|
Re: يوم حلو ويوم مر (Re: هشام آدم)
|
يوم مر
( يا حمادة مع السلامة )
قدم من بورسودان محملاً بأحلام الشباب ، ولطالما حلم أن يرى الخرطوم ، ويرى بيوت الخرطوم وشوارعها وشبابها وكل الأشياء التي سمع عنها كثيراً . ورغم أنه لصيق القرابة بي إلا أنني لم أره إلا عندما قدم الخرطوم لتكملة دراسته . شاب ترتسم على قسماته علامات الخجل الجميل وتزيد من وسامته بقدر ما تزيد عليه سمرته الداكنة نوعاً من الطبيعية ووسامة أهل بورسودان الأنقياء. خليط من براءة الأطفال ، وعنفوان الشباب ورزانة الرجال. إنه (حمادة مكوجي) وللحقيقة فلا أعرف سبباً لتسميته بالـ(مكوجي) ولكن هذا ما اشتهر به في عائلتنا ، ورغم أنه لم يكن يغضب لهذا اللقب إلا أنني كنت أغضب له. وكان دائماً يقول: "يعني المكوجي مالو؟"
رغم ما اتصف به هذا الشاب من صفاء سريره وطيبة لا يختلف عليها اثنان ، إلا أني علاقتي به لم تتجاوز كونه أحد أقربائي الذي يمكن مجالستهم. وربما لحكمة لا أفقهها بدء حب هذا الشاب يتسرب إلي شيئاً فشيئاً مع كل يوم تقترب فيه القصة إلى نهايتها. إنه شاب بسيط يحب أن يكون وسيماً ومحبوباً لا سيما بيت الفتيات ، لذا تجده يتفاءل كثيراً بوجود الدلالات الأنثوية في منزله ، من أحذية و (طرح) وأصوات ، وروائح ...إلخ. وكان دائماً يقول: "البنات ديل يا هشام أجمل حاجة في الدنيا"
ولما تقربت إليه ، وجدت أن بداخل هذا الشاب طفلاً جميلاً وادعاً لا يحب إلا أنثى واحدة ، ويحمل يخبأ تحت جلده الداكن صفاء الدنيا ، تاركاً للبقية زيف المظاهر الخادعة ، والكذب الملون ، والابتسامات الماكرة. لم أعهد عليه كذباً قط. لم أره - رغم رعونته - يتجرأ على فتاة بما يسيء إليه أولاً ، وإليها ثانياً . كان كل ما يحلم به هو أن يكون شخصاً تتكلم عنه الفتيات بالخير ، لا سيما ( ع ) التي كان قد شغفها حباً . فكتب اسمها بالحبر الجاف على أولى صفحات دفتره الذي ضاع معه ولم نعد نرى له أثراً. قبل عودته إلى بورسودان قال لي بطريقة خاصة: "هشام، البت دي لو ما حبتني أنا حقتل نفسي" فابتسمت له قائلاً: "هذا أفضل من أن تقتلك هي بيدها" ثم سافر. ولما عاد كنت قد انشغلت في امتحاناتي الكثيرة التي لا تنتهي ، وسمعت بعودته ولم أتمكن من زيارته في أول أسبوعين من عودته. حتى سمعت أنه قد لزم الفراش لعلة أصابته. عندها كان الواجب علي أن أزوره وأن أعوده ، ولكن لم يكن يخطر ببالي أن أراه بتلك الحال أبداً.
دخلت عليه الغرفة بذات الشغب الذي نعرفه عن بعضنا ، غير أنه لم يكن كعادته هاشاً باشاً ، بل بدا شاحباً ، منحني الظهر ، أصلع الرأس ، ناحل الجسد ، بالكاد يستطيع أن يجلس على سريره. أحزنني منظره جداً ، ولكني خشيت أن أظهر له استيائي من حالته ، فواصلت في التمثيل. قيل لي أنه عادة خصيصاً ليكمل علاجه في الخرطوم. ولم يكن أحدهم يعرف على وجه الدقة ما يعاني منه (حمادة مكوجي). كان دائماً يشتكي من صداع يكاد (يفلق رأسه نصفيه) على حد تعبيره. لدرجة أنه كثيراً ما كان يبكي من شدة الألم. وما أصعب أن ترى إنساناً عزيزاً عليك يتألم ولا تعرف ما يجب عليك فعله. حاولت أن أفعل له كل ما كان بيدي أن أفعله ، ولكن آلامه كانت أكبر كثيراً من كل محاولاتي الفاشلة.
تم نقله بعد رحلة عذاب طويلة إلى المستشفى ، كنت أنا وأحد أبناء عمومتي وأخواته وأمه وجدته التي هي جدتنا نحن أيضاً معه. مكثنا في المستشفى قرابة الثلاثة أيام دون أن يخبرنا أحدهم علة صاحبنا. فتجرأت أنا وابن عمتي على سؤال الطبيب المشرف على علاجه. وليتنا لم نفعل. فلقد نزل كلامه علينا كالماء البارد في ليلة شتاء قارس البرودة. فوالله لقد وقف شعر جلدي وأنا أسمع كلامه. كم هو مؤلم أن تعرف أن شاباً في عمر الزهور مصاب بمثل هذا المرض الخبيث!!! فخرجت للتو ومعي (عماد سعد الله) لا نلوي على شيء ، ولا ينطق أحدنا ببنت شفة ، خرجنا من المستشفى (مستشفى الخرطوم التعليمي) لنجلس على أحد السلالم العتيقة الحافلة بالظل. وبعد ما يربو على الساعة تقريباً من الساعة التفت على عماد لأجده غارقاً في دمعه. فبدأت في تهدئته وكأنني لم أكن أحتاج لمن يهدئني. كان كلانا غير مصدق أن هذا المرض الخبيث قد يعرف طريقه إلى جسد هذا الشاب الذي يعشق الحياة . ولماذا ؟ هل لأنه يعشق الحياة؟ أم هي تلك حكمة الموت المقيتة التي تقول: "الرائعون آخذهم إلي لأنهم لا يستحقون البقاء في هذه الزبالة" !!!!
المرحلة الأصعب ، هو مواجهته ومواجهة أمه وأخوته الذين أنهكهم السهر وهم يتناوبون على وضع أيديهم على رأسه المصابة بالصداع الخبيث. كيف لنا أن نواجههم بما سمعنا؟ هل نخبرهم فنقطع بذلك كل أمل لهم في أن يقف على قدميه مرة أخرى وأن تعود له وسامته وابتسامته التي كانت تملأ صدر أمه وعيون أخوته؟ هل نخفي عنهم ذلك فنكون كمن يضحكون على أنفسهم وعلى غيرهم ؟ نعرف جيداً قدرتهم، وعوزهم ، فكيف لهم في أن يرهقوا بتكاليف باهظة كتلك التي يدفعونها لمستشفى بالكاد توفر لهم سريراً لابنهم؟ لقد كانت المنظار التي نراها في المستشفى بشعة وتشمئز منها القلوب. والارتقاب كان هو الأصعب على الإطلاق. فمتى سوف يخلو هذا السرير ممن عليه ، ليحمل فوقه جثة حيّة جديدة.
وها هو يرحل الآن في صمت غريب ومخيف ، تاركاً وراءه أماً لا تنفك تمسك بقلبها كلما تذكرت اسمه ، وأخوة ، يشعرون بالفقد ، فكم هو مؤلم أن تفقد أخاً لك . لقد فجع الجميع في حمادة مكوجي كمن لم يفجعوا من قبل ، ربما لصغر سنه إذ كان في الواحد والعشرين من عمره ، وربما لأن المرض لم يمهله كثيراً ، وقد داهمه على حين غفلة من أمه التي كانت تحضر لزفاف ابنتها وأخته التي لا طالما حلمت بأن يحمل أخوه ابنها الصغير ، وحلمت أن تنجب أطفالاً يركضون ويملئون البيت بالصراخ منادياً : خالو ... خالو . لقد تبخر كل شيء ، وانقلب الزفاف عزاءً لا لون له حتى اللون الأسود كان باهتاً ذلك اليوم.
ألا رحمك الله يا حمادة!!!
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 12-24-05, 12:44 PM |
يوم مر | lana mahdi | 12-24-05, 01:25 PM |
Re: يوم مر | هشام آدم | 12-24-05, 01:38 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 12-24-05, 01:26 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 12-24-05, 02:21 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 12-25-05, 11:20 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 12-25-05, 11:29 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 12-25-05, 01:30 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | يوسف السماني يوسف | 12-26-05, 07:34 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 12-26-05, 10:59 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 12-26-05, 11:03 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | نهال كرار | 12-26-05, 01:04 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 12-31-05, 09:17 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-01-06, 09:56 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-01-06, 10:04 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-01-06, 01:51 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-01-06, 02:06 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-03-06, 02:30 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-04-06, 12:19 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-04-06, 12:31 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-09-06, 03:45 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-12-06, 04:27 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-13-06, 10:58 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-20-06, 11:10 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-21-06, 09:16 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-22-06, 10:58 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-29-06, 10:37 AM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 01-31-06, 03:50 PM |
Re: يوم حلو ويوم مر | هشام آدم | 02-02-06, 06:48 PM |
|
|
|