|
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار (Re: adil amin)
|
الحكاية العاشرة الانتظار المر
صرت أتمنى أن يقتادني البرابرة الطغاة إلى البيت فوق التلّ. فقد اقتادوا جميع أصدقائي وبقيت وحيداً. وأقلقني وسواسي الجديد وأقضّ مضجعي. وتعاظم ضيقي حينما أخذ أبناء بلدتنا يخزرونني باستنكار. وبت أقرأ في عيونهم سؤالاً يفيض بالاحتقار: "لماذا تركك البرابرة حرّاً طليقاً من دون سائر شبان البلدة الشجعان ؟" ومرة سمعت رجلين من أبناء بلدتنا يتحدثان ورائي قائلين:"اعتقل البرابرة الطغاة جميع شبان بلدتنا الشجعان وبقي الجبناء منهم". فشعرت بسياط الخزي تلهب ظهري. ومرة أخرى كنت منزوياً في قهوة الشمس وحيداً بعد أن فارقني جميع أصدقائي. فلقد قُتل منهم من قُتل، واعتقل الباقون في البيت فوق التلّ. وسمعت اثنين من أبناء بلدتنا يتحادثان:"إذا كان البرابرة الطغاة يعتقلون الفتيات، فكيف يتركون بعض الشبان؟" فأدركت أن هذا التساؤل موّجه إليّ. ونهضت مقهوراً وغادرت المقهى خافض الرأس. وتعثرت بمقعد وكدت أسقط على وجهي. ومنذ ذلك اليوم طأطأت رأسي وكففت عن النظر في وجوه أبناء بلدتنا. وكلّما توالت الأيام اشتدّ حالي سوءاً وأحسست كأنني حبيس سجن كبير. كنت أشعر كلما اخترقت الشارع العام والسوق الكبير أن مئات العيون تتفحص وجهي بعجب واستنكار. وكان ذلك يرسل الدماء لاهبة إلى رأسي فينضح جسدي بعرق بارد. وصرت تواقا من أعماق قلبي إلى أن يحلّ اليوم الذي يقتادني فيه البرابرة الطغاة إلى البيت فوق التلّ. وأخيرا حزمت أمري على القيام بعمل يلفت انتباههم إليّ. وخرجت إلى الشارع وأنا مصممّ على إهانة أول فرد منهم أصادفه في الطريق. كان الوقت صباحاً والشارع العام مكتظاً بأبناء بلدتنا. وكانوا يتسكعون في سيرهم ورؤوسهم منكّسة إلى الأرض. وكانوا يتبادلون الكلام همساً. لمحت أحد البرابرة يقف في تقاطع الشارع الرئيسي مع السوق الكبير وبندقيته معلقة بإهمال على كتفه. فتقدّمت منه وصفعته على وجهه بقوة، فانتبه مذعوراً وزمجر: ماذا ؟ أتصفعني ؟ فقلت بصرامة: نعم أصفعك لأنك تهمل واجبك فلا تحمل البندقية بحذر. رمقني في ارتياب لحظة، ثم وقف استعداداً ورفع يده بالتحية العسكرية وهو يتمتم: أمرك يا سيدي. والتقط بندقيته وصوّبها بدّقة إلى صدور أبناء بلدتنا. فصعقت وشعرت كأن الأرض تميد بي ولم أدرِ ماذا أفعل. وكان أبناء بلدتنا قد وقفوا بعيداً يتطلّعون إليّ في دهشة واستنكار. وتمنيت لو تنشقّ بي الأرض وتبتلعني. ولمّا استأنفت سيري فسحوا لي الطريق في اشمئزاز كأني حيوان أجرب يحاذرون عدواه. ولم تكن نظرات الاحتقار في عيونهم هذه المرة من صنع خيالي. بدا اتهامهم لي بالعمالة واضحاً صريحاً. وكنا دائما نشك بوجود عملاء بيننا . عدت إلى منزلي وأنا مصممّ على الاعتكاف فيه. كان أبناء بلدتنا في حاجة إلى تفسير لحريتي وقد حصلوا عليه! وتلاشت البقية الباقية من جرأتي فلم يعد بقدرتي مواجهة نظراتهم القاسية. وقلت لنفسي: "ما دام البرابرة الطغاة يأبون اعتقالي فسأعتقل نفسي في بيتي". ورحّب أهلي بقراري ولم يدركوا دوافعه. وسُرّ أبي سرورا عظيماً فقد كان يخشى أن يتصدّى لي البرابرة ويقتادوني إلى البيت فوق التل. وقالت أمي بفرح وهي تصغي إلى قراري:"الحمد لك والشكر لك يا إلهي". ثم نهضت وصلّت ركعتين. وصار قراري هذا نقطة تحوّل في حياتها منذ اغتصب البرابرة بلدتنا. فقد شاع الاطمئنان في قلبها وخفّ رعبها الفظيع. وكانت قد أمضت فترة عصيبة طوال الشهور الماضية. كانت تتخيّل في كل لحظة أن البرابرة قادمون لاقتيادي إلى البيت فوق التل. وكلما عدت من عملي هرعت إليّ تجسّ أعضائي وتفحّص وجهي وتمطرني بالأسئلة اللجوج. وكان هوسها يبلغ أشده أثناء الليل حين تبدأ غارات البرابرة على البيوت المروّعة. فكانت تهرع إلى الباب كلما رنّ الجرس رنيناً قويا وهي مبهورة الأنفاس شاحبة الوجه وتصغي إلى ما يدور وراءها من حوار. وإذا تناهت إلى سمعها ضجة في الزقاق امتقع وجهها وارتجفت أطرافها وأيقنت بأن البرابرة قادمون لاعتقالي. وكثيراً ما هجرت فراشها وأمضت الساعات ملتصقة بالباب وهي مرهفة السمع إلى الأصوات في الخارج. ولم يكن يهدأ بالها حتى تدق الساعة الكبيرة معلنة انتصاف الليل. وحينئذ تلوذ بفراشها وقد أنهكها الترقب وأعياها الخوف. وكنت أحسب أن سجني الاختياري سينقذني من أحاسيسي المعذّبة . لكنني أدركت بعد حين أنني مخطئ في ظنّي. فإذا كنت هربت من نظرات أبناء بلدتنا فقد عجزت عن الهرب من نفسي. وشغلني التفكير ليل نهار بأصدقائي القتلى وبأولئك الذين يعذّبون في البيت فوق التلّ. وكنت أقارن وضعي بوضعهم فتفيض جوانحي بالمرارة والأسى. وذات عصر حزمت أمري على قرار فخرجت إلى الميدان الرئيسي المكتظ بأبناء بلدتنا. وعلى مرأى من الجميع ألصقت ورقة كبيرة على جدار البلدية. وكنت قد كتبت فيها بخطّ واضح نداء إلى أبناء بلدتنا قلت فيه: " يا أبناء بلدتنا. أما يكفيكم ما لقيتم من تعسّف البرابرة الطغاة؟! لقد أذلّونا وداسوا كرامتنا وقتلوا إخوتنا وجوّعونا ونحن سكوت خائفون وجلون. أفنأمل أن يكفّوا عن غيّهم من تلقاء أنفسهم؟ أفنأمل أن ترقّ قلوبهم لنا؟ هيهات أن يعطف البرابرة الطغاة على العوام . إن البرابرة الطغاة لا يعرفون سوى منطق القوة. أفتحسبون أن جبننا يفيدنا شيئاً؟ أنتم مخطئون، فتخاذلنا لن يزيدهم إلا تعسفاً وتماديا في التسلط. يا أبناء بلدتنا. إن سبيلنا الوحيد لاستعادة حريتنا وحقوقنا وكرامتنا هو التكاتف. فلنهب هبّة رجل واحد ونصمد للبنادق فإما أن نسحق البرابرة الطغاة أو أن نموت بشرف وفخار". تدافع أبناء بلدتنا يزحم بعضهم بعضاً أمام جدار البلدية يقرؤون ندائي في اهتمام. وكانت أنظارهم ترتدّ إلى وجهي فيّاضة بالإعجاب. وبادلتهم النظر لأول مرة بزهو وفخار. وعدت إلى منزلي أسير وأنا مرفوع الرأس منصوب القامة . ها قد حلت الساعة الثانية عشرة ليلا وإذا بالطرقات اللجوج تنهال على باب منزلنا كما توقعت . فقد جاؤا أخيرا ليقتادوني إلى البيت فوق التل . انتهت
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 04-22-08, 02:16 PM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 04-22-08, 02:18 PM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 04-22-08, 02:20 PM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 04-22-08, 02:22 PM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 04-22-08, 02:57 PM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 04-23-08, 10:59 AM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 04-24-08, 09:46 AM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 04-27-08, 12:15 PM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 04-28-08, 11:51 AM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 04-30-08, 12:29 PM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 05-02-08, 02:14 PM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 05-05-08, 11:41 AM |
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار | adil amin | 05-12-08, 12:16 PM |
|
|
|