|
Re: ما عارف أقول ليكم شنو (Re: ودقاسم)
|
لا أعرف كيف أصف تلك القرية أكثر من أنها قرية مهملة تقع بين النيلين ، بعيدة عن كليهما ، لكنها أقرب إلى النيل الأبيض منه إلى الأزرق . لم أتمكن من سبر أغوارها ، وما عرفت من أسرارها إلا ما ظهر منها ، فلم أجد الفرصة للغوص في بطون رمالها ، ولا تذوقت طعم المياه في عيونها ، ولا سبحت يوما بأنهارها . بل أنني لا أعرف إن كانت لها عيون وأنهار أم لا . لكن مخيلتي دائما ظلت تختزن لها صورة واحة جميلة خضراء . أذكر فيها طفولتي الباكرة ، لكن صباي لم يرتبط بها . أذكر خريف الواحة ، برقه وأمطاره ورعوده . أذكر خروج المواشي للمرعى وعودتها منه ممتلئة حليبا ولحما وشحما . أذكر مرح الأطفال ،وفرحة الكبار في مواسم الخريف والحصاد . أذكر أن جدتي كانت تتيح لي فرصة كبيرة في حضنها ، وأذكر أنها كانت تحرضني على قطف الأزهار ومطاردة الفراشات , والعصافير . لم تكن جدتي قاسية على طبيعة الواحة ، أو راغبة في تدمير البيئة ، لكن تحريضها ذاك كان يمثل حبها لي . كانت تحبني كثيرا فتفتح لي فرصة الدلال على الطبيعة والاستمتاع بها بلا حدود ، فيبدو ذلك وكأنه قسوة على الطبيعة ، لكن الطبيعة ما كانت تعبأ أبدا بقسوة جدتي الظاهرة نحوها ، فالأرض كانت معطاء ، والسماء كانت مدرارا ، والدنيا من حول جدتي وعشيرتها كلها كانت خضراء ، والحياة من حولنا لا يصيبها الضمور ولا الذبول ، وكأنها تلبس كل يوم حلة جديدة تباهي بجمالها حلة الأمس . الحياة هنا لا يحكمها أي قانون غير قانون الطبيعة . الماء ، والشجر، والظل ، والمرعى ، كلها عناصر أساسية ، تسجل حضورا دائما . نسمات الفجر لا تغيب أبدا ، ودائما يعقبها الضحى ، فالقيلولة ، ثم الأصيل ، ويجئ الليل بقمره المضيء أو ظلمته الدامسة لا محالة . لا لوائح تنظيمية هنا ، لا مكاتب ، لا دوائر حكومية . لا أنظمة مكتوبة ولا إجراءات ، إلا ما اختطته أعراف القبيلة ، وهي كائن يفيض بالحيوية والحكمة ، ويعشق الحرية والقناعة والرضا . الناس هنا يمارسون العمل كما يمارسون العبادة ، وكأن العمل أيضا شئ مقدس أو هو جزء مما فرضه الله عليهم . إيقاع الحياة في القرية منتظم ودقيق ، لا تتخلله اختراقات أو انحرافات . يصحو الناس من نومهم جميعا في لحظة واحدة ، وكأن مناديا يصرخ في آذانهم أن أصحو فقد أتاكم صبح جديد . الصلاة ، فالشاي بالحليب وعليه طبقة من السمن ، وفكة الريق ، والجمادة ( القشطة ) للأطفال . ومن ثم ينطلق الجميع إلى غيطهم ومزارعهم ومراعيهم . لا توجد دفاتر حضور وانصراف ، لكن لا يحدث غياب إلا في حالة المرض أو الوفاة ، ولا توجد مساحة للكسل والتراخي . ساعات العمل مرنة تحددها متطلبات كل موسم ، إضافة إلى حدة حرارة الشمس ، ومدى تقبل التربة الرطبة لحركة المعول وأرجل حامليه . في مخيلتي أصوات الصبية يلهون ويلعبون ، يرددون الأغاني والأهازيج ، ويدوسون على العشب الأخضر وهو لا يأبه بهم . يأخذون من الشمس ضوءها ودفئها ، وهي الأخرى لا تهتم ، فهم لا ينقصون من هذا الضوء أو ذاك الدفء شيئا . يستمتع الصبية بالوقوف تحت المطر ، يجمعون البرد ، فتمازحهم السماء وتصب عليهم المزيد منه . وأنا في كل ذلك لا يهمني إلا حضن جدتي الدفيء ، فكنت أكتفي بالمشاهدة وأمتنع عن المشاركة إلا بقدر ما تمنحني جدتي من تحريض . وقد ظلت جدتي تعتبرني طفلا يافعا لم يأت دوره في المشاركة بعد ، لكنها تعرف أن ذاك الدور لابد أن يأت . كانت جدتي تريد لي أن يقوى عودي لأنزل للمعترك وأنا بكامل قوتي ، أصارع أندادي فأصرعهم وأنتصر ، ويصرعونني فأحتمل الهزيمة . لكن أبي لم يشأ أن يترك خطة جدتي تسير إلى نهايتها فيتحقق لها ما تمنت . تمرد أبي على قانون القبيلة واصطحبني إلى الأستاذ ( إمام )، ناظر المدرسة في المدينة البعيدة ، حيث السوق واللواري والمباني البيضاء . فخضعت لسلطان الناظر إمام وعشت تحت قوانينه وسياطه التي لا تنقطع ولا ترحم ، حبيسا بين الجدران الكالحة بدلا عن ساحات اللعب الواسعة الخضراء . أذكر كيف بكيت في يومي ذاك بكل الحسرة ، وبكت جدتي ، وحزن أقراني ،وتبادلت مجالس الرجال والنساء أخباري ، إلا أن قلب أبي لم يلن ، فمشى ينفذ ما رأى دون أن يلتفت لدموعي أو دموع جدتي أو أحزان قريتي . وقد ظلت الجدة حزينة وباكية إلى يومنا هذا ، وأنا لا أعرف إن كنت حزينا أم سعيدا بما حدث ، لكنني أعلم أن السنوات التي مرت منذ ذلك اليوم وحتى هذه اللحظة سنوات قاحلة في حياتي ، وما زلت أحن لطفولتي وأرغب في إكمال ما نقص منها . لقد مللت اللوائح والأنظمة التي تحيط بي من كل جانب ، وأشعر بعذاب الضمير لمشاركتي في صياغة البعض منها . وأنا الآن أعد نفسي للعودة إلى أحضان الواحة ، لقانون الطبيعة ، وأعراف القبيلة ، لكنني لا أدري من أين أبدأ . هل أنطلق من حضن جدتي ؟ هل اقتنعت جدتي أنني تجاوزت الطفولة للصبا وجاء دوري لأنخرط وسط الصبية لاعبا ولاهيا ؟ إن كنت جادا في رغبتي للعودة فلابد من أن أبدا من النقطة التي انتهيت عندها ، وإلا سأكون قد حرقت المراحل وأسقطتها ، وذلك يتسبب لي في السقوط والانهيار . أنا الآن لا أعرف صبية القرية، ولا أعرف ألعابهم ، ولا أحفظ أغانيهم وأهازيجهم ، وسيكون حالي بينهم كرجل متصاب ، أو كصبي في شكل كهل . سيضحكون كثيرا وسيقولون – وربما بصوت مسموع – (طول النخلة وعقل السخلة ). وسأنفجر باكيا من شدة سخريتهم وأتضاءل وأصغر ، ثم أعود إلى حضن جدتي . لكن جدتي الآن عجوز هزل جسمها وضعف بصرها ، وسمعها ، وصارت لا تقوى على حمل كأس الماء دون مساعدة من أحد ، وأنا صرت رجلا ممتلئا لحما وشحما ، سمينا كعجل المزرعة ، وقد مرت سنوات طويلة حالت بيني وبين ذاك الحضن الآمن ، لكنني رغم هذا وذاك كنت دائما أجد نفسي في حاجة إلى ذلك الدفء الذي اعتدته في طفولتي .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-08-03, 01:23 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-09-03, 06:42 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | Raja | 06-09-03, 02:20 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | خضر حسين | 06-09-03, 08:27 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 06:54 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | lana mahdi | 06-10-03, 06:58 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 07:23 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | lana mahdi | 06-10-03, 07:31 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 08:01 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 08:01 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | lana mahdi | 06-10-03, 08:24 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 09:42 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ahmad almalik | 06-10-03, 11:10 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | قرشـــو | 06-10-03, 11:26 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 02:17 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 01:33 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | Alsawi | 06-10-03, 11:48 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 02:41 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ابو جهينة | 06-10-03, 02:58 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | abuguta | 06-10-03, 09:22 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-11-03, 07:47 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-11-03, 07:12 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-11-03, 09:44 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-11-03, 03:13 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | Tumadir | 06-11-03, 05:10 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | abuguta | 06-11-03, 05:28 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-12-03, 07:11 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-11-03, 09:29 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-13-03, 06:56 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | HOPELESS | 06-13-03, 07:02 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | أبكر آدم إسماعيل | 06-13-03, 07:54 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-13-03, 09:25 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-14-03, 08:11 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ابو جهينة | 06-14-03, 08:35 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-14-03, 10:37 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-14-03, 11:12 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-14-03, 04:21 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | أبكر آدم إسماعيل | 06-14-03, 08:25 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-15-03, 07:02 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | أبكر آدم إسماعيل | 06-15-03, 07:22 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-15-03, 08:52 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | أبكر آدم إسماعيل | 06-15-03, 10:15 PM |
|
|
|