مثله مثل غيره ظن أن آخر صفحات المعاناة قد إنطوت غير رجعه ، أخفي تكويناته ، ملامح وجهه ، ماضيه ، أحلامه ، كل شئ تحت ستار الزمن الذي يقوده حيث لا وجهه يعلمها. تحت إهابه حمل أحلامه ، جراحة ، إنسانيته التي أهدرت كثيراً بحماقات ومحاصصات إثنيه وفكريه وذبح طموحات ، أفعال خرقاء أصابته في مقتل ، تخشبت أحلامه علي رصيف المستحيل ، فلا أجنحه يحلق بها للمدي ولا بذور تغري حمامات ذاته لتصافح البسيطة أن يا أرضي أنتي فرضي.
تتحسس يده كل لحظة سكة خنجر إنتهك حرمة خاصرته المنهكة بعمق ، يتألم ولكن لا يتكلم ، يتأوه ، يتفوه سكاتاً وحيره فقد عرف تخثر اللغة المرهق جداُ لشفاه تيبست من طول صمت ، يعلق علي زرقة السماء التي تشبه حاله ، يعلق أمل الهطول ليغسل وحل السنوات القابع بداخله ، برقٌ .. رعدٌ .. ولا مطر.
:السحاب مالو كمان؟
(صابر ود المكي) يحدث نفسه طوال الوقت ، مابال السحاب أجند هو الآخر لرفع ثيرمومتر الحزن في ربوعي ؟ شموعي وضوءها الوجل يغرس دخاناً أسوداً في عميق شهيقي ، زفيري مكبلٌ بجدار الرئة المهترئة ، متوارٍ خلف خوفه من رحله مشبوهة وغير واضحة التراكيب عبر مسالك أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لا تمنح الأمان. يفضل زفيره الإنحباس عن الإنزلاق لجغرافية لا يمسك بخطوط كنتورها. قهوة أحمد الخير.. إنزوي صابر كطفل منهك القدمين من جراء محاولات فك طلاسم الخطوات الأولي في الحياة ، كوم نفسه علي طاوله منزوية علها تمنحه قسط إرتياح ليخلع علي بدنها وجعاً إئتزره لسنوات عجاف . : شاي يا أحمد لو سمحت.
08-28-2008, 11:34 PM
فاروق أبوحوه
فاروق أبوحوه
تاريخ التسجيل: 07-26-2008
مجموع المشاركات: 2242
الخطوط المتداخلة ، التموجات ، وأبعاد الرسومات علي الطاولة لا تلمس أي مكان فيه ، تحجر إحساسه بالأشياء ، فالنيل الذي كثيرا ما جسد علي جروفه أجمل لوحات عشقه مكللة بعبير شعره عميق المعاني ، وكم غازل موجه ونوارسه بحروفه أنيقة المقاطع ، وفرشاته دقيقة التصوير والتلوين كانت حضوراً طاغياً علي كل لوحة بهاء له ، لا تبخل أن ترسل الدهشة مطر بوح في كل الفصول ، كل هذا الإحتشاد صار لا يلمس خاطره بشئ ، فالفراشات لم تعد شبقة الإشتهاء لرحيقٍ أذاب جلدها وصبرها علي فراقه ، كل شئ (تعتمر) وتصحر عنده ، حتي زكرياته التي تحاول جذبه للخلف ركلها كلما همت بالإمساك بطرف طرف أفكاره ، خلعها ورمي بها في لا مبالاة ، ليس علي الأرض بل علي تفاصيلها التي ضاعت مع كل قطرة حزن نزلت عليها وعبثت بالألوان ، خلطتها ، أحمرها علي أخضرها ، أصفرها علي أزرقها ، ليضيع كل شئ .
: شوية سكر يازول ، مالو شاهيك دا مسيخ مالك قالولك ملدوغ ؟ عالم تجيب الضغط.
حياة متبلده الخطي ، فهذا محراب عشقه النيل وصل عنده لهذا الحد من الفتور فكيف حال باقي الزكريات ، الأشواق ، الناس ، الأحداق ، عطل عواطفه رمي كل شئ خلفه ، أغلق نوافذ الماضي الصدئة وكذا الأبواب ، ذبح كل خاطره تحاول سحبه للخلف ، بعثر أوراقاً بشتي الأحجام والمواضيع ، الخواطر والآهات ، أقلامه ، قصاصات بكل الألوان ، نفس سحابات الدخان التي دستها الشموع في أنفه يدسها الآن بين خرائط قصاصاته التي ترتجف من المآل المنتظر. إنه الحريق فبمن تستنجد؟ بالريح؟ هذا إبن عاق عصف بتفاصيل العلاقة الحميمة بينه ووريقات الشجر ، فكم غازلها في شبابها وعزف علي أطرافها أحلي سيمفونيات العمر الندي ، راقصها ، مرجحها ، مسح برفق هذا الدمع المتدفق علي جبينها ، هدهدها ربيعاً ، صيفاً وشتاء ، أغدقها ألحاناً ، أفراحاً وغناء ، وغداة إصفرارها رفع يده عن معزفه لينفلت مكنونه عصفاً أهوج يهوي بها بين الأشواك والحطام..
إنه الضياع إذاً ...
..
_ يتبع _
08-28-2008, 11:48 PM
فاروق أبوحوه
فاروق أبوحوه
تاريخ التسجيل: 07-26-2008
مجموع المشاركات: 2242
هذا أفضل ما يمكن أن يقال عنه (إن الأواني الفارغة أكثر ضجيج).
فليكن البرق ..
ولكنها تخاف من هذه الشعلة المنفلته من عود ثقاب رفيع الجسد في يدي ثائر غاضب فكيف لها إحتمال هذه الشحن المتكهربة ؟ وهل فيها من الجلد ما يجعلها تصبر لحمي الإشتعال البطئ؟ هي تبدو كالمستجير من الرمضاء بالنار .
لم يبق غير المطر إذاً..
ولكن حراره حارقه تسربت إلي جسدها المنهك ، لم تكن الشعلة الممتدة من يده ، بل كانت لسعة شمس الصيف القاسية ،
هنا أدركت ..
أن شهران يفصلانها عن المطر حتي ينطوي هذا الجمر.. حينها أغمضت سطورها واستسلمت لما بعد الدخان الذي بدأ يتعالي منها يسلب بياض قلبها ويحوله إلي سواد وجل ليبقي أعدامها بعود ثقاب واحد..
تحترق .. .. تحترق .. .. ويحترق.
: معليش يا حبوب الليل هود خلاص وعايزين نقفل القهوه ، باكر بي خيرو إنشاء الله
صوت أحمد الخير صاحب القهوه يبتر عليه إسترساله .
هكذا يبدو صابر ، يجئ ويروح ، نفس الطاولة ، شكل التكوم ، شريط الماضي ، إستغاثة قصاصات زكرياته ، وصوت أحمد صاحب القهوة ، يتكرر هذا المشهد يومياً.
يجر أرجله المنهكة بتعب الذي يسحب خلفه سنين عمره المهترئة ، أو كالذي يجر هذه الأرض بكل ما فيها ، يعبر الطريق الوحيد الذي يفضي به إلي حيث يموت يومياً ، عبر ممر ضيق يشبه اللحد في إمتداد رأسي ، يحشر نفسه بصعوبه تظهر في تصاعد أنفاسه ودقات قلبه المتسارعة ، وتظهر أكثر في إختزال وتكوير ما تبقي من جسده في هيكل طفل قليل التدفق .
عند بابه بيته يتكرر السؤال اليومي عند المغادرة والأياب.
: هسع الواطة الواسعة دي كلها حقي فيها المخروب دا بس؟ يحلني منك الحل بله يا مسنوح الحال.
ويسترسل في في مكنون المكان ..
أو ( ود اللحد) كما يصفه.
..
..
_ يتبع _
08-28-2008, 11:59 PM
فاروق أبوحوه
فاروق أبوحوه
تاريخ التسجيل: 07-26-2008
مجموع المشاركات: 2242
ويسترسل في في مكنون المكان. أو ( ود اللحد) كما يصفه.
يلج إليه في خطوات جنائزية .. طقس الغرفة .. أشلاء الأوراق المتناثرة .. الإنكماش الذي يكسو كل قطعة قماش داخلها .. الغبارالذي يسكن جسد الأشياء .. العبث يقيم بطمأنينه ليبدو كمن ولد هنا .
يرمي بباقي جسده الذي تآكل كثيراً بفعل السنون العصيبة . يغوص بنظره في السقف .. وزفيره الحارق لا يتجاوز سقف حلقه. ينفث إحتراق قلبه ودخان قصاصاته . يتجاوز حاله هربا من غصه تمسك بمنافذ الصوت هذا المتهدم الشائخ . يتقلب . يتثاءب..
..
..
ويغرق في نوم يمني نفسه أن يريح.
.
.
_ يتبع _
08-29-2008, 00:10 AM
فاروق أبوحوه
فاروق أبوحوه
تاريخ التسجيل: 07-26-2008
مجموع المشاركات: 2242
وعن تلك الطاوله التي تتحمل تكوره المرهق ، وتشاركه معاناته ، وتصبر لقبضة يده عندما يهوي بها عليها جراء ذكري مؤلمة ، ينحني صابر ليلتقط شيئاً متكوماً علي حافة الطريق ، طالت المسافة بين يده وبينه كأنها سنوات ، عقله يأخذه مداً وجذرا ، وآلاف الأسئلة تفتك به حيرةً ، أهي وسادة حلم عليها أحلاماً سعيده ولكن لم يتحقق منها شئ فرماها إلي غير رجعه ؟ أتكون ....؟ ربما .. .
فتحه بهدوء وترقب يظهر في رعشة يديه ، كان الجوال ( موكأ) بخيط رفيع أنهكته سياط الشمس المؤلمة ،... ألواح خشب !؟ نعم هجم عليها الغبار من كل منفذ وصوب ..
بعض الحروف تنام علي الألواح بغطائها في استغراق .. حرف ألف .. تحته لوح عليه بقايا خاء .. وأخر ياء.. و .. جثا صابر علي ركبتيه يرتبها فقد أحس بإلفه نحوها ، وربما ملامحها ليست بغريبة عليه .. رتبها ، أزال المتعلق بها .. و.. إندهاش ..
(قهوة أحمد الخير) ؟؟!!!!
: إلا دي بس ، كل شي اليروح .
حمل أشلاء ألواح لافتة القهوة علي ظهره ، يريد أن يوصلها إلي حيث راحه ، ولكن إلي أين ؟ لا يدري..
يدور مع الزمن كيفما أراد وعلي عاتقه ما ينوء بحمله . فعند زكري التي علي كتفه الآن رآها أول مره.
. .
ليلي ..
بقوامها الباني المديد. ووجها الطفولي المتفتح.
عيونها الساحرة تحتجز تحت هدبيها إحتياطي العالم من الدهشة. وماذا عن رموشها التي تحاكي مراجيح هواء تلفه متي ما أغمضت.
كانت بتفاصيل كل الفصول . خطواتها سحابات خريفية تنقاد للريح في إبطاءٍ مريح. لونها لوحةٌ ربيعية فاتنه ، يغازل لون عينين تشبهان أخر قطرة من مطر صافي. محياها وضوح شمس الصيف المتبرجة ولكن حضورها موسيقي جاز صاخبة تفتك بالسكون. رغم هدوئها تشعرك بالضجيج المريح.
ليلي ..
بكل تفاصيلها وطقسها الشتائي العاصف .
حولت التحدث إليه يومها ، باغتته بسؤالها:
: إنت أستاذ صابر ود المكي صحيح ؟؟
سؤال إنطلق من منصة شفاه كاملة الدسم.
ولكن صابر بتر ذلك السؤال بلجاجته التي ورثها..
: أنا صابر وما صابر ، وعشان صبري ما يكمل أنكشحي من قدامي.
أوقفت هذه الذكري التي يجتر تفاصيلها الآن حراك أقدام لا وجهة لها. ربما إستغراق في عتاب نفس علي رده القاسي علي ليلي يومها. ولكن أين هو من ذلك الآن.
مني علي الحسن أسعدني حضورك هنا مع إطلالة هذا الشهر المبارك جعلك الله من عتقائه. حكاية صابر ود المكي لا تعدو سوي تجسيد لبعض تفاصيل حياة الكثيرين ممن طحنتهم ظروف نعلمها تماما.شكرا جميلا وسأعود بلا محاله.وقد كان الأجدر أن أكتبها هنا كامله ولكن لأسباب شتي لجأت للتجزئه . ودي لك.
09-02-2008, 06:24 PM
فاروق أبوحوه
فاروق أبوحوه
تاريخ التسجيل: 07-26-2008
مجموع المشاركات: 2242
ذلك الممر الضيق تحول إلي براح واسع تناثرت علي أطرافه وردات وارقات ، هدوء لم يعهده من قبل ، أما تلك الغرفه القبر خرجت من شرنقتها بنايةً كاملة الطوابق تسر الناظرين ، إختلف سؤاله اليومي عند الباب هذه المرة ..
: هسع الدنيا دي كلها وبي سماحه دا شن طعمه وليلي ما فيها ؟؟..
: ألقاها وين ؟
: القهوه ؟ لكن خشبه ياهو دا فوق ضهري . ياربي تكون دخلت الجامعه.؟
: آآآآه زمن والله . زمن الزمن زين والشعر مغتي الإضنين. . .
نقر باب الغرفة التي تجمدت أرجلها في الطابق الأرضي كمن لا يعرف للسمو سبيل . نقر .. نقر ، إستدرك وحدته حيث لا أحد يشاركه الموت بها .. يدير المفتاح بهدوء . يفتح.. يستغرب !!..
كما هي لم يمتد إليها التغيير الذي شهده خارجاً ، نفس العبث والكآبة ، نفس السرير ، ولكن شخص ما يتمدد في طمأنينة واستسلام للنوم.. (المركوب) الذي أمامه هو له ، هو حذاءه الذي لاتقبل أرجله غيره حتي سمي ب (أبو مركوب ) أيام الجامعة ،
يسحب الملاءة بسرعة ، . تلجمه الدهشة .
من؟
. .
هو أبو مركوب نفسه ..
.
_ يتبع _
09-03-2008, 08:34 PM
فاروق أبوحوه
فاروق أبوحوه
تاريخ التسجيل: 07-26-2008
مجموع المشاركات: 2242
يصحو من حلم كل ما فيه جميل إلا أن ليلي لم تكن فيه. سخط . لعن. نهض . ضحك ضحكة لا تنقصها الهزيمة وخيبة الأمل بعد هذا الحلم المفرح المحزن. بحث في كل أركان (ود اللحد) عن اللافته . لم يجدها . سحب جسده المتهالك خارجاً ، إلي أين ؟
قهوة أحمد الخير ربما يجدها .
حمل مركوبه في يديه خارجاً .. يقفل الباب .. وهو يردد.
: والنيل طبق مركوبو .. ومرق للصحرا مدبِّي . وباب الروح متاكا انسربي. . : عاطف خيري حليلك وحليل أيام بنحفظ شعرك . باب الروح ذاته رااااح ، : تعال شوف البشتنه النحنا فيها دي. : دي حاجه مش تنحنح الجالوص . يمين دي تخلي الزول ملوص. . .
الله أكبر .. الله أكبر .. الصلاة خير من النوم.
وصلته مع الصدي الناقل والذي يركب هدوء الليل منسربا للبيوت ، تناهت إليه بعد عدة خطوات متبرجلة عبر (باب الجندب) كما يطلق علي ذلك الممرعلي قرارة باب المندب ،
كل محاولاته لم تفلح بعد في الركوب علي (سفينة نوح) كما يسمي مركوبه.
: والله لو ما قال الصلاة خير من النوم كنت قايلو أبوعركي يطراه الله بالخير .
ورجيت ..
أذن الآذان .. وحا نصليك .. يا صبح الخلاص حاضر ، . . : يلا الصباح رباح كدي الواحد يصلي وبعدين ليها ألف حلال .. . : ويوم بكره جميل.. ضواي ووسيم
. . _ يتبع _
09-05-2008, 08:31 PM
فاروق أبوحوه
فاروق أبوحوه
تاريخ التسجيل: 07-26-2008
مجموع المشاركات: 2242
ومن قال غير ذلك .. يبذر .. في رحم الحقيقة إبن عاق أفضل ما يقدمه من إحترام أبوته هو مقولته .. ( أفٍ أف ). . نعم فالوجه لا يقف بين مفترق طرقات شائكة الوجهات متداخلة التفاصيل طريق واحد يعرفه أن الشمس تشرق دوما كل يوم بعد ليل مكفهر الثياب فلا حجبات تقف بين سناها ومعانقة حضن الأرض المتطلع دوماً لساعد إبنها الخارج لتوه من رحم دياجر ليلٍ طويل الإعتلاء. فلا حجبات ولا يحزنون. . .
صديقي الجميل تاج السر المليك . كل سنه وأنت طيب . وحضورك يقويني. . .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة