|
البركة ...... "فيكم"
|
أفضل الطعام عند جدي – رحمة الله عليه – كان الكسرة بالويكة ، فمازلت أذكر حديثه لابنته وهو يهم بالخروج باكراً لمزرعته كل يوم :" الويكة دي يابتي كان ما شديتيها الدغش مابتتوكل تاني ، وبعدين أهم حاجة تلايقيها سادة وتخينة تاني ماك مسئولة من طعمها " ذهبت معه يوما وانأ أسترجع سيرة هذه الويكة التي أدمن على حبها وجعلت منه شيخاً مفتول العضلات ، وفي بالي نكتة يتداولها الصبية آنذاك مفادها أن أحد القرويين أراد الهجرة إلى أمريكا (زمن الهجرة بدون لوتري) فحمل معه في صرة من هذه الويكة ، ولحظه العاثر وقعت هذه الصرة في قبضة أمن المطار وتحولت الى معامل مكافحة الإرهاب (كان يسمى بالإرهاب الغذائي حسب ظني) لفحص عينة منها ، وبعد سلسلة من الاختبارات في المعامل أعادوها له ومعها تقرير يفيد بأنها عبارة عن حفنة من الأخشاب . تأملت جدي من جديد وهو يفك صرة من القماش ويخرج منها قدح الكسرة ومن ثم يفتح البستلة ويدلق بعضا من ذلك السائل اللزج السميك على الكسرة، ثم يغرف من الجدول بعض الماء ويهزها داخل البستلة ويرش بها الكسرة من جديد ، بعد ذلك يعجنها بيده الخشنة وكأني بحبيبات الويكة ووالذرة الدراش يعاد طحنها من جديد ، ثم ما لبث أن استل بصلتين من الحوض الذي تتوسطة جلستنا هذه وضربهما بقبضته كمصارع محترف ، وناولني شريحة منها وهو يقول: "سم وضوق أكل جدك " . تناولت اللقمة متكاسلاً وأنا أرى حبيبات الويكة الدراش تلتصق بحواف الكسرة كأنها النمل الميت ، وما أن تذوقها لساني حتى تسارعت يدي في الأكل لقمة بعد لقمة ، واستمتعت حينها بوحبة لم أذق لطعمها مثيلا . بعد أن فرغنا من الأكل وأنا أجمع الأواني - سالت جدي ببراءتي المعهودة ، ياجدي ليشنو تكب الموية في الأكل والملاح بعقابو؟ " ؟ فاجابني بابتسامة غالباً ما تخرج من وجهه المكرفس" ياولدي الموية في الأكل فيها البركة ". بعد أقل من عام زرت مع الوالدة - حفظها الله –منطقة الختمية بكسلا ، دخلنا سرايا سيدي الحسن ، وطفنا داخل ضريح ستي زينب وستي نفيسة وست ثالثة نسيت اسمها ، تعجبت وانا أرى الحواريين يلتفون حول الضريح ويتمسحون بحجارته البارزة ، وأشد ما مالفت انتباهي ذلك التراب الأحمر الذي يحفرونه من داخل حفر صغيرة ويمسحون به وجوههم وظهورهم والبعض يسفه بتلذذ ، راقبت يد الوالدة وهي تأخذ حفنة من الحفرة وتفتها على شعري وهي تهمس " ببركة سيدي وشيخي تكبرو وتعلمو " . في كسلا الجميلة تكثر قعدات الجبنة في الطرقات وعلى حواف السوق ، ويتناثر أهلنا الأدروبات تحت ظلال النيم الوريف ورائحة البن تعبق أجواء المدينة بعطرها المألوف ، وهناك تدار الكؤوس حتى ترى الرؤوس تتمايل طرباً وكيفاً ، شدتني إحدى الجلسات وبدافع الفضول جلست إلى جوار أحد صانعي هذا الكيف ، رمقني بنظرة شك وقال لجاره " الجنا الظاهر رامياه البركة . عرفت من يومها أن البركة - عند البعض - اسم مرادف للقهوة ، وتذكرت بعد ذلك كيف أن أحد شيوخ قريتنا المبروكين ، مات على فروة الصلاة بعد أن شرب فنجان الجبنة المعتاد لديه بعد صلاة العصر ، ومن ذلك اليوم تمنى الكثيرون ميتة زاهية كميتة شيخنا ، ومازلت ابحث عن سر الموت لدى بعض الناس بعد تناول البركة ؟ ..
--- فاصل وقد نواصل قبل هذا الفاصل ندعو بالبركة لكل من فقد عزيز في هذا البورد خلال الفترة الفائتة والتي حجبتني ظروف عن التواصل . ونسال الله لكل فقيد الرحمة . وندعو بالشفاء لكل مريض وبالفرج لكل ممكون .. ونحمد الله على عودة منبرنا سالماً غانماً بعد التهكير الخطير الذي الم به والبركة كذلك في بكري امين الامة البوردابية . والبركة فيكم وفي صوركم وايميلاتكم المفقودة ... قوموا إلى فاصلكم يرحمكم الله .
|
|
|
|
|
|
|
|
|