الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-13-2024, 09:14 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-05-2008, 11:41 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 37159

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار (Re: adil amin)

    الحكاية التاسعة
    الاحتفال
    من الذي ابتكر فكرة الاحتفال؟ لا أحد يدري بالضبط. قيل إن الفكرة من ابتكار البرابرة الطغاة وقيل إنها من ابتكار الأعيان. وقيل هي من ابتكار حكماء بلدتنا. وحينما سمعت أهل السوق يناقشون الفكرة صُعْقِت ولم أصدّق سمعي.
    ولست أزعم أن أهل السوق جميعاً أيّدوا الفكرة، لكن معارضيها لاذوا بالصمت. ولم يخرج على الإجماع إلا عبد الرحيم بن شمخي الدلال الذي وقف في وسط السوق وهتف مغضباً: ماذا دهاكم يا أبناء بلدتنا؟! كيف تحتفلون بمرور عام على اغتصاب البرابرة الطغاة لبلدتنا وقد قتلوا إخوانكم وعذبوا أبناءكم وانتهكوا أعراضكم؟ أنسيتم ماذا فعلوا بشهاب ملّوكي وزوجته؟ أنسيتم ماذا فعلوا بحسين أبن أمّ حسين؟ أنسيتم ماذا فعلوا بسلمى ابنة محمد علي الخياط؟ كيف ينحدر بكم التخاذل إلى هذا الدرك؟وبدلا من أن تدافعوا عن حريتكم وتقاوموا طغيانهم تفكروا في الاحتفال بهم؟
    وكان عبد الرحيم شاعر البلدة المرموق، وجميع شبان بلدتنا يرددون باعتزاز شعره الوطني . والكل يحفظ قصائده في هجاء البرابرة الطغاة . فخشي الجميع من معارضته. وهجم عليه أبوه وكمّم فمه بمعاونة الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة. وكان السوق خالياً من البرابرة في تلك اللحظة وإلا لساءت العاقبة.
    وحسبنا أن الحادثة ستنحصر بالسوق لكنها سرعان ما ذاعت في البلدة. فأقبل في اليوم التالي وفد من حكماء بلدتنا بزعامة الشيخ جواد الحسن. واجتمع بأهل السوق في (سيف) الحاج محمد الدّهان. قال الشيخ جواد الحسن: سمعنا أن بعضكم عارض في إقامة الاحتفال.
    فانبرى الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة يقول في حماس: لا تصدقوا تلك الشائعة فليس بيننا معارض. كل ما هنالك أن أحد الشبان أبدى ملاحظة طائشة.
    قال رزّوقي الروّاف مؤمنا: فعلاً، فنحن جميعا نرغب في إقامة الاحتفال. إنها فرصة لنظهر للبرابرة ولاءنا.
    قال الشيخ جواد الحسن بلهجته الرزينة: لسنا بحاجة إلى أن يخدع بعضنا بعضاً فنحن جميعاً نكره البرابرة الطغاة. إنهم آذونا وأذلّونا ونغّصوا عيشتنا.
    هتف الحاج رخيّص الهبش وهو ينقل أنظاراً شامتة بين وجوه الموجودين: إذن كان عبد الرحيم محقّاً. إنه ذكّرنا بأن البرابرة اعتدوا على بناتنا وعذّبوا أبناءنا وقتلوا إخواننا.
    فقاطعه الشيخ جواد الحسن بلهجته الرزينة: وهل بنا حاجة إلى من يذّكرنا بهذه الجرائم؟ ولكن هل من مصلحتنا أن نعادي البرابرة الطغاة ونواجههم بكراهيتنا؟! بالعكس، إن الحكمة تقتضي منّا استرضاءهم. لقد اغتصب البرابرة الطغاة بلدتنا وسيحكمونها إلى الأبد. أفليس من الخير لنا أن نتملقهم ؟! لقد كان النفاق دستور بلدتنا منذ وُجدت ووجدنا، وكانت دائماً تخضع للطغاة. ولو تزلّفنا للبرابرة الطغاة وتملّقنا كبرياءهم لتجنبنا أذاهم. هكذا كان ديدننا دائماً.
    تعلقت عيون الجميع بشفتيّ الشيخ جواد الحسن في انبهار وكأنه يلقي حِكماً رائعة. وهتف رزّوقي الروّاف متحمساً: ما أعظم حكمتك يا شيخ جواد الحسن!
    والتفت الشيخ جواد الحسن إلى عبد الرحيم الذي كان يلوذ بجوار أبيه صامتاً وسأله: ما رأيك فيما قلت يا بنيّ؟
    فأطرق عبد الرحيم صامتاً وهو مكفهر الوجه. وقال الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة في حماس: كفانا ما جرّه الطيش علينا من كوارث. كان يوماً أسود حينما أقنعنا شبان بلدتنا بالتمرد على سطوة الأعيان، فالأعيان أعيان والعوام عوام. هكذا خلقهم الله وهكذا سيبقون إلى أبد الآبدين. فدعونا نصلح ما أفسدوا بالتزلّف للبرابرة.
    فهزّ الجميع رؤوسهم موافقين. وفجأة هبّ عبد الرحيم واقفاً وهتف وهو يرمي الموجودين بنظرات احتقار: يا لكم من جبناء! الجبن سحقكم حتى لم تَبقَ قطرة من الكرامة في دمائكم.
    وقبل أن يردَ عليه أحد توارى عن الأنظار. وران علينا الصمت وأطرقنا جميعاً. ثم قال سيّد هاشم العطار في تردد: إن هذا الاحتفال إهانة لكرامتنا. فكيف نتناسى جرائم البرابرة؟
    فلم يرد عليه أحد. وأخيراً نظر الشيخ جواد الحسن إلى شمخي الدلال وقال: عِدْنا يا أبا عبد الرحيم بمنع ابنك من الإساءة إلى الاحتفال.
    فقال شمخي الدلال بحماسة: أعدكم بشرفي ألا أسمح لولدي عبد الرحيم أن يمسّ الاحتفال بكلمة سوء.
    تفرّق الجميع وقد طفحت وجوههم بالرضى. وقامت الاستعدادات في طول البلدة وعرضها لإقامة الاحتفال. وأشرف حكماء بلدتنا على تجميل البلدة استعدادا ليوم الاحتفال. وقام الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة بدهن واجهة دكانه للخردة فروش" بألوان صارخة فقلده أصحاب الدكاكين المجاورة . وأثار هذا الحماس رضى البرابرة الطغاة فجعلوا يربّتون على بنادقهم في اعتزاز ويبتسمون في تيه واستعلاء.
    وزُيّنت الشوارع بصور الطاغية الأكبر ورُفعت الرايات على البيوت إلا بيت الحاج رخيّص الهبش. وكان الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة أول من انتبه للأمر فنقل النبأ إلى أهل السوق. فلمّا سألوا الحاج رخيّص الهبش عن السبب أبى أن يجيب. وعند العصر سُمع الشجار في بيت الحاج رخيّص الهبش. ثم خرجت زوجته تجري في الزقاق وهي تصرخ مولولة: لن أرفع راية على بيتي ولو مزَقوني قطعة قطعة. لن أرفع راية على بيتي وابني سجين في البيت فوق التلّ.
    كان هذا الحادث إنذاراً لحكماء بلدتنا. فاجتمعوا في (علوة) الشيخ جواد الحسن وتدارسوا المشكلة. ثم قرّروا رفع الرايات عن البيوت قبل أن تنتزعها الأمّهات.
    اقترب يوم الاحتفال وتأهبت بلدتنا لاستقباله. وقام حكماء بلدتنا بدهن أبواب الدكاكين بألوان زاهية. لكننا كنّا نستيقظ صباحاً فنجد بعض الجدران قد سُودت وبعض الأبواب قد أُزيل دهانها.
    ورأتني الحاجة أم مهدي يوما وأنا أجتاز الزقاق فسألتني في عجب: قل لي يا ولدي عزّوزي، ماذا يجري في بلدتنا؟
    فأجبتها: سنقيم بعد أيام احتفالاً يا جدتي.
    تساءلت بعجب: وبأيّة مناسبة؟ هل سيطلق البرابرة الطغاة أبناءنا المحبوسين في البيت فوق التلّ؟
    فقلت: لا يا جدتي. إننا نحتفل بمرور عام على اغتصابهم لبلدتنا.
    فصاحت في دهشة: وكيف نحتفل بذلك اليوم الأسود وقد شهدنا جميع المصائب على أيديهم؟!
    فقلت: هذا اقتراح حكماء بلدتنا يا جدتي. نصحونا بأن نتزلّف للبرابرة الطغاة ليرقّوا لنا ويرأفوا بحالنا.
    فغمغمت وهي تنصرف مغضبة: هؤلاء مخابيل وليسوا حكماء. فقلت: لا عاب فمك يا جدتي .
    اشتدت معارضة الأمّهات للاحتفال يوما بعد يوم، وشبّ الشجار في جميع بيوت بلدتنا. وفي بيتنا أعلنت أمي عن استنكارها لفكرة الاحتفال. وسألت أبي في اشمئزاز: أصحيح أنك علّقت راية على دكانك يا أبا عزّوز؟
    أجاب أبي: بالطبع. وهل تريدينني أن أخرج على إجماع أهل السوق؟ إن فكرة الاحتفال فكرة حكيمة وستقيننا أذى البرابرة.
    قالت أمي في استنكار: وهل يرضى الله عن هذا العمل؟ هل يرضى الله عن الاحتفال بهؤلاء الظلمة الذين قتلوا أبناءنا وانتهكوا أعراضنا؟! الواجب عليك ألاّ ترضى بذلك يا أبا عزيز.
    فقال أبي بلهجة مرة : وكيف يستطيع صباغ مثلي أن يقف في وجه هؤلاء الطغاة يا ام عزيز ؟ أسكتي فأنت لا تفهمين في السياسة ودعي مثل هذه الأمور للرجال .
    فقلت : لكن أمي على حق يا أبي .
    فقال أبي بلهجة حاسمة : أرجوك يا ابني ألاّ تدخل نفسك في هذا الموضوع فأنت أعقل من ذلك .
    وكلما دنا موعد الاحتفال تعالت أصوات الشجار في منازل بلدتنا.
    وتمنىّ الجميع الخلاص من يوم الاحتفال بأسرع وقت. وحينما كان أبناء بلدتنا يتهامسون بما يجري وراء جدران بيوتهم كانوا يختمون همسهم قائلين:"اللهم اختم علينا يوم الاحتفال بسلام".
    وأخيراً حلّ يوم الاحتفال. ومنذ الصباح الباكر تجمّع أبناء بلدتنا في مواكب طويلة. وطافت مواكبهم في الشارع العام وهي تحمل صور الطاغية الأكبر وتلّوح بالرايات. ثم انتهت مسيرة المواكب إلى الميدان الرئيسي. وكانت قد أقيمت في الميدان منصة عالية تشامخ عليها البرابرة وقد اندلقت كروشهم. وتصدّرهم طاغيتهم الأكبر على مقعد مرتفع وقد انتفخ كرشه وبانت مخايل العظمة واضحة على وجهه. وكاد الاحتفال أن يبدأ بداية سيئة حينما سأل طفل أمّه في صوت مرتفع: لماذا يملك البرابرة الطغاة كروشاً عظيمة يا أمي؟
    فردّ أحد شبان بلدتنا بصوت جَهْوريّ: لأنهم نهبوا أموالنا واغتصبوا نساءنا.
    وسرعان ما هتف حكماء بلدتنا للبرابرة هتافات مدوية فضاع صوت الشاب في دويّ الهتافات. وارتقى عريف الحفل الشيخ جواد الحسن منصة الخطابة وافتتح الاحتفال بصوت يتدفق حماساً:
    "أيها الأخوان. يسرّنا أن نقيم في هذا اليوم احتفالاً بمناسبة انقضاء عام على تحرير بلدتنا.. ذلك العمل البطوليّ الذي قام به المظفّرون غير مبالين بالأخطار. ونرجو أن يكون احتفالنا هذا معبّراً عمّا نضمره لهم من عرفان بالجميل. ويشرّفنا أن يفتتح احتفالنا آمر المظفرين البطل المغوار حامي حمى بلدتنا ووليّ نعمتها ومنقذها الأكبر".
    نهض الطاغية الأكبر مختالاً فخوراً. واستقبله حكماء بلدتنا بالتصفيق والهتاف فحيّاهم في غطرسة واستعلاء. وافترّت شفاه البرابرة عن أنيابهم الحادة، وانتفخت كروشهم حتى غدت كالبالونات الكبيرة.
    تنحنح الطاغية الأكبر طويلاً ثم صاح بصوت جَهْوريّ:
    "أيها الرعاع. نشكركم على إقامة هذا الاحتفال بمناسبة مرور عام على قيامنا بتحرير بلدتكم من العوام وقضائنا على الفوضويين من شبانها. لقد وضعنا دماءنا في أكفّنا ولم نكن نطمع في شئ سوى رضى الله تعالى. أما السلطة والزعامة والمال فهي من أعراض الدنيا الزائلة، لكنها أتتنا عرَضاً فأهلاً ومرحبا بها..".
    قاطع حكماء بلدتنا الطاغية الأكبر بتصفيق حاد وهتاف مدوّ، وتنافسوا في إطلاق التحايا العطرة. فاستخفّه الطرب وبدا كأن كرشه يكبر ويكبر حتى يوشك أن يمزّق ملابسه! واستأنف خطبته يصرخ بصوته الجَهْوريّ:
    "لا يخفى عليكم أن العوام من شذّاذ هذه البلدة التعسة قد استفحل أمرهم، فاستثار نخوتنا الأعيان وهزّوا ضميرنا الحيّ، فعزمنا على سحقهم. ونحن نبشّركم بأننا عازمون على التنكيل بالشبان المارقين بلا شفقة ولا رحمة.."
    هتفت إحدى الأمّهات بصوت ملتاع: ماذا جنى أبناؤنا حتى تنكّلوا بهم بلا شفقة ولا رحمة؟
    ووَلْوَلت أمّ أخرى: هل ستقتلون أبناءنا؟ ويلي عليك يا بسّومي.
    وتعالى نحيب النساء، وضجّ صراخ الأطفال. وغشي الاضطراب حكماء بلدتنا فبذلوا جهودهم لتهدئة النساء والأطفال. وانهال علينا الطاغية الأكبر بالشتائم المقذعة. وكشّر البرابرة عن أنيابهم. قفز عريف الحفل الشيخ جواد الحسن إلى المنصة في ارتياع وصاح:" يا أبناء بلدتنا، إن آمر المظفّرين يقدّر عواطفكم ويأمل من أمّهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا أن يضبطن عواطفهن ويكفكفن دموعهن.
    وصرخ الطاغية الأكبر معقّباً: وإذا لم تكفّوا عن شغبكم سكتّ وتكلمت البنادق.
    خيّم الصمت فجأة على الميدان وكفّ النساء والأطفال عن الصراخ والعويل. والتفت الشيخ جواد الحسن إلى الطاغية الأكبر وحنى جبهته حتى كاد يمسّ بها الأرض ثم قال: تفضلوا يا آمر المظفّرين.
    استعاد الطاغية الأكبر هدوءه، وابتسم في زهو، ثم استأنف يصرخ في غطرسة:
    "أيها الرعاع. تعلمون أننا لم نغتصب بلدتكم لمنفعة شخصية، لكن رغبتنا في الخدمة لوجه الله تعالى كانت دافعنا الوحيد. لذلك فإن مصائركم بأيد أمينة. ولن تمرّ سوى أشهر قليلة حتى نكون قد قضينا على عناصر الشغب قضاء تاماً. فنحن نعتزم إضافة أبنية جديدة إلى البيت فوق التلّ ليتّسع لعدد أكبر من المارقين. فلن تستقيم الأمور في بلدتكم إلاّ إذا رمينا جميع شبانها المارقين في السجن. ونحن نعدكم بأن نحتفظ بهم في السجن إلى الأبد. وبذلك تتخلص بلدتكم من أذاهم ويسودها الاستقرار والأمان".
    صاحت إحدى الأمهات بصوت مكلوم: هل ستحبسون أبناءنا إلى الأبد؟ يا لكم من ظلمة!
    ثم أطلقت صواتاً طويلاً، وإذا بالنساء جميعاً يشاركن بالصوات. فانسحب الطاغية الأكبر غاضباً مزمجراً. وخشخشت البنادق في أيدي البرابرة. هرع الشيخ جواد الحسن إلى المنصة وردّد وهو يشير إلى البنادق: سكوتاً.. سكوتاً يا أبناء بلدتنا.
    فصمت الجميع وحُبست الأنفاس. وحنى الشيخ جواد الحسن رأسه باتجاه الطاغية الأكبر حتى كادت جبهته تنطح الأرض ثم قال:
    " باسم أبناء بلدتنا جميعاً أتقدم بالشكر الجزيل إلى منقذنا البطل المغوار صانع المعجزات الذي يمتلئ قلبه بالرحمة والشفقة والذي لا يمكن أن ننسى أياديه البيض على بلدتنا. ونحن نعاهده ونعاهد الله عزّ شأنه إلاّ نقبل بغيره زعيماً لبلدتنا وحاكماً أبديّاً لها ". والآن أرجو أن يسمح المظفّرون لأبناء بلدتنا بالتعبير عن مشاعرهم الصادقة بهذه المناسبة المجيدة. يتقدم إليكم الآن الملاّ فرهود ممثل السوق الكبير.
    تنحّى الشيخ جواد الحسن عن المنصة فارتقاها الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة وهو يكاد يرقص طربا. وقبل أن يبدأ خطبته تقدم من الطاغية الأكبر وقبّل الأرض بين يديه. ثم انحنى للبرابرة حتى كاد يمس الأرض بجبهته. وبدأ خطبته بصوت حماسيّ فأفاض في وصف أيادي البرابرة على البلدة. ودعا في ختام خطبته إلى تكرار هذا الاحتفال في مطلع كل عام.
    ثم توالى حكماء بلدتنا على منصة الخطابة يلقون القصائد الحماسية والخطب الرنّانة. وأشادوا جميعاً بفضل البرابرة الطغاة وبإخلاصهم لبلدتنا. وأخيرا أعلن الشيخ جواد الحسن عن كلمة ختامية لممثل شبان البلدة عبد الرحيم ابن شمخي الدلال. وذهلنا لهذه المفاجأة، فلقد كنا نعلم أن عبد الرحيم من أشدّ المعارضين لفكرة الاحتفال. قال الشيخ جواد الحسن وهو يقدّم عبد الرحيم إلى الجمهور: لقد سَرَت في البلدة شائعة كاذبة تزعم أن شبان البلدة معارضون للاحتفال. وسيبرهن لكم الشاب عبد الرحيم بنفسه على بطلان تلك الشائعة المغرضة.
    هبط الشيخ جواد الحسن عن المنصة فارتقاها عبد الرحيم بخطوات ثابتة. وبدا متجهم الوجه متّقد العينين. واستقبله أبناء بلدتنا بوجوم. وافترّت شفاه البرابرة عن بسمات ساخرة فبرزت أنيابهم الحادة. كأنها تستعد لتمزيق أجسادنا. وبدا عبد الرحيم خطبته بصوت هادئ وهو يتجه بأنظاره إلى البرابرة فقال:
    "أيها البرابرة الطغاة مغتصبو بلدتنا الوديعة. لقد اغتصبتم بلدتنا المسالمة، وما كنتم لتفلحوا باغتصابها لولا أنكم تتسلحون بالبنادق ونحن عزّل. وكنّا ندرك منذ البداية أنكم تنوون الاستئثار بخيرات بلدتنا والتسلط عليها، وإن جئتم بدعوى مزيّفة لإخفاء حقيقتكم. ولقد غرّكم النصر الذي حققتموه وأسكركم التخاذل الذي أصاب أبناء بلدتنا. فأمعنتم في إرهابكم وتماديتم في طغيانكم غير حاسبين حساباً للمستقبل. لقد أهدرتم كل حقّ من حقوقنا وتصرفتم في شؤون بلدتنا وكأنها ملك خالص لكم، وكأنكم ستظلّون أسيادها إلى الأبد. ولكن إذا كنتم تمتلكون البنادق اليوم ونحن عزّل، فهل تحسبون أن هذا الوضع سيدوم كذلك إلى الأبد؟ وهل تعتقدون أنكم سحقتمونا وأن لن تقوم لنا قائمة بعد اليوم؟! أنتم أذن على ضلال عظيم. فلا بدّ لنا أن ننهض من كبوتنا ونستعيد قوانا. وحينئذ لن تنفعكم بنادقكم.
    أيها البرابرة الطغاة. ننذركم بأن ترفعوا أيديكم عن بلدتنا قبل أن تقلت الفرصة منكم فتصبحوا شذر مذر. فالويل لكم من غضبنا إذا حلّت الساعة".
    أطبق علينا الصمت ونحن نصغي إلى عبد الرحيم حتى كنّا نسمع خفقات قلوبنا. وتعلّقت عيون البرابرة بشفتيه في ذهول وكروشهم تعلو وتهبط غضباً. وحين ختم عبد الرحيم خطبته كان صوته يدوّي كهزيم الرعد. والتهبت أكفّنا بالتصفيق، وضجّت النساء بالزغاريد. وبعثت زغاريد النساء الحماسة في قلوبنا فتعالت هتافاتنا بسقوط البرابرة الطغاة. وما درينا إلا وزئير البنادق يملأ الهواء. وسقط عبد الرحيم في الحال صريعاً. ثم أخذ أبناء بلدتنا يتساقطون مضرّجين بدمائهم. فسادنا الذعر. وتعالى عويل النساء وصراخ الأطفال. وتراكض الجميع نحو بيوتهم وأغلقوا دونهم الأبواب. لكن صوت البنادق ظلّ يلعلع في الهواء لساعات طويلة.
                  

العنوان الكاتب Date
الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:16 PM
  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:18 PM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:20 PM
      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:22 PM
        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:57 PM
          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-23-08, 10:59 AM
  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-24-08, 09:46 AM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-27-08, 12:15 PM
      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-28-08, 11:51 AM
        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-30-08, 12:29 PM
          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin05-02-08, 02:14 PM
            Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin05-05-08, 11:41 AM
              Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin05-12-08, 12:16 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de