبير الألماني والترحيب به. كان الوقت قبيل منتصف النهار ولم تفلح المروحة الإنجليزية العتيقة في إيقاف العرق المتصبب من وجه وجبين الضيف القادم من أوروبا، فاستعنا بمروحة "ستاند" ثم وضعنا أمامه كوباً من الكركدي المثلج وصحناً مليئاً بتمر القنديل والفول السوداني "المدمس". تناول المستر برونكي الكركدي بتلذذ واضح وهو يردد (فري نايس) (فري تيستي) ثم أخذ يستفسر عن ماهية المشروب. فأوضحت له أنه عبارة عن عصارة ورق نبات سوداني صحي وله فوائد علاجية منها أنه يساعد على تخفيف ضغط الدم ويعالج التهاب الحلق والتهاب الصدر، كما أنه يصدر إلى بلدكم ألمانيا، حيث يحضر منه عقار لعلاج السل الرئوي. وليتني لم أذكر تلك المعلومات فقد كان همنا بعد ذلك وأنا أرافقه يومياً في تحركاته البحث عن مكان بيع الكركدي المثلج وأخيراً اضطررت إلى شراء كمية من الكركدي الجاف وشرحت له كيفية إعداده كمشروب يضاف إليه الثلج والسكر وارتحت من هاجس البحث عن الكركدي المثلج، أما تمر القنديل فقد أصبح جزءاً من محتويات درج العربة البيجو الجديدة التي يستقلها. كان المستر برونكي شديد الاهتمام بالمصنوعات اليدوية وقد أتاحت له طبيعة عمله معنا في تنظيم المؤتمرات والندوات والدورات التدريبية الإعلامية في مختلف أقاليم السودان فرصة اقتناء مجموعة كبيرة من مصنوعاتنا الشعبية اليدوية المتنوعة بتنوع بيئاتها وأماكن إنتاجها. وكان يرسلها إلى ألمانيا أملاً في عمل معرض خاص في منزله لكي يطلع أصحابه وزملاءه على ثقافة وحضارة جزء هام من إفريقيا والعالم العربي، استمرت فترة عمل المستر برونكي في السودان إلى ثلاث سنوات صحبته خلالها عن قرب وتوطدت صلتي به وصداقتي معه وكان يزورني في منزلي مع أفراد أسرته حين يحضرون إلى السودان لزيارته وكنا نتبادل الزيارات الأسرية. أحب المستر برونكي السودان وأهل السودان، أحب فيهم سماحة الفطرة والبساطة والأريحية وإكرام الضيف وتقدير العلم وأبلى بلاءً حسناً طيلة فترة عمله في دعم وتطوير معهد الإعلام (أكاديمية السودان لعلوم الاتصال حالياً) حيث شارك بفاعلية في التخطيط والإشراف والتنفيذ للعديد من الدورات التدريبية داخل وخارج السودان للعاملين في حقل الإعلام في كل أنحاء البلاد بما في ذلك الولايات الجنوبية من خلال الإذاعة والتلفزيون والصحافة والعلاقات العامة بالإضافة إلى تنظيم عشرات المؤتمرات الإعلامية التي رعاها حكام الأقاليم وشارك في فعالياتها الوزراء والخبراء والديوانيون ورجال الصحافة والإعلام. حزن المستر برونكي كثيراً عندما رفضت مؤسسة فردريش ناومان الألمانية طلبه بتمديد فترة عمله في السودان وأمر بالتوجه إلى مقر عمله الجديد في بافاريا. وزع البروفسير علي شمو وزير الثقافة والإعلام آنذاك رقاع الدعوة لحضور حفل تكريم ووداع الخبير الألماني المستر جورقن برونكي وطلب مني شخصياً بحكم ملازمتي للمستر برونكي ومعرفتي باهتماماته أن أختار هدية مناسبة ليقدمها له في نهاية الحفل. توجهت إلى محل لبيع المصنوعات اليدوية في السوق الأفرنجي مقابل لمحل السروجي في الجزء الغربي لحدائق الشهداء أمام القصر الجمهوري جوار المصنوعات المصرية. أخذت أتفحص المعروضات من الأشياء الشعبية وكان معظمها ضمن مقتنيات المستر برونكي، وفجأة وقع نظري على تمساح حقيقي صغير (مصبَّر) أي تم تفريغ أمعائه وحشوه بالقش وكان التمساح يقف على أرجله في حالة تأهب للانقضاض وقد استبدلت عيناه ببلالي (كور زجاجية) في حجم ولون عيني التمساح ما يوحي بأن التمساح حي. مبلغ 200 جنيه الذي تسلمته من مال الوزير الخاص لم يكن كافياً لشراء التمساح وحينما ذكرت لصاحب المحل أن التمساح عبارة عن هدية ستقدم لخبير ألماني خدم السودان لمدة ثلاث سنوات في إطار العون الألماني وسيكرمه الوزير، تنازل صاحب المحل عن فرق السعر وحملني رسالة للوزير بأنه يسهم في تكريم الخبير بهذا المبلغ. وتم لف التمساح بورق الهدايا الملون. في يوم الحفل وضعت التمساح بجانبي ولا أحد يدري عما بداخل اللفافة الطويلة التي بلغ طولها المتر ونصف المتر تقريباً. وبعد الكلمة الضافية التي ألقاها الوزير على الحشد مشيداً بجهود المستر برونكي وما أنجز على يديه من المهام في تطوير العمل الإعلامي وشاكراً لمؤسسة فردريش ناومان وللحكومة الألمانية ما تقدمه من عون للسودان، ألقى المستر برونكي كلمة معبرة عن شعور صادق بالامتنان لكل من ساعده في أداء واجبه من المسؤولين والزملاء وحكى عن تجربته الثرة في السودان مبدياً اعتزازه وتقديره للسودان وأهله. لم يكن السيد الوزير يعلم ما بداخل اللفافة وهو يقدمها هدية للمستر برونكي، كما لم يكن المستر برونكي ولا أحد من الحضور يعلم بماهية الهدية. وبعد انتهاء الحفل اصطحبني المستر برونكي إلى منزله وفي المنزل قام بفض اللفافة فاتسعت عيناه في دهشة من لا يصدق عينيه، وصاح في فرحة غامرة (أوووه أن بيلفبل) "غير معقول" وأمسك بيدي مطبقاً عليها بيده الأخرى علامة من لا يجد من الكلمات ما يعبر به عن شكره، وفجأة تحول فرحه إلى إحساس مغاير تماماً وبدا عليه الشعور بخيبة الأمل!! فسألته عما به، فقال: لا أستطيع أن آخذ هذا التمساح إلى ألمانيا، فسألته لماذا؟! فأجاب، بأنه سلّم الصندوق الكبير الذي به كل أغراضه إلى الشركة الناقلة وهو الآن في حظيرة الجمارك، وكان يمكن أن يضع التمساح بداخله، أما أن يدخل به الطائرة فلربما يطلب منه الكشف عن محتويات اللفافة الطويلة ووقتها سيثير الرعب داخل الطائرة حينما يرى المسافرون التمساح. ثانياً إذا تجاوزنا هذه الفرضية ووصل التمساح إلى ألمانيا فسوف تصادره سلطات ميونخ حسب التعليمات والنظم المحلية المتعلقة باستيراد الحيوانات حتى ولو كانت "ميتة"!. توجهت ومعي المستر برونكي صباح اليوم التالي إلى مطار الخرطوم وكان يوم مغادرته البلاد والتمساح معنا داخل اللفافة، فاقتربت من ضابط الجمارك لعمل إجراءات سفر التمساح إلى ألمانيا، ففوجئت بأن التمساح من الحيوانات غير المسموح بتصديرها إلا بإذن من وزارة الثروة الحيوانية، فتركت مستر برونكي في المطار واتجهت بسرعة إلى الوزارة للحصول على الموافقة، فكان جواب المسؤولين بالرفض فأسقط في يدي. فاتصلت بوزير الإعلام الأستاذ على شمو الذي هاتف وزير الثروة الحيوانية مبيناً له أن التمساح هدية الدولة لخبير أجنبي انتهت فترة عمله في السودان، فأصدر الوزير تعليماته بالموافقة وبعد ملء الاستمارات الكثيرة المعقدة صدرت الموافقة بالسماح بتصدير التمساح، فقفلت راجعاً إلى المطار ومعي الأوراق فتهللت أسارير برونكي ولكن ضابط الجمارك رفض فتح الصندوق لإدخال التمساح فيه ومرة أخرى حزن المستر برونكي فطمأنته ولجأت إلى الطرق غير المشروعة، طالما أن أوراق التصدير معي وطلبت من أحد السماسرة أن يدخل إلى حظيرة الجمارك ويفتح الصندوق ليدخل فيه التمساح على مسؤوليتي، فانتهز فرصة مغادرة ضباط الجمارك لأماكنهم لتناول الفطار ودلف بسرعة إلى الحظيرة، وفك الحبال عن الصندوق وأدخل التمساح وأعاد إغلاقه بسرعة فائقة ومستر برونكي يرقب الموقف من على البعد وابتسامة الرضا على شفتيه، وحلف بطلاق الخواجية أن ينفح الرجل بعض المال رغم رفضه، وتنفسنا جميعاً الصعداء وسافر التمساح إلى ألمانيا وعانقني مستر برونكي مودعاً والدموع تترقرق في عينيه ولكنها كانت دموعاً صادقة معبرة ولم تكن كدموع التماسيح. [email protected]
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: معركتي مع التمساح (Re: علي الكرار هاشم)
|
الأخ العزيز/ سرالختم مصطفي اعلامي متمرس ورجل ودود كلما تقترب منه كلما تفتخر بهذا القرب والرجل كنز من التجارب والمعرفة والثقافة ولعله قد تذكر هذه التجربة الرائعة والتي مر بها في قطار الحياة فاراد أن يهديها لقراء المنبر شكرا يا بو الساره
| |
|
|
|
|
|
|
Re: معركتي مع التمساح (Re: علي الكرار هاشم)
|
Quote: ولعله قد تذكر هذه التجربة الرائعة والتي مر بها في قطار الحياة فاراد أن يهديها لقراء المنبر
|
شكرآ الأخ/على كرار....وشكرآ لكاتب المقال الرائع
مزيدآ من التجارب الشخصية الجميلة للأستفادة..........
مودتى................إسماعيل محمد احمد عباس......
| |
|
|
|
|
|
|
|