|
ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي !
|
(9) شُجيراتُ السلامِ النابتةُ على أرضٍ عانقَ ثقافيُها اِجتماعيَها
" … ليسَ مِن حقِّ العصافيرِ الغناءُ على سريرِ النائمين … " الشاعر الفلسطيني : محمود درويش
*** " … حانَ الوقتُ لإيجادِ عولمةٍ جديدة تُقلّل من خدمةِ مصالح الأغنياء ، و تعملُ باطِّرادٍ لخدمةِ الأكثرِ فقراً من البشر . حان الوقتُ – بالنسبةِ لنا – للتأكّدِ من أنّ التنميةَ الشاملةَ قد دخلتْ مفاهيمُها قلبَ أجندةِ العالمِ كهدفٍ مبدئي … " د. مهاتير محمد ، رئيس وزراء ماليزيا السابق .
*** الحلمُ ما زال يتمدد مُطمْئِناً – في سكونٍ مهيب و رهيب – حُرّاسَ مخبئِه و مخبرهِ الضارب الإيغال في أغوار أعماقهم القصية ، راقداً على سريرٍ عولميٍّ معموريٍّ ذي أُفقٍ ينداحُ ( تجدُّعاً ) على لحافٍ " وهيط " ، يرفدُ – دالقاً - منتظريه بالوعد و الثمرِ اليجيء . بينما عصافيرُ الصباح تُدندنُ مغرّدةً بالنشيدِ الصحوِ على آذان مَن نامَ ، أو تناومَ ، أو نُوِّمَ على أنغام ( الرَّاب ، و الطّبقِ الفضائيِّ المثير ) ، أو تثاءب واهناً – جائعاً عطشاً – يتناول " الماك " ، شارباً يتمتعُ " بالكوكا " ، متماهياً مع أيقوناتِ أحصنةِ طروادةِ ( الدنيا الجديدة ) ذاتِ الحوافر و الأظافرِ القواتلِ ، و مغاراتِ الدواخلِ المخبأةِ مدسوسةً – علناً - ، و الحالُ يا حبيبَنا ( ص ) في خَدَرٍ مخمليٍّ مهلكٍ لذيذ !! . و ها هو القلمُ في حياده ( السودا - إيجابي ) مازال يقطرُ - نازّاً – بوحاً يفتتُ كي يُمنطقَ راهنَ الوهنِ - آني الحضور - المعفّرِ بالفاني المفارقِ للدروب الواسعاتِ ( السمحة ) في أصالة و ازدهارِ مسلكها العاتي البهي ، وهجاً يبدد بل يُشتتُ ما استقرَّ تحكُّراً و تمكُّناً – ظلامةً أضحتْ ، أو غمامةً علُقت – على أجنحةِ ( الوزِّين ، و الغرنوق ، و الحباري و السمبر و ود ابرك و طير الجنة و الكحّالي و جداد الوادي و القمري و البلوم و الهدهد حتى ريش النعام ) ، و كامل ذواتِ المناقير سليلةِ العصافير السابحةِ – محلِّقةً - في فضاءٍ يسع مليون ميلٍ من آمالِ و هواجسِ أسرابِ الطيور – صابرها و طافشها - و أكثر ، و هي تحلم بهذا الغصن المآلي الوارف الظليل ( الوطن ) الذي كان ماضيه أشتر !! ، و قادمُ أيامه أخضر !! ، مداداً من الدفقِ الحميم يمهرُ وريقاتِ الذاكرةِ ( الزولية ) الأولى في نقائها المشيمي الآسر ، ببعض نزيفه الحارِّ المضني العتي والمنعش – في الآن ذاته - للدواخلِ العامرةِ بالحقِ ، و قطراتِ مُزنِ الفضاءِ الإنساني الصراح ، ومقولات فصيح الكلام في تمفصلها القارّ ببصيلات الأنفس الفياضة بالرواء ، و غائب الفعل الموالي لتواريخ الأتقياء ، أملاً و توقاً للذي يأتي هميماً واضحَ القسماتِ مثلما يتسرب – في رويَّة - فرحٌ يوشيه السعدُ و تدثره القناعة ، و توازنه معادلةُ ما يجب أن يسود عالمنا ( المُجَابَدِ ) بين أن يقول ، أو لا يحكي ما لفظته أرحامُ سودانيتنا – وهي تقاوم في استحياءٍ تيارَ النيلِ ( زوليِ الملامح ) في سريانه الأبدي - . و ها الآن يخرج ( العباد و البلاد ) على أرضِ الفصح المقاوم للسكوت ، معلنين أن ما بين الناس أقوى من الذي بين القبائل و أشباهها ! و لكن ؛ هل آن للقبيلة القيامُ بدورها الأساس في بلورةِ الحسِّ التعايشي المسالم والمعولم سودنةً بهيةً كما كانت قُبيل تواترِ الفعل و القصدِ ( المُشاتِرِ ) و المفارق لأقوال حزمةِ الأنقياءِ و مقاصدِ مُجملِ الأنبياء ؟ . ترى من أين يبدأ الحكوُ بعد هذا الانقطاع ( الأبستيمو – عاطفي ) !! ؟ . و هل مازالت نافورةُ الأحزان تضخُ حِممَ الرصاصِ ناظمةً ( نيالا ) عروسَ الجنوبِ الدارفوري بخيوط ( واو ) فاتنةِ نهر الجورِ في تدفقه البهي ، واصلةً ( الفاشر ) أبا زكريا بعصب ( جوبا ) وهي تتحلى بزينتها الإستوائية ؟ أم أنّ ( كسلا ) و نهرها المتمرد شموخاً في إباءِ توتيل يتحرّك في أحشائها جنينُ ( مروي) بأهراماتها التي تحكي تواريخ الأزوال ؟ ، و ما ( بورتسودان ) و جارتها – ثغرياً – على سواحل الأحمر ( سواكن ) سوى وليدٍ شرعي لأحلام ( دنقلا ) العجوز ؟. و هل المدينةُ ( سنارُ ) مرجعيةُ اِلتفافنا حول كبرياتِ الموائل المشتهاة مازالت تتوسط ( كوستي ) مدينةَ تجسير الشروق بالغروب و مُشْرَع أحلام شريانِ الجنوب بالشمال ، و ( ود مدني ) فاتنةَ الذهب الأبيض ، حاضنةً في مراقدها و أطرافها الريفية ( ود حبوبه ) و سيدي الشيخ ( فرح ود تكتوك ) ، و جموع الصالحين ، و هي تنازعُ في صبرها ( الأيوبي ) المثير مناطحةً – شكلاً و عمقاً و بعض أحلامٍ – حاضرةَ البلاد ذات البطن الخرافي الحاوي لثلثِ سكان أرض المليون ميل ، هذي ( الخرطوم التي كانت مثلثة ) ! ؟ إنها مدنٌ تحلمُ بانقطاع سيولِ نزيف التمزّقِ و الانشطارِ و التشرزم الذي بدأ دخانُ أعماقه يظلل ( زولية ) الإنسانِ في وطنٍ يتعولم متخصخصاً على المستوياتِ جميعها ، حتى القبيلة و البطن و الفخذ و العائلة و الأسرة و الفرد !!. وإذا كان ذلك كذلك حادثاً ينتظمُ المدن و قاطنيها ؛ فما مصيرُ القرى ، و البوادي ، و الفرقان و معدميها !!؟ . السؤال الحق هو بُؤرةُ التساؤل الذي لا يبحث فقط عن إجابات، بل يطمح في حلٍّ جذري يُبقي وجه الوطن متماوجاً – في تناغم – بين ألوان سحنته الزولية السودانوية الجامعة لأطيافِ مسبحته المليونية !! *** " جبل مرّه جاب لِي مَرا ، أسكُت ساي !!! " هكذا كانت ألمع أغنيات ( الفور ) و هم يشاركون في مناسبات القرية الاجتماعية بهذا الغناء الجماعي الكورالي المترع شوقاً ؛ مرجعيتُه العاطفيةُ هذا الجبلُ الشامخ وعداً بالحنين إلى المنشأ ، حاملاً بين قممه المسترجعة خيالاً يرثه القادم من أبناء و أحفاد . و كان الراقصون على أنغام بُنيّاتِ و فتياتِ الفور ، شباباً و كهولاً من قبائل السليم و الجعليين ( علياب ) و الشلك و الملكيه و الفور و النوبه و البرقو و بني هلبه و الزغاوه و الكواهله ، جمعت بينهم ( ود دكونه ) ، فصاروا يماسكون دنياهم ( حلوها و مرها ) بخيوط التمازج ، و التصاهر بل الاندغام في أُلفةٍ أسُّ منبتها التعايشُ على أرضٍ تَعِدُ الجميعَ بالخير الذي يفتح كنوز أنهاره الثمينة لكل شباك صائدي أرزاقه الوفيرة على قدر اِجتهادهم و قدرتهم و حدود معارفهم المعيشية !! . زكريا إسحاق ، الذي يعرفه أهل ود دكونه و ليلو أماره ب ( زكريا تيسه ) ، رجلٌ تجاوز الأربعين من عمره بسنوات . كان من أوائل الذين درسوا القرآن و تفسيره بأول ( خلوةٍ ) بالقرية و ما جاورها ، و التي قد أنشأها أحدُ أعمامه من الفور الكنجاره ، وهم يلبون نداءات ( ود تور شين ) آن قهقره ( أولاد جون ) جنوباً نواحي أم دبيكرات ، فكانت الهجرةُ – شرقاً – نواحي ( بحر أبيض ) ، لتصير ديار جنوب النيل الأبيض مستقراً لمَن بقي منهم ، و منبتاً للأولاد ، و موطناً للأحفاد . حفظ ( تيسه ) القرآن – عن ظهر قلب – كحالِ أقرانه و أترابه ، و لكنه تميّز عنهم بملازمته لتلاوة آي الذكر الحكيم ليل نهار ، أينما حلَّ ، و حيثما استقرَّ . كما اُشتُهر بإيثاره للمشي على رجليه الحافيتين ، حتى صار باطنا قدميه أمتن و أقوى من ( تموت تخلي ) هذا الحذاء المصنوع من إطارات السيارات البالية ، ليُعادَ استخدامه إنسانياً وهو ينتسب – تلازماً – إلى عوالم الفقراء و المعوزين و المحتاجين ، و هم يحاولون سدّ ثغرات و ثقوب مقومات حياتهم – كبشر – بالتحايل على ما يلفهم من فاقة ، و لكنهم أسعدُ من طفل وجد أمه بعد طول فراقٍ و حنين !! ، أو كما تنتعشُ – مفرهدةً – قناديلُ الذرةِ حينما تلامسُ حُبيباتِها قطراتُ أمطار ( التِّلْوي ) ضاخةً فيها إكسير الحياةِ إنضاجاً لها بعد طول غياب . زكريا تيسه ، يُعادُ إنتاجُه إسطورياً في مخيلة و واقع أهل ود دكونه و ما جاورها من قرى و فرقان ، على صورة الرجل الصالح ، صاحب الخطوة و الباع ذي الطول الناظم – ترطيباً – لدافئ الآمالِ القروية و هي تبحثُ عن نموذجٍ يُحيلُ واقعها إلى حلمٍ يتحقق . حيث ظلَّ ( هضلول بلل ) هذا الشابُ السِّليمي المفارق لدروب القبيلة في مساراتها الرعوية التقليدية ، منتمياً لعوالم الاستقرار جوار النيل ، تاركاً مهنةَ الأجداد ( المَسِير ) و ( الضَّعاين ) في هجرتهم الرعوية الجنوبية – حتى تُنْجَه – جنوب فشوده حاضرة أولاد المك ( رث الشلك ) ، جنوب غرب ملكال أوان الصيف ، لتنقلب راجعةً – بواكير الخريف – منهيةً رحلة المسير جنوب غرب كوستي ( بدايات الدرت ) نواحي الوساع و ما جاورها من بوادي و مراتع ، لتستريحَ البهائمُ ( أبقاراً و ضأناً و ماعزا ) و قبْلَها يُلقي مالِكُوها و ( ساعُوها ) بعصا ترحالهم – مؤقتاً - من رحلةِ ( الجنو- شمال ). هكذا ظلّ هضلول يذكر – دائماً - ذلكم الحدث أوان ( المغربية ) عندما شارف مقابر القريتين التي تفصل بين ود دكونه و ليلو أماره ( المامور ) ، و قد كان يدندن ببعض ( الجرداق ) هذا النمطِ الغنائي المترع بالتطريب و كامل نداءات الحنين لدى بطون قبيلة السليم بأفرعها جميعاً ؛ من ( أولاد تاير ، و أولاد سليم ، و أولاد براهيم و ناس عطيه و ناس بلل ، إلخ … ) ، حيث شقّ صوتُه المثخنُ بالجراحاتِ الحميمة فضاءاتِ مساماتِ وريقاتِ شُجيراتِ ( العُشرِ ) اللّدنةِ ، لِتنتصب أمامه في شكل ( بعاتي ) وهي تتمايل – يمنةً فيسره - . و العُشَرُ كما تقول أدبياتُ علم الغابات ( الفوريستُوري ) ينتمي إلى فصيلة ( الخيار و العجور)!! فأي الدوزناتِ تحتقنُ بِفونيمات و مُورفيماتِ ( جَرْدَاقِه ) السّخي ؟ . هضلول ، َتلبَّستْهُ حالةُ خوفٍ خرافي من هذا الهُلامِ الذي داهمه بغتةً فأطاح به أرضاً ، و كلما حاول التغلبَ عليه ، يجده كاتماً على أنفاسه .. توالى الصراع بينه و البعاتي حتى خارت قواه ، و تمكّن منه الشبح الهلامي ( والدنيا مغارب ) ، فاستسلم صائحاً : " يااااا أبو داووووود ، تلحقني و تفزعني " !!! ، و بدأ تشهُّده و استعداده لملاقاةِ ربه . و فجأةً ، خفّت قبضةُ الهلام من على رقبته ، و دوّى صفيرٌ صارخٌ كالريح .. ليجد ( تيسه ) ممسكاً بكتفه ، رافعاً إياه ، و هو يتلو آية الكرسي !!! أفاق هضلول ، و بين أشعةِ المغارب ذات الحمرة تراءى له شبحُ البعاتي و هو يجتازُ شُجيراتِ ( العُشَرِ ) مخلِّفاً بعضَ روائحه و اهتزازاتِ هروبه التاريخي من آي الذكر الحكيم التي كان يتلوها الشيخ إسحاق تيسه !!! ، و من حينها ظلّت الحكايةُ – حكاية هضلول و البعاتي و العشر و تيسه – حاضرةً في أذهان و مُخيِّلاتِ ( الود دكوناب ) جميعهم و مَن جاورهم ، تتنقلُ مُورّثةً للأبناء و مَن يخلفهم . و للمفارقات العجيبة ، يرتبطُ العُشرُ في المخيلة الاجتماعية السودانية و تجلياته البعاتية بالمقابر في معظم أنحاء السودان !! ، ليكون من حقنا التساؤلُ : تُرى ما سرُّ هذه العلاقة ( البعاتي –عشرية ) بالمقابر !! ؟ نهاياتُ سبعينات القرن المنقرض ، و الدنيا تلهجُ ألسنتها – سياسياً – بالحرب الباردة بين آلِ ( يانك ) صنّاعِ الدنيا الجديدة ، و أسرةِ ( كوف ) حرّاسِ الكرملين ، و تنتعشُ أذواقها العاطفية الغنائية بدفقِ شيخِ ( الجامايكيين ) رائدِ و معولمِ موسيقى الريقي ، هذا البوب مارلي و هو يسقي أحلامَ و آمالَ الهوامش بالرواء المتجاوز للحروبِ المستعرةِ ( عولمياً ) – باردها و حاميها- ، ضاخاً دماً جديداً في أوردة العالم ، داعياً نائميها و ناعسيها بالنهوض لأخذِ و انتزاعِ حقوقهم المستلبة ( قيت أب ، إستاند أب ، إستاند أب فور يور رايت … ) ، حينها كانت ود دكونه و رصيفتها ليلو أماره غارقتين في مداراتِ طبولِ و أنغام ( الفرنقبيه ) ذات الأصول ( الدارفورية) ، حيث يتبادل الرجالُ و النساء ملابسهم / هن في مفارقاتٍ مازحة .. ، و الفرنقبيةُ إحتفالية دائمة الحضور في مناسبات ( الختان ) لمعظم أبناء قادة أطياف قبائل قاطني ود دكونه و ما جاورها ، و بالطبع أبناء الفور ، حيث يمتطي الصبي جواداً مزيناً ( بالجرتق ) ، و هو – أي الصبي المختون – يتحلى بكامل الزينة ، رافعاً ( الحريرة ) و ( السعفة ) بينما تتبختر الفوراويات في أزهى ملابسهن – رجاليةً كانت أم نسويه - ، حاملاتٍ ( للبرتال ) و هو الطبق ( السعفي ) الموشى بالألوان – التي تحكي سحنة الوطن - . و ( أب قزّه ) ضاربُ ( النُّقارة ) في تماهٍ نوراني يحلق في سماواتٍ تلامسُ غائب الأحلام ِ في سرحانها الآسر ذي النكهة الصوفية الغارقة في عوالمَ ، بل فضاءاتٍ من الإشباعِ للروح العتيق : " مِريسلي ، مِريسلي ، مِريسلي بشفي برتال سَمِح … " و تواصلُ الحناجرُ المسكونةُ طرباً إرسالها لما تختزنُ من أنغامٍ عبر الأزمنةِ متجاوزةً واقع الأمكنةِ بالغناء الحر ، مخاطبةً هذا الوادي ( سَيْلَي ) جوار الفاشر : " سَيْلَي ، ودّيني دار بَلْدِي قمح .. بَرْكَب القَطر أخلِّي الدار للصرمان !!!… " إنها مناسبةُ ختان الابن الوحيد لأحد أعيان ليلو أماره ، سليل أحد بطون قبيلة السليم ( أولاد سليم ) ، و الذي قد أصاب ثراءً خارج مظان دروب الثروات التقليدية للقبيلة من أبقارٍ و ضأن و أغنام . حيث إنه ظهر – فجأةً – و الدنيا يُدثّرها (الدَّرت ) و في معيته جرّاران ( تركتران ) من ماركة و فصيلة فورد الأمريكية ، و سيارة ( ميريكوري ) أمريكية الصنع ، وطّنها أهالي ود دكونه بإطلاق اسم ( ميركن ) عليها ، واصفين إياها بأنها ( ربع طياره ) دلالةً على سرعتها . تقاطرت القبائلُ زرافاتٍ و وحدانا من ود دكونه و البشاره و بر كدوك و الكويك و أم جلاله و الدبكرايه و الرشيدي شمالاً ، لتلتقي في ليلو أماره ( المامور ) بجموع القرى الجنوبيه ملولو و كوع المنقو و قردود ناما و فلوج حتى المطيمر جنوباً . تدافعت في سخاءٍ تضامني احتفاءً بختان نجل ابن السليم الذي ذاع صيته بامتلاكه بعض أسلحة ( الكاوبوي ) الزراعية ذات الذراع العولمي ( اللاقف ) لأحلام صغار المزارعين ذوي الأفق الإنساني الينزِّ عرقاً يسقي التراب ، و كرامةً تسترُ الحال و تكفي عن السؤال !!! . و ها هي ليلو أماره في هذا الصباح تأخذ زينتها السودانوية ، و ذلك من خلال المشاركة البهية لقبائل السليم بجرداقهم و نقارتهم و فنجفانهم ، و الفور بفرنقبيتهم و إبرتهم الضائعة ، و الشلك برقصاتهم و ( طوريهم ) و ملابسهم الزاهية و حلقات العاج المحيطة بالمعاصم ، مع الريش و اللاوو و دقات الربابة و الطبول . حيث كان الاحتفال مقاماً شرق السوق ، و على مقربةٍ من بيوت شيوخ أولاد سليم ، على ظلال أشجار اللالوب . نحرت البهائم بجميع أنواعها ، فشبعت الجموع – عصيدةً سليميةً – و ( ملاح شرموط أخدر ) ، و ارتوت من العصير ( أبو رقبه ) و اللبن الرائب ( النَّسيه ) ، و بدأ الرقص الجماعي على إيقاعات النقاره ( الشلكية و السليمية و الفوراويه ) على التوالي ، لتتعفّرَ سماءُ القرية نواحي شرق سوق ليلو أماره مضمخةٌ بالطَّيب و روائح ( فليل دمور المسّخ الأرياح ) ، ممتزجةً بعبير ( سوار باريس ) ، متداخلةً مع أدخنة الأخشاب المحروقة لصناعة الطعام . اِنتصف نهارُ ليلو أماره ، فاستراحت الجموعُ الوافدةُ و المقيمةُ اِستعداداً لفعالياتِ ( العصريه ) ، متجرعةً أكواب العصائر ، شاربةً للشاي و القهوه . حينذاك كانت فتياتُ السليم يجهزن أنفسهن اِستعداداً لغناء و رقصات ( الفنجفانج ) و التي تبدأ – عادةً – عصراً و تنتهي بُعيد المغرب ، لتتواصل الأفراحُ – ليلاً – باحتفالية ( إبره ودّرت ) ذات الأصول الفوراوية و التي يشارك فيها شبابُ ألوان الطيف القبلي نواحي ليلو أماره و ود دكونه و ما جاورهما في دراما إجتماعية مازحة و بريئة ، و مسك الختام الاحتفالي يكون مع استدارة القمر ، حيث يلتفح الشبابُ ملاءاتٍ متدجّجين ب ( الدرقات ) و ( العكاكيز ) للمشاركة في رقصات ( الطورو ) المنحدرة من تقاليد الشلك الاحتفالية الخاصة بالصبية و الليالي المقمرة طوال العام . عصرَ ذاك اليوم البهيج ، بدأت الجموع تتحلق في دائرةٍ تحت شُجيراتٍ ثلاثٍ من العرديب كانت تقع على مرمى حجر من بيوت أصحاب الاحتفالية .. و صدحت ( أم ديوان ) السليمية حكّامةُ القبيلة ذات الصوت الموغلِ في مداراتِ التطريب ، و نداوةِ اللحن المشاغبِ لكوامنِ العشق المُحكّرِ في التواريخِ البهية ، مهيجةً ( بِركَ ) الفروسيةِ و بحارَ الرجال ، وهي تقود وصلة ( الفنجفانج ) : " … مِن الله خَلقا ، الخوف ما بِعَرفا .. أبو الحُرّه عاصي ، أسدَ الخَلا … " عندها ، تفاقمت مشاعرُ أبناء السليم ، و سرت العدوى لافةً الحضور جميعهم . فتقدم ( وداعة الله ) هذا الشاب السليمي المسكون فتوةً و نضارة ، مدفوعاً بما أصابه من انفعال بغناء أم ديوان و ظلال دلالاته المثيرة ، خاصةً وقد تصادف أن والدته كان اسمها ( الحرّه ) ليندلقَ اللحنُ في عروقه و ( يتشخصن ) فيه . دخل الفتى المهتاج حاملاً بيده اليمنى بندقيةً ذات ( ماسورتين ) يطلق عليها الوددكوناب ( أم روحين ) ، فأطلق الرصاصةَ الأولى و هو يضع يده اليسرى على رأس أم ديوان ، هازاً اليد اليمنى في انفعال . حينها كانت الزغاريد تختلط بصوت و دخان البارود ، و عندما خفت الزغاريد ، قفل راجعاً و هو يضع البندقية على كتفه اليمنى ، و فجأةً انطلقت الرصاصةُ الثانية و التي كانت داخل الماسورة الأخرى ، و كان لصوتها المكتوم دلالاتٌ تشي بإصابتها لجسم ما … الصمت يعلو – فجأةً – و الأعين تتابع اتجاه فوهة البندقية ، ليصير ( مقبول أكيج ) جسداً يتضرج بدمائه الحامية المندفعة نافورةً تسقي وريقات إحدى شجيرات العرديب التي كان يقف تحتها شامخاً بقوامه الفاره ، مدثراً بجلبابه الأبيض الناصع حالَ عمامته و مركوبه الفاشري ، حيث كان يعمل في التجارة ( القطاعي ) مع التاجر سعيد المبارك سليل ديار الزيداب ، و الذي قد تبنى مقبول و هو ابن سبع سنين ، لينشأ و يتربى على يده و يكون من ألمع أبناء الشلك الذين برعوا في تجارة القطاعي ، و لكنّ القدر أعمى كما يقول الناس . في ومضِ البرق تحلقت الجموع حول جثته الهامدة ، و مع الحوقلات و التشهدات تفرق الجميع ، و حقبت النسوةُ أطفالهن مولولاتٍ في صياحٍ و فزع . اِنفضت الساحةُ إلا من ( أبو آسيا ) عمدة وددكونه و بجانبه ولداه و ابنا أخيه و الشيخ إسحاق تيسه ، فطلب من الصبية إحضار ماء ، و بدأ ( تكتيل ) المرحوم و ذلك بوضع الماء على عينيه الجاحظتين و هو يتلو آيٍ من الذكر الحكيم . و عندما أشرف على الانتهاء ، سُمع هديرٌ لأصواتٍ تترنم بأغنياتٍ كأزيزِ الرياح العاتية ، فأدرك أبو آسيا بحسه القيادي أنها رقصةُ الحرب و الموت التي يؤديها الشلك في جماعة ، و أن القبيلة انفعلت بسقوط أحد أبنائها مقتولاً برصاص فرد من السليم ، حينها انتفض العمدة و أرسل أوامره لإسحاق تيسه بأن يخف تجاه الجنوب ليوقف الزحف الشلكي المنفعل بالثأر ، فانطلق تيسه ليلفى الثائرين أمام القنطرة المنتصبة على الترعة الرئيسية لمشروع ليلو أماره . حال وصوله توقفت الجموع و تضامت صفوفها و هي تحرك ( الحراب ) و ( الكواكيب ) و ( الدرقات ) أماماً و خلفا ، يمنةً فيسرة ، و يشتد هدير الأصوات المشبعة بأغنيات الحرب . فما كان منه ( تيسه ) إلا و أن صاح فيهم بلغةٍ شلكية فصيحه ، داعياً إياهم للهدوء و التزام الصبر ، وكنتَ تسمعُ أحدَ الشباب المنفعلين يصيح بمقطع حماسي يتطاير منه الزبد الموشي بالحرب ، فيجيبه في هارمونيةٍ بعضُ الأصوات المتفرقة . خفت الانفعالات ، و الصدور التي كانت تغلي بدأت في الهبوط التدريجي نتيجةَ تأثير كلمات تيسه عليهم ، و بفعل شخصيته الكاريزمية و مقامه المحترم لديهم ، و من مقولاته لهم بلسانهم " … الله واحد ، و حات جوك أتانق ، مقبول و وداعة الله ولدنا كلنا ، شلك و سليم و فور و علياب ، و زي ما قال جاقو : البلد دا بلد شلك و سليم و الباعوضه و نحنا كمان … " . تفرقت جموع الشلك الثائرة ، بينما ظل أبو آسيا يرابط نواحي مداخل بيوت أهل الاحتفالية حمايةً لهم من انفعالات طائشة . و بوصول الشرطة من نقطة وددكونه ، تم احتواء الموقف و حبس المتهم وداعة الله ليرسل إلى مركز كدوك و يحاكم بعدها أمام محكمة رث الشلك بخمسِ سنوات ، قضى منها سنةً بالسجن العمومي للمركز ، و قد تم إطلاق سراحة بعد دفع ( الدّية ) و التي وصلت إلى خمسين بقرةً ، استطاعت ألوان الطيف القبلي بوددكونه و ليلو أماره و البشاره من سليم ، و جعليين علياب ، و فور ، و برقو ، و بني هلبه ، و زغاوه ، و تعايشه و كواهله التباري في دفعها ، حتى الشلك أبوا إلا أن يشاركوا بالدفع . و من المدرِّ لجيشانِ العاطفةِ موقفُ ( تيسه ) ، حيث إنه أقسم بالله و جلاله بأن تُؤخذَ بقرتُه الوحيدة مع عجلها مساهمةً منه في الديه ، فقبلت منه المساهمة بعدَ تعنُّت برغم حاجة أبنائه الصغار للبن ، و لكنّ العمدة حلف بالطلاق بأن يقبل منه تيسه بقرتين حلوب و ... هل صارَ من حقِّ العصافيرِ الغناءُ على سرير النائمين و الدنيا يكسوها التشتتُ و يعشعشُ في مفاصلها الخراب ؟ و هل آن لنا التأكد من أن ( الزَّوْلنة َ) الشاملةَ قد دخلت مفاهيمُها قلبَ أجندةِ ( الوطنِ ) كهدفٍ مبدئي !!! ؟
____________________
تم نشر هذه الكتابة - ضمن سلسلة مقالات - بصحيفة " سودانايل السايبرية " ، و ملحق صحيفة السوداني الأدبي عام 2004م. * يا لها من ذاكرةٍ في سمتها أُفقُ الكتابة وهي تتزيّا بالذي ينبغي أن يكون !!!
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-18-08, 01:02 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | عبدالله الشقليني | 11-18-08, 05:46 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | Ishraga Mustafa | 11-18-08, 06:33 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-19-08, 05:52 AM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-19-08, 10:07 AM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | محمد على طه الملك | 11-19-08, 01:42 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-19-08, 02:38 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-20-08, 01:52 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | خالد سمارة | 11-20-08, 03:44 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | هند محمد | 11-20-08, 04:44 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-20-08, 05:44 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-21-08, 07:43 AM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-21-08, 04:56 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | khatab | 11-22-08, 03:31 AM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | khatab | 11-22-08, 05:55 AM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | هاشم أحمد خلف الله | 11-22-08, 06:06 AM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-22-08, 01:42 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | khatab | 11-22-08, 02:51 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-22-08, 02:59 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-23-08, 03:53 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-24-08, 02:36 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-24-08, 03:50 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-24-08, 05:17 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | إيمان أحمد | 11-24-08, 10:01 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-25-08, 04:51 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-25-08, 06:11 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-26-08, 06:06 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | حبيب نورة | 11-26-08, 07:25 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-27-08, 01:43 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-30-08, 04:38 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | خضر حسين خليل | 11-30-08, 05:07 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 11-30-08, 07:48 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | محمد على طه الملك | 12-01-08, 00:49 AM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | ماجدة عوض خوجلى | 12-01-08, 01:18 AM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 12-01-08, 05:25 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 12-02-08, 03:08 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 12-03-08, 03:47 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 12-03-08, 08:59 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 12-04-08, 03:24 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | فتحي الصديق | 12-12-08, 08:42 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 12-13-08, 03:49 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | حبيب نورة | 12-13-08, 03:56 PM |
Re: ذاكرةُ الكتابةِ في سمتِها النبيلِ ، وأُفقِها البهي ! | منوت | 12-13-08, 04:36 PM |
|
|
|