|
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية (Re: هشام آدم)
|
__________________________
الموضوع : كتابة على أبواب مدن .. ومدن اخرى قراءة في عالم (رانيا مامون) القصصي الكاتب: ابراهيم عابدين
زمن القصة يبدأ عندما تأخذ بطلة القصة «الراوية» مكانها داخل البص (ازعجتني جداً وأنا احاول ابعادها عن وجهي ولا تريد أن تبتعد. داخلني شك في ان يكون بوجهي شيء ما يجذبها إليه، جزيئات سكر او بقايا وسخ، ورغم علمي ان وجهي نظيف على الاقل نظافة لا تجذب الذباب. إلا اني مسحته بالمنديل الذي كان بيدي، وزيادة على التأكد اخرجت محفظتي المثبتة عليها مرأة صغيرة لأتحقق من الامر. الذبابة على ما يبدو كانت تنتظرني في البص الذي وقع عليه اختياري لأسافر به، اثق انها كانت تنتظرني، فمنذ ان دخلت وجلست في مقعدي بدأت في مغازلتي.. ثم ملامستي.. وتحول الامر الى ازعاجي وزيادة ما بي من توتر وقلق..).. السفر والرحيل دائماً يولد فينا احساس «التوتر والقلق»، والحزن لاسيما عندنا يكون سفر من اماكن ترتبط عندنا بحميمية الانتماء وصور الذكريات الجميلة، ولنتخيل كم سيتضاعف توترنا وقلقنا وحزننا، عندما يزداد هاجس وتعب الرحيل، بمصدر ازعاج اضافي تمنعنا حتى من محاولة التماسك والصبر على تلك الهواجس. وذاك السفر المضني.. (الذبابة التي انتظرتني فوتت عليّ فرصة الاستمتاع بأغاني «مصطفى سيد احمد» - التي اردت التوكؤ عليها لتعينني على التماسك - واصلت ازعاجي باصرار وتيقنت حينها ان الذباب اكثر المخلوقات ازعاجاً).
هناك اماكن او مدن نخاف من الرحيل نحوها لأنها تملؤنا باحساس الغربة والشجن والتوتر ونفقد فيها طعم اشياء كثيرة جميلة مثل الدفء وحميمية العلاقةمع المكان ومع الآخر (سألت نفسي: ما الذي يدعو هذه الذبابة وتلك الى السفر، هل هما تعرفان انهما مسافرتان..؟ وماذا ستفعلان في الخرطوم..؟ انا نفسي لولا اضطراري لما غادرت هذه الحبيبة مدني.. ماذا لو فتحت زجاج النفاذة وخرجت احداهما هل ستتوه من الاخرى وتفقدها..؟ هل سأتوه أنا من مدينتي بعد ان اعيش في غيرها..؟ وعاد لي قلقي كيف سأحتمل الخرطوم وغربتي فيها.. زحامها.. غبارها.. حرارتها العالية وايقاعها السريع..؟ وكيف احتمل وحدتي..؟) مع السفر واحساس الوحدة تتولد فينا الذكريات، فنفتح لها ابواب الذاكرة فتشمخ امامنا وتتمثل لنا بكل الفتها، وكل شجنها (أنت كل ما لي في هذه الدنيا) هكذا كتبها ذات يوم واردفها بسؤال شفهي. ما اكون انا بالنسبة إليك..؟ لحظتها لم اجب انما نظرت إلى عيني ورأيت صدقه... والتأويل فالفقرة الاخيرة لهذه القصة التي جاء فيها (ارهقه عبور كل هذا وانهكه التفكير في الغد، ارتمي قبالة باب المدير وبكي..
بحرقة بكى.. بقهر واحساس بالظلم بكى.. ظل في مكانه وبين لحظة واخرى يرفع نظره إليه عسى ان يفتح او يطل منه احد.. طال الانتظار والباب موصد دونه) هذه الفقرة تطويل وفقرة زائدة ضيعت بعضاً من اشراق وبهاء هذا النص الجيد من نصوص «رانيا مأمون».
قصة: مدن.. ومدن أخرى.. قصة «مدن.. ومدن اخرى» من أكثر نصوص «رانيا مأمون» نضجاً وتميزاً ويبدو ان السرد الذي جاء بصيغة ضمير «المتكلم» ساعد كثيراً على انسياب هذه القصة بسلاسة، وجاذبية كبيرة، جعلت الذات الكاتبة تتوحد في الكتابة، لتكشف عن لحظة زمانية في الحياة، هي لحظة المعرفة وهواجس الرحيل والسفر، ولحظة انبعاث الذكريات بكل طعمها حلواً كان او مراً، هي قصة تكون الحدث والمكان والزمان واللغة والسرد بتماسك ابداعي جميل وباهر.. على طول مسافة تبلغ حوالي (186كلم) هي مسافة الطريق بين مدينة ود مدني والخرطوم، وفي فترة زمنية تمتد حوالي الساعتين ونصف يستغرقها «البص السياحي» لقطع هذه المسافة، تدور وقائع هذا النص «فالمكان» في هذا النص هو «البص السياحي» المسافر من ود مدني للخرطوم، و«الزمان» هو زمن رحلة «البص» حتى الوصول الى الخرطوم، وشخصيات النص تتمثل في الراوي «الكاتبة»، و«ذبابة» أنسنتها «الراوية» لتأخذ مكانها بجانب الشخصيات الاخرى لهذا النص، فهناك امرأة في اربعينات العمر تجاور «الراوية» في المقعد، ورجل بقربه فتاة في المقعد الموازي لمقعد «الراوية» وسائق البص «التركي الجنسية»، بالاضافة لصوت الفنان «مصطفى سيد أحمد» و«عثمان حسين» وصوت آخر لمغني شاب مبهم، كان حضورهم عبر «الكاسيت» من خلال جهاز تسجيل «البص السياحي» وطبعاً لا يخلو حضور هذه الاصوات الغنائية بالتحديد من دلالة ومعنى...
تبدأ قصة «مدن.. ومدن اخرى» وهي قصة مكونة من عشر فقرات أو مقاطع بشكل سرد على جدلية قائمة على التذكر واستحضار الماضي من جهة والزمان الحاضر من جهة أخرى. بعد عمر وانا اغادر كل شيء بعد ان غادرني اكثر من احببت اسأل نفسي: ايعقل ان يكون كل ذاك الصدق الذي قرأته في عينيه زائف..؟ ام انني اخطأت التهجئة حينها، كما صارت الوحدة رفيقتي الآن..؟).. تداعى الذكريات اخذت البطلة «الراوية» عن كل ما حولها حتى «الذبابة» التي انسنتها الراوية في هذا النص الجميل على طول زمن هذه القصة ومكانها ليواجها معاً في نهاية الرحلة كل الاحتمالات في تلك المدن، حيث جاءت نهاية هذه القصة مفتوحة على احتمالات كثيرة مثيرة في ذهن القاريء اكثر من سؤال عن «المصير» (اخذتني ذكرياتي مما حولي حتى ذبابتي، وعندما وصلنا السوق الشعبي، نظرت إليها فوجدتها مازالت في حالة رفقة. غبطتها وقلت لها: على الاقل لن تواجهي هجير الخرطوم وحدك مثلي... فتح الباب وبمجرد ملامسة قدمي الارض حطت على وجهي ذبابة لم تمكث سوى ثانية ولم انهرها. خُيل إلىّ انها ذبابتي تريد ان تقول لي وداعاً.. شعرت تجاهها بود وشكرتها.. ارتفعت وتيرة قلقي وصاحبني في سيري مع السائرين في هذا الزحام وفوقنا شمس تفرض سطوتها..).... وهكذا تبقى الكتابة التي تثير فينا الاسئلة من أهم وأخطر وأروع أنواع الكتابة في مجال القصة القصيرة.
خاتمة: وتبقى «رانيا مأمون» صوت قصصي جدير بالاهتمام والمقاربة النقدية، فهي صوت واعد ومنتظر في مجال الابداع القصصي.
«مدني - يناير 2006»
المصدر : صحيفة الصحافة
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-19-07, 02:24 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-19-07, 03:32 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-19-07, 05:19 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-19-07, 05:31 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-19-07, 07:34 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-20-07, 09:03 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-20-07, 10:55 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-20-07, 11:05 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-20-07, 11:10 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-20-07, 11:43 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-20-07, 11:50 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-20-07, 12:09 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-23-07, 10:17 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-23-07, 10:51 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-23-07, 10:59 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-23-07, 11:06 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-23-07, 01:09 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-24-07, 08:56 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-24-07, 09:01 AM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-24-07, 05:15 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-24-07, 05:33 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-24-07, 05:43 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-24-07, 05:52 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-24-07, 06:40 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-24-07, 06:46 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-24-07, 06:52 PM |
Re: نقد الانتلجنسيا السودانية | هشام آدم | 06-24-07, 07:05 PM |
|
|
|