الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-13-2024, 05:11 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-23-2008, 10:59 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 37159

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار (Re: adil amin)

    الحكاية الثالثة
    أم حسين
    أم حسين شخصية متميزة في بلدتنا. لم يحدث لها أن غابت عن دكّـتها القائمة على ناصية الشارع العام قرب السوق الكبير وبجوارها قدر الباقلاء يتصاعد منه البخار. ولا أعلم متى اتخذت أم حسين موضعها على تلك الدكّة. اعتدت أن أشاهدها في ذلك المكان منذ كنت طفلاً صغيراً. وكانت رائحة الباقلاء تفعم أنفي كلما مررت بها فتتثاقل خطاي فيضطر أبي إلى أن يجرني جرّاً. وكان يرفض شراء صحن لي إلا إذا لعلع صوتي بالبكاء. وحينئذ يلعن الشيطان ويغمغم وهو يناولني الفلوس: "لا أدري لماذا تحب هذه الباقلاء الوسخة!". لكنني لم أكن أجدها وسخة. كنت أقبل عليها في نهم وألتهمها التهاما بينما تراقبني أم حسين وهي تردد ووجهها يتهلل بشراً: "كل يا ابني.. كل .. محروس بالحسن والحسين".
    كانت أم حسين تعتبرني زبوناً مفضلاً. كانت تملأ لي الصحن حتى يفيض على جوانبه. وكثيراً ما نادتني وأنا أجتازها وحيداً وعيناي مسمرتان في حسرة بقدر الباقلاء. وتلحف عليّ بالنداء حتى أستجيب لها فتدفع لي صحناً مليئاً بالباقلاء وهي تقول بحنوّ: "كل يا ابني.. كل.. محروس بالحسن والحسين". كانت تلك المعاملة الخاصة تدهشني وتثير مخاوفي. واحترت في تعليلها. وكثيراً ما قلّبت الأمر على وجوهه وأنا لائذ في فراشي ليلاً فطفح قلبي ريبة وخوفاً. وخطر لي مراراً أن أم حسين تضمر لي شراً. لعلها تنوي أن تخطفني يوما وتبيعني إلى الكاولية أو شكاكي البطون . وكانت هذه الخيالات ترعبني فأدفن راسي تحت الغطاء وجسمي يرتعد فرقا . وكنت أقسم بالبراءة التي تكسر الظهر ألاّ أستجيب إلى ندائها مرة أخرى . و ما أن يصبح الصباح حتى أنسى قسمي وأنساق إليها بإغراء الباقلاء . ثم انجلى لي ذات يوم سر محبة أم حسين لي . كنت ماضيا إلى السوق الكبير فشاهدت صبياً في سني يلعب بجوارها وهي مقبلة عليه في حنوّ ووجهها يترقرق بشرا. انتابتني غيرة حادة والتقطت حجراً لأقذف به الصبي فلمحتني تلك اللحظة ونادتني: تعال يا ولدي.. تعال.
    دنوت منها فالتفتت إلى الصبي قائلة: "ألا تريد أن تلعب مع هذا الولد العاقل يا حسّوني؟".
    منذ ذلك اليوم انعقدت أواصر الصداقة بيني وبين حسين. كانت صداقة عامرة بصحون الباقلاء المرشوشة بـ "البطنج" والحامض. وكنا نلعب بجوار الدّكة دون أن ننحدر إلى الشارع، فأم حسين ترتجف رعباً من السيارات والعربات.
    نمت صداقتنا أنا وحسين بتوالي الشهور والأعوام. وانتظمنا في المدرسة وارتقينا في مدارجها معاً. وكنا نتنافس على "الأولوية" من دون أن يثير ذلك غيّرتنا. كنا صديقين حميمين. وكان يدهشني حب حسين لأمه. وكثيراً ما تجادلنا فيمن يحب أمه أكثر من الآخر ففاز عليّ بالجدل. كان يواجهني ببراهين داحضة. وقد سألني مرة: "هل ترمي نفسك في الشط إذا طلبت منك أمك ذلك؟" ولما لم أكن أحسن السباحة قلت له: "لا، لن أفعل لأنني سأغرق". فهز رأسه تيهاً وقال: "أنا أفعل ذلك". فلم أعد إلى مجادلته في الموضوع. وكانت أمه مولعة به ولعاً عظيماً. وكلما عدنا من المدرسة استقبلته بلهفة وكأنه كان غائباً عنها من وقت طويل! وحين تخاطبه تستحيل إلى شعلة تتوهج رقة وحناناً وحباً. كنت أحسده في أعماقي على حب أمه. وتمنيت لو كنت وحيد أمي لتحبني كما تحب أم حسين ابنها.
    ترعرع حسين وتقدم العمر بأم حسين، وأطلّت الشعرات البيض من تحت عصابتها السوداء. وحفّـت التجاعيد بعينيها السوداوين الجميلتين، لكن وجهها احتفظ بصباحته. واشتد ولهها بحسين وهو يرقى من صف إلى آخر. وصمم حسين على الانقطاع عن الدراسة حالما يفوز بشهادة البكالوريا. ولم تنجح مساعي معلميه في إقناعه بمواصلة الدراسة. كان يردد: "آن لأمي أن تستريح، وآن لي أن أقوم بإعالتها".
    وذات يوم غابت أم حسين عن دكّتها المعهودة. كان ذلك إيذاناً باستلام حسين لمرتّبه الأول. ولما مررت بالدكّة ذلك اليوم هاجمني شعور بالأسى. تراءى لي أن تغييرا محزناً قد طرأ على المكان. لم يعد زاخراً بالحيوية كسابق عهده.
    انقضت شهور صارت أثناءها حياة أم حسين أعياداً موصولة. ثم اغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا فجثمت الكآبة على صدور الناس جميعاً. ولم أعد أرى (حسين) وأمه إلا لماما.
    وبينما كنت أتناول غدائي يوما إذا بالطرقات المحمومة تنهمر على بابنا . وما أن فُتح حتى اندفعت أم حسين وهي زائغة البصر منكوشة الشعر، وهمهمت بصوت مبحوح: أخذوا ابني.. أخذوا حسّوني. بصّروني.. ماذا أفعل؟
    هتفت مذعوراً: هل اعتقلوا (حسين) ؟
    وصفقت أمي كفاً بكف وصاحت متوجعة: الله يساعدك يا أم حسين.
    همهمت أم حسين بصوتها الملتاع وعيناها تدوران في محجريها بضياع: أخذوه .. أخذوا حسّوني، بصّروني، لمن أشتكي؟ أين أولّي وجهي؟
    لبثت معقود اللسان وقد سحقني الألم، ولم أدرِ كيف أهوّن من مصيبتها. غمغمت في يأس: هؤلاء البرابرة الطغاة لا ينفع معهم شفيع يا خالة.
    قالت أمي بلهجتها المتوجعة: الله ينتقم من الظلمة. اعتمدي على رحمة الله يا أم حسين فهو أرحم الراحمين.
    قالت أم حسين بصوتها المبحوح: إنهم لا يعرفون الله يا "دادة" .. سيقتلون ولدي كما قتلوا خضير بن عبد العباس الخباز.. سيقتلون ابني حسّوني .. ابني حسّوني الذي سقيته ماء عيوني.. بصّروني.. لمن أشتكي؟‍‍.
    وانطلقت تخمش خدها وتلطم وجهها. فقلت مترفقاً: اذهبي إليهم في البيت فوق التل وطالبيهم به يا خالتي أم حسين.
    قالت بصوتها المبحوح وهي تهرع إلى الباب: سأنتزع منهم ولدي حتى لو ظللت أطالبهم به كل ساعات الليل والنهار.
    كان البرابرة الطغاة يتربصون بنا في الميادين وعلى نواصي الشوارع وفي مفترقات الأزقة والطرق . وكانوا يحملون البنادق ويسددونها إلى صدورنا. وألف أبناء بلدتنا مشاهدة أم حسين واقفة ساعات أمام البرابرة وهي تصرخ مطالبة بابنها. لكن البرابرة الطغاة كانوا يخزرونها بتعال وكأن الأمر لا يعنيهم. فإذا سئموا صراخها نهروها بغلظة ودفعوها بعيداً. وكثيراً ما تدحرجت على الأرض وسقطت عنها عباءتها. غير أنها كانت تنهض مسرعة وتلتف بعباءتها وتستأنف صراخها من جديد.
    وقال الحاج رخيّص الهبش يوماً لجاره رزوّقي الروّاف: ما ذا فعل بنا هؤلاء البرابرة الطغاة يا أبو عباس؟ كيف أمكنهم أن يخنّثونا إلى هذا الحد؟ نحن نرى أم حسين تتدحرج على الأرض بركلة من أقدامهم فنغض أبصارنا وكأننا لم نر شيئاً.
    فرد عليه رزّوقي الرواف وجلا: اخفض صوتك يا أبا محمود فنحن أصبحنا صماً بكماً لا نرى ولا نسمع.
    واعتاد أبناء بلدتنا أن يغضّوا الطرف كلما وقعت أبصارهم على أم حسين. غدا شعرها المنسدل من تحت عصابتها السوداء ذا لون فضي، وتخدّد وجهها بتجاعيد عميقة. وكان حكماء بلدتنا يغّيرون طريقهم إذا لمحوها من بعيد. ولم أكن أنا أجسر على النظر في وجهها.
    جرب البرابرة الطغاة أن يزرعوا اليأس في قلبها فلم يفلحوا. زادتها الأيام تشبثاً وإصراراً. ورابطت كل ليلة بجوار البيت فوق التل. وحينما تنبعث صرخات المعذبين من أعماق البيت يلعلع صراخها الغاضب ممزقاً سكون الليل. وتحمل الريح صراخها إلى أقصى البلدة فيهيج الشجن في قلوب العوام ويزعج الأعيان.
    وتكرر هذا المشهد ليلة بعد ليلة. وكان أبناء بلدتنا يسهرون مترقبين صراخ أم حسين. وكثيراً ما تساءلوا بعجب متى تستريح، فهي تلازم موضعها بجوار التل حتى الصباح، ثم تستأنف مواجهتها للبرابرة أثناء النهار.
    واحتار البرابرة الطغاة ماذا يصنعون بأم حسين. صارت مشكلة لا حل لها. كانت مصممة على انتزاع ابنها من براثنهم.

    ضاق البرابرة الطغاة ذرعاً أخيراً بأم حسين فأمروها يوماً أن تلزم دارها ليلا وتنتظر ابنها . وأمضت أم حسين تلك الليلة وراء باب الدار. توقعت في كل لحظة أن يفتح الباب ويهلّ عليها حسين بقامته المديدة وطلعته البهية. ولم تكن وحدها تترقب عودة حسين. كان النبأ قد شاع في بلدتنا فسهر أبناؤها جميعاً في انتظار عودة حسين.
    وعند منتصف الليل توالى الطرق على باب منزلها. وما أن فتحته حتى هتف أحد البرابرة: خذي ابنك وحذار أن تتفوهي بكلمة واحدة.
    ثم تولّى مسرعاً وغاب شبحه في ظلمة الليل. بحثت عينا أم حسين بلهفة عن ابنها، ثم استقرتا عليه وهو مكوّم بجوار الباب. ألقت بنفسها عليه وقد فاضت عيناها بالدمع وراحت تردد وكأنها تهذي: "ولدي حسّوني .. روحي حسّوني". وضمته إلى صدرها وأمطرته بقبلاتها المحمومة، لكنها سرعان ما ارتدت عنه مرتاعة وهي تطلق صراخاً مدويّاً: ماذا فعل بك البرابرة يا حسّوني ؟".
    انفتحت أبواب البيوت على مصارعها، وهرع أبناء بلدتنا يستطلعون الخبر. وكنت أول من وصل إلى منزل أم حسين، وما أن وقعت عيني على حسين حتى صرخت: إنه محطم الوجه.
    وصاح الحاج رخيّص الهبش: إنه مهشم الذراعين.
    وهتف محمد علي الخياط: إنه مسحوق الساقين.
    واختلطت أصواتنا الغاضبة. وراحت أم حسين تصرخ كاللبوة الجريحة : ماذا فعلتم بولدي يا أسفل خلق الله ؟ سيحرقكم الله بنار جهنم وسيحاسبكم حسابا عسيرا .. يا كفرة .. يا ظلمة .. يا ملعونين . وتعاونا جميعا على سحب أم حسين إلى داخل الدار وصراخها المفجع يروّع الأسماع بشجنه .

                  

العنوان الكاتب Date
الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:16 PM
  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:18 PM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:20 PM
      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:22 PM
        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:57 PM
          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-23-08, 10:59 AM
  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-24-08, 09:46 AM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-27-08, 12:15 PM
      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-28-08, 11:51 AM
        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-30-08, 12:29 PM
          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin05-02-08, 02:14 PM
            Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin05-05-08, 11:41 AM
              Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin05-12-08, 12:16 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de