|
ما عارف أقول ليكم شنو
|
عند بلوغي سن الخامسة والخمسين أفادتني دائرة العمل في مرفأ الاغتراب في خطاب مقتضب للغاية بلوغي سن التقاعد . وقد كان هذا قمة ما يحلم به المغترب من أبناء وطني ، أن يستمر في العمل في مغتربه حتى بلوغه هذه السن ، حيث يتأثر الكثير منهم ببرامج توطين الوظائف ، فيفقد وظيفته مبكرا لصالح أحد مواطني البلاد . ولا أحد يرى سبيلا للعودة إلى الوطن رغم الرغبة العارمة في هذه العودة والحنين المستمر لهذا الوطن . ذلك الخطاب الذي استلمته من دائرة الخدمة لا يتناسب أبدا والجهود التي ظللت أبذلها في عملي هنا طيلة خمس وعشرين سنة استسلمت فيها لكل ما تفرضه الغربة من أدبيات ، وقوانين وأعراف . لكن توقيت الخطاب جاء ليؤكد لي أنني ظللت مرغوبا بي طيلة الفترة حتى بلوغي هذه السن . بدأت رحلة العودة دون تردد بالرغم من كل المحاذير التي منعتني من هذه العودة طيلة هذه السنوات التي مرت والتي تمثل ما يقارب نصف عمري . يساورني شعور غريب جعلني أضع في حساباتي أن هذا العود ليس بأحمد ، لكن الاستمرار في الاغتراب بعد هذه السن ، وبعد هذا الكم من السنوات كان يمثل لي مشروع موت بطيء لا أحتمله وأقل ما فيه أنه يقلل من قيمة الإنسان بصفة مستمرة ، ويمنحك عوائد مادية ضعيفة ، وربما هزيلة ، وقد ينتهي بك الأمر إلى اللجوء لسفارة بلادك ، أو الاستنجاد بالجمعيات التي يقيمها السودانيون في مغتربهم . الخرطوم كانت البداية ، حيث ضمني أنا وزوجتي وأولادي منزل من طابقين ، امتلكنا أرضه وبنيناه من عرق وهموم الغربة . رغم صغره إلا أنه كان منزلا جميلا ومريحا طالما أنت جالس في داخله ، حيث أعددناه لمثل هذا اليوم وشرعنا في تأثيثه منذ عدة سنوات ، كلما حانت عطلة جئنا نحمل إليه جزءا من متاع . وإذا خرجت من بوابته فأنت مرغم على العيش في الوضع العام ، جوا ، ومجتمعا ، هذا الجو وهذا المجتمع اللذان ظللنا نحلم بمعايشتهما والانتماء إليهما ، لكنهما ظلا يخذلاننا دائما . نزلنا لنستقر في بيتنا ، لكننا ما كنا نعرف إلا القليل عن جيراننا وسكان الحي ، فلا أنا ولا زوجتي ننتمي إلى الحي ، لا عرقيا ، ولا جغرافيا ، ولا تاريخيا . والجيران لم يختلطوا بنا خلال إجازاتنا المحدودة التي كنا نقضيها في منزلنا هذا ، فلم يكن لدينا الوقت الكافي لهذا الاختلاط ويبدو أنهم كانوا يتهيبون الاختلاط معنا باعتبار أننا قوم لا محالة راحلون . أولادنا الستة كلهم كبروا ، وتخرجوا من الجامعات ما عدا أصغرهم الذي مازال يدرس في إحدى كليات الزراعة رغبة منه في تشغيل المزرعة التي أمتلكها في أطراف الخرطوم ، والتي ظللت أدفع تكلفة حراستها لسنوات عديدة بالرغم من أنها كانت تتعرض للسرقة باستمرار وهي تحت هذه الحراسة . وقد تحملنا تكاليف باهظة لتعليم أولادنا في الجامعات السودانية التي فرضت عليها وزارة التعليم العالي الاعتماد على مواردها الذاتية ، وأعانتها على أن تقتطع من الدرجات التي حصل عليها أبناء المغتربين لتضعفها وتخرجها من المنافسة فيلجأ آباؤهم لما أطلق عليه القبول الخاص ، أي الدراسة على حسابهم بمصاريف تحددها كل جامعة بمفردها . لكن الأولاد حتى بعد تخرجهم لم يكونوا يستطيعون الاعتماد على أنفسهم . وقد رفضنا أنا وأمهم تركهم لتجربة الغربة ومعاناتها خاصة وأن عوائد الغربة ما عادت مجدية لمثل هؤلاء الشباب . الخرطوم تغيرت وتبدلت كثيرا ، يزداد فيها عدد السكان باستمرار، وتتضاءل الخدمات ، وتضيق بهم الشوارع ، وتمتد الأحياء السكنية امتدادا أفقيا بلا حدود . البلاد كلها تتآكل ، والحكومة تأخذ ولا تعطي . تشعر أن الغالبية العظمى من الناس يعيشون على الهامش ، وهو هامش ضيق يدفع الكثيرين إلى الكذب والنفاق والتسول والسرقة والرذيلة . أعرف أن البدائل أمامي محدودة للغاية ، خاصة وأنه منذ فترة ليست بالقصيرة لم تعد الحياة بالخرطوم تعجبني . ظللت أراقبها وأنا أزورها في عطلاتي السنوية وأمكث فيها الجزء الأكبر من تلك العطلات ، فلا هي تمثل مدينة مريحة تتوفر فيها الخدمات والرفاهية ، ولا هي بالقرية التي تمنحك الهدوء والسكينة . الحصيلة المادية للغربة لم تكن كبيرة كما كنا نتوقع ونحلم ، إلا أنها أيضا لم تكن ضعيفة . فقد تمكنت من توفير مبلغ لا بأس به من المال إضافة للممتلكات الثابتة . فلم يكن المال هما من همومي ، لكن استثمار ما توفر لدي كان هو الهم الأكبر . فلا أعرف بالضبط ماذا سأفعل بهذا المبلغ وبهذه الممتلكات ، كيف سأنميها ؟ هل سأتركها تتآكل وتتناقص ؟ أم أضعها في البنك في حساب للاستثمار وأعيش من عوائدها ؟ ومن المؤسف أنني بالرغم من سنوات الغربة الطويلة الصارمة ، لم أكن أحمل خطة عمل للفترة القادمة ، حيث أنني بالرغم من محاولاتي المستميتة لوضع خطة ما ، فقد توصلت فقط إلى إقناع نفسي بسعة الصدر لقبول الفشل في وضع هذه الخطة ، مثلي في ذلك مثل كل أبناء بلادي المغتربين ، لا يجدون أرضية صلبة ثابتة يمكنهم بناء خططهم عليها ، ومن يجازف ويضع خطة على الأرضية الهشة المتوفرة فإنه سرعان ما يداهمه فشل المشروع نظرا لأن ما هو منظور يعد أقل كثيرا من غير المنظور ، وهذا يجعل الانهيار أمرا حتميا يصبح معه حصاد الغربة كقبض الريح . ما كنت أستطيع أن أقضي أسبوعا بأكمله في منزلي بالخرطوم حين عودتي لقضاء الإجازة السنوية دون أن أشد الرحال إلى أهلي في مسقط رأسي ، رغما عن قرب المسافة إلا أن السفر فيه مشقة وقسوة ، غير أنني أستعذب ذلك واستمتع به . حتى أولادي كان يعجبهم ويشدهم ذلك المشوار وذلك الجو الريفي الهادئ . كنت أنطلق وحدي أو برفقة أولادي عبر طريق النيل الأبيض المتجه نحو مدينة ربك ، لكننا ندلف يسارا لنتجه نحو بدايات الجزيرة من جهتها الغربية في طريق زراعي متعرج وغير معبد ، فيطول الطريق أكثر من حساب الكيلومترات ويزداد طوله كلما دخل فصل الخريف . هذه المرة بقيت في الخرطوم فترة طويلة باعتبار أن عودتي هذه المرة مختلفة عن سابقاتها ، فأنا أعود عودة نهائية من غربة طويلة ، وأحتاج إلى أن أرتب الكثير من الأمور الخاصة ببيتي وأولادي ، خاصة وأن البيت كان – نظرا لبعدنا عنه – في حاجة إلى بعض الصيانة ، وكذلك السيارة البيجو التي امتلكتها ورضيت بها سيارة دائمة لي ولأسرتي نظرا لاتساعها ومقدرتها على التحمل . ابني الأصغر أيضا كان لابد من تجديد تسجيله بالكلية وإفادة الكلية بأننا لم نعد مغتربين ، كما أن أولادي الكبار كانوا أيضا بحاجة إلى العديد من الترتيبات ليتمكنوا من الدخول إلى الحياة الواسعة في بلد لا تتوفر فيها الوظائف لكل مواطنيها ، وإذا توفرت فإنها لا تمنحهم ما يكفي معيشتهم . والمزرعة أيضا تنتظر مني زيارة ، وربما صيانة ، وبعض الأمور الإدارية الأخرى المتعلقة بالحارس والعمال الآخرين . زارني بعض اخوتي وأقاربي في منزلي ، لكني رغم هذا وذاك ظللت مشغول البال تقلقني رغبتي في زيارة أهلي ولقائهم ، وأعرف مدى حساسيتهم تجاه بعدي عنهم ، خاصة وأنهم دائما يعتبرون زوجتي سببا لهذا البعد ، إذ أن أهلها أصلا من الخرطوم ، وكأنها - في نظرهم - هي التي جعلتني وحقيقة الأمر كانت زياراتي لهم كلها عبارة عن زيارة ضيف لا أكثر ولا أقل ، إلا أنهم كانوا يتقبلونها على كل حال ويودون زوجتي وأولادي ودا ظاهرا وباطنا . أبني بيتا هناك لأعيش فيه بعيدا عنهم . وحقيقة الأمر كانت زياراتي لهم كلها عبارة عن زيارة ضيف لا أكثر ولا أقل ، إلا أنهم كانوا يتقبلونها على كل حال ويوادون زوجتي وأولادي ودا ظاهرا وباطنا .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-08-03, 01:23 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-09-03, 06:42 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | Raja | 06-09-03, 02:20 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | خضر حسين | 06-09-03, 08:27 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 06:54 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | lana mahdi | 06-10-03, 06:58 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 07:23 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | lana mahdi | 06-10-03, 07:31 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 08:01 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 08:01 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | lana mahdi | 06-10-03, 08:24 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 09:42 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ahmad almalik | 06-10-03, 11:10 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | قرشـــو | 06-10-03, 11:26 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 02:17 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 01:33 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | Alsawi | 06-10-03, 11:48 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-10-03, 02:41 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ابو جهينة | 06-10-03, 02:58 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | abuguta | 06-10-03, 09:22 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-11-03, 07:47 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-11-03, 07:12 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-11-03, 09:44 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-11-03, 03:13 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | Tumadir | 06-11-03, 05:10 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | abuguta | 06-11-03, 05:28 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-12-03, 07:11 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-11-03, 09:29 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-13-03, 06:56 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | HOPELESS | 06-13-03, 07:02 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | أبكر آدم إسماعيل | 06-13-03, 07:54 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-13-03, 09:25 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-14-03, 08:11 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ابو جهينة | 06-14-03, 08:35 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-14-03, 10:37 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-14-03, 11:12 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-14-03, 04:21 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | أبكر آدم إسماعيل | 06-14-03, 08:25 PM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-15-03, 07:02 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | أبكر آدم إسماعيل | 06-15-03, 07:22 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | ودقاسم | 06-15-03, 08:52 AM |
Re: ما عارف أقول ليكم شنو | أبكر آدم إسماعيل | 06-15-03, 10:15 PM |
|
|
|