الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-14-2024, 03:13 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-30-2008, 12:29 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 37159

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار (Re: adil amin)

    الحكاية السابعة
    دعابة سخيفة
    ظلّ أبناء بلدتنا يترقّبون يوم الخميس على أحرّ من الجمر. وكان الواحد منهم يستوقف الآخر في الطريق ويسأله: "هل علمت أن موعد الزيارة هو صباح الخميس؟".
    فيرد عليه الآخر: "بالطبع صباح الخميس الساعة الثامنة. لا تنسَ أن تحضر في الساعة السابعة".
    فيقول له: "الأفضل أن تحضر في الساعة السادسة. سيكون الازدحام شديداً".
    ويفترقان ووجهاهما يطفحان بشراً. وكانت الأمّهات يسألن الآباء: "متى يحلَ يوم الخميس؟ لم يعد فينا صبر".
    فيرد عليهن الآباء: "ما هي إلا أيام معدودات ويحلّ يوم الخميس. صبرنا شهوراً طويلة، ونستطيع أن نصبر أياماً أخر. كان الله مع الصابرين".
    لكن الأمّهات لم يعدن قادرات على الصبر. كنّ يحسبن الساعات في انتظار الخميس. ويا له من حساب شاق! وحين يجن الليل كنّ يتملّقن النوم عبثاً. كان يفرّ منهن فتظل أجفانهن مفتوحة وعيونهن معلقة بالسقف!
    وانثنى الأطفال يرقصون في الأزقّة وباحات البيوت في انتظار يوم الخميس. وكان الواحد منهم يرمق أمّه بنظرة ارتياب أحياناً ويتساءل: أصحيح أنني سأرى بابا يوم الخميس؟
    فتردّ الأمّ فرحة: صحيح يا ابني.
    فيسأل الطفل في نفاذ صبر: لكنك قلت لي مراراً أنني سأراه فلم أره، فهل تكذبين عليّ هذه المرة أيضا؟
    فتضحك الأمّ في حبور وتقول في مرح: فأل الله ولا فألك يا بنيّ.. سترى بابا فعلاً هذه المرة.
    وهكذا ترقّب أبناء بلدتنا جميعاً، رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً يوم الخميس بأعصاب مشدودة وقلوب عامرة بالغبطة.
    وكانت السيارات قد طافت شوارع بلدتنا وهي تحمل مكبّرات الصوت. وأعلن البرابرة الطغاة أنهم اختاروا يوم الخميس موعداً لزيارة المعتقلين في البيت فوق التلّ. كانت مفاجأة مذهلة لأبناء بلدتنا. فلقد سبق أن رفض الطاغية الأكبر بإصرار السماح بهذه الزيارة، ولم يلن قلبه لتوسلات الوفود التي ذهبت لمقابلته. وكنا ندرك أنه ينشد ستر فظائعهم في البيت فوق التل، لذلك لم يصدق أيّ واحد منا الإعلان الذي أُذيع من مكبّرات الصوت. وسأل عبد الحسين العبايجي – وهو ضعيف السمع – جاره أحمد القندرجي : ما سبب هذا الضجيج يا حاج محمد؟ هل سيعيدون فتح سينما البلدة؟
    فأصغى احمد القندرجي في انتباه إلى الضجيج ثم قال بسرور: سيسمحون لنا بزيارة أبنائنا في البيت فوق التلّ يا أبا علي.
    هز عبد الحسين العبايجي رأسه في استخفاف وقال: يا لها من دعابة سخيفة!
    وفي الحال سرت في بلدتنا شائعة تؤكد أن إعلان البرابرة ليس سوى دعابة سخيفة! وسأل أبناء بلدتنا بعضهم بعضاً: "هل سمعت دعابة البرابرة الأخيرة؟" وكان البعض يردّ: "نعم، ويا لها من دعابة سخيفة!".
    ومع أن أبناء بلدتنا نسوا الضحك منذ اغتصب البرابرة بلدتنا فقد كان البعض منهم يضحك عند سماع الدعابة السخيفة.
    تشاور حكماء بلدتنا في الأمر ثم قرّروا مقابلة الطاغية الأكبر لاستجلاء الحقيقة. وألقى فيهم خطبة لئيمة ختمها بقوله: "هل سمحنا لأنفسنا يوما أن نداعبكم؟! نحن لا نعرف الدعابة. نحن أصحاب جدّ وعمل، ولو أخبرناكم يوما أننا سنقتل جميع المعتقلين في البيت فوق التلّ لكنّا صادقين. ولعلّ هذا اليوم يحلّ قريباً لنخلصكم من شرور هؤلاء المجرمين.. أو لعلّنا ننشئ لهم معتقلاً بعيداً في الصحراء ليموتوا هناك فنجنبكم أذاهم ".
    عاد أعضاء الوفد من المقابلة ووجوههم تطفح بشراً. وخلال ساعات قليلة كان خبر مقابلة الوفد للطاغية الأكبر على كل لسان. وزُفّت البشرى من دكان إلى دكان ومن زقاق إلى زقاق، ومن بيت إلى بيت.
    انثنت بلدتنا وكأنها تتهيأ لاستقبال عيد يفوق في أهميته الأعياد المألوفة. صحيح أن بلدتنا كانت تستقبل عيد الفطر وعيد الأضحى وهي بحلّة زاهية، بينما انبرت تتأهب لاستقبال يوم الخميس وهي في حلّة سوداء، لكن قلوبنا فاضت بالبهجة. وترقّب كل واحد من أبناء بلدتنا يوم الخميس بلهفة عظيمة .
    وبدا على عبد الحسين القصاب انه أعظم الجميع لهفة ليوم الخميس، فقد أخذ يطلق بين حين وآخر قهقهات عالية يدوّي صداها في أرجاء السوق. وكان أهل السوق يرمقونه بغبطة ويتمنون لو يطلقون مثله القهقهات الحبيسة في صدورهم. أما رزّوقي الروّاف فكان يرفع رأسه عن عمله بين الحين والحين ويسأل جاره الحاج رخيّص الهبش:"كم يوماً بقي إلى يوم الخميس يا أبا محمود؟".
    فيرد عليه الحاج رخيّص الهبش:"أبشر يا أبا محمد، فيوم الخميس قريب".
    وقامت الاستعدادات لاستقبال يوم الخميس في كل بيت من بيوت بلدتنا. وتصاعدت روائح (الكليجة) و (خبز العروك) من كل دار. وقد ظلّ الملاّ فرهود صبّاغ المطيّة أياماً يبحث عن دجاجة كبيرة. فقد اختفى الدجاج من السوق كليا. وقال البعض:"إن البرابرة منعوا بيعه نكاية بأبناء بلدتنا". وقال آخرون: "إن أبناء بلدتنا ابتاعوا كل ما في السوق من دجاج". وقد سُمع صراخ الدجاج فعلاً وهو يذبح في كل بيت.
    وتأهبت "علوة السمك" ليوم الخميس فأحضرت كميات هائلة من السمك. وتعهد عبّود السمّاك بإحضار أحسن أنواع "البنّي" و "الكطّان" و "الشبوط". وكان يردد وهو يطلق ضحكته المجلجلة: سأحمل إلى ولدي عبد الزهرة "شبوطاً" لم تقع العين على مثله.
    وفتحت حوانيت الحلوى أبوابها لأول مرة منذ اغتصب البرابرة بلدتنا. وأعلن عبد علي الشكرجي أنه خفّض أسعار "البقلاوة " و"الزلابيا" و"من السما" لتكون في متناول الجميع. وعلمنا أنه أعدّ لولده عبد الأئمة صينية لم يُصنع لها مثيل من قبل.
    وتساءل الآباء والأمهات في حيرة:"ماذا يُفضّل أبناؤنا من مأكولات؟" واجتهدوا في أن يذكّر بعضهم بعضا بما يُفضّله أبناؤهم من مآكل.وكانت الزوجات الشابات يسألن أطفالهن في مرح: "هل تعرفون ماذا يحب بابا من الحلوى؟"
    فيفكر الأطفال قليلاً ثم يهتفون في انتصار: "بابا يحب الشكرلمة"، و"بيض اللقلق" و "شعر بنات" .
    وتوهجت المصابيح ليلة الخميس في بيوت بلدتنا حتى الصباح. وترددت الأصوات الفرحة وراء جدران كل دار. وانبعثت روائح شهية من كل بيت. ولم تغمض جفوننا حتى الصباح.
    ومنذ الصباح الباكر فتحت الأبواب على مصاريعها وانطلقت أسراب النساء والرجال والشيوخ والأطفال ميمّمة صوب البيت فوق التلّ. وحمل كل شخص سلّة أو زنبيلاً أو حقيبة أو صرّة صغيرة. وبدا للمشاهد كأن أبناء بلدتنا يهجرونها إلى بلدة أخرى. وتجمع أبناء بلدتنا عند أسفل التلّ وكأنهم في يوم الحشر!
    كان صباحاً كئيباً تجهمت فيه السماء. وأنذر البرق الخاطف والرعد المتقطع بمطر ثقيل. رفعنا إلى السماء أنظارا قلقة وابتهلنا إلى الله أن تعفينا السماء اليوم من مطرها. وحين دقّت ساعة البلدية السادسة تماماً تجمع أبناء بلدتنا جميعاً بجوار التلّ. لم يتخلف أحد منهم فكأنهم كانوا على موعد للقاء هناك!
    غمغم رزّوقي الروّاف في ضيق وهو يستمع إلى دقات الساعة: لا يزال أمامنا ساعتان من الانتظار. كان الأحسن لنا ألاّ نحضر مبكرين.
    فاتجهت إليه أنظار الجميع في استنكار. وردّ عليه عبد الحسن القصاب في استياء : غنني حضرت في الساعة الخامسة صباحا. ولو لم أتأخر لبعض الأعمال لحضرت في الساعة الرابعة.
    انطلق الأطفال يلعبون ويمرحون ويجري بعضهم وراء بعض. وافترشت الصبايا الأرض بجوار أمهاتهن وهن يتطلعن إليهم في حسد. كنّ تواقات إلى مشاركتهم اللعب لولا نظرات أمهاتهن الرادعة.
    وانهمك الدكتور عمر الجرّاح في حديث موصول مع الصيدلي لطفي العبد. وكانا على خلاف منذ سنين طويلة، فكان صلحهما مصدر تفاؤل لنا جميعاً.
    دقت ساعة البلدية ثماني دقات، وعدّ أبناء بلدتنا دقاتها وهم يحبسون أنفاسهم. تهللت الوجوه وفاضتّ بالبشر، وتعلقت العيون المتلهفة بالبيت فوق التلّ. وتوقعنا أن تُفتح أبوابه على مصا ريعها في الحال ويؤذن لنا بالدخول. لكن الدقائق انسابت متباطئة والأبواب المغلقة تواجهنا بمنظرها الكالح. وساد السكون وبدت الساحة المائجة بالبشر كمقبرة مهجورة. تعالى صوت أحد الأطفال وهو يسأل أمه غاضباً: أين بابا؟ ألم تعديني أن أراه في الساعة الثامنة؟
    وهتفت امرأة مسنّة قد تساقطت أسنانها: أين حفيدي علاّوي؟! أين هو؟! قالوا لي أنني سأراه في الساعة الثامنة.
    وصاح شمخي الدلال : وعدنا أن نرى أبناءنا في الساعة الثامنة فهل كذبوا علينا؟
    ثم اختلطت صيحاتنا فغدت ضجيجاً لا يُفهم. وبكى طفل وصرخ آخر. انفرج الباب الكبير فجأة وظهر الطاغية الأكبر يحيط به ثَلة من البرابرة الطغاة . و صُوبت بنادقهم إلى صدورنا. وغشينا الصمت، وحبس الجميع أنفاسهم. تهللت وجوه البعض أملاً وتجهمت وجوه الآخرين يأساً. بدا وجه الطاغية الأكبر جامداً كالصخر، ولم يوح بما يبشّر بالخير. بقي صامتاً دقائق خُيّل إلينا أنها ساعات وهو يتفرّس في وجوهنا في ترفع واستعلاء . وأدركنا أنه يستعد لإلقاء إحدى خطبه اللئيمة فقد بدأ يتنحنح بصوت كالرعد. وأخيراً صرخ بصوته الغليظ:
    "أيها الرعاع
    تعلمون أننا بذلنا قصارى جهدنا لتوفير الطمأنينة لكم، ولا نبغي من وراء ذلك جزاء ولا شكوراً. ونحن نواصل العمل ليلاً ونهاراً لإدارة شئون هذه البلدة التعسة. وقد فكّرنا بحاجتكم لرؤية أبنائكم المجرمين المعتقلين هنا. وعقدنا العزم على السماح لكم برؤيتهم صباح هذا اليوم بالرغم من مخالفة ذلك لكل التقاليد المرعية. ولكننا فوجئنا بالسماء تغيم، وها هي تمطر الآن، لذلك قررنا إلغاء الزيارة".
    انقضّ صراخه على رؤوسنا كالصاعقة، وتبادلنا نظرات زائغة. ولم يجرؤ أي واحد منا على الكلام. كنّا نجبن دائماً في اللحظة الأخيرة. ولولا تخاذلنا ما قهرنا البرابرة. أطرقنا والغضب يغلي في صدورنا. ثم صاح بغتة طفل صغير: أريد أن أرى بابا.
    وهتفت صبية صغيرة: وأنا أريد أن أرى أختي سعدية.
    وفي تلك اللحظة أومض البرق ودوّت السماء برعد قاصف، ثم بدأ المطر يتساقط رذاذاً. تطلّع الطاغية الأكبر إلى السماء وقال بغطرسة: السماء تمطر وقد أُلغيت الزيارة.
    قال عبّود السمّاك بصوت مختنق: السماء تمطر دائماً يا مولانا، ولم نبالِ بمطرها يوماً.
    واستحال الرذاذ إلى وابل من المطر، وبدا كأن السماء قد جنّت. وتسرب المطر إلى ثيابنا فبللّها تماماً، وأوشكت السلال والحقائب أن تمتلئ بماء المطر. قال عبد الحسن القصاب بصوت باك: هدّ الانتظار أعصابنا فأشفقوا علينا يا مولانا.
    بقي الطاغية الأكبر صامتاً وطال صمته. وتعلقت عيوننا في لهفة بشفتيه. ثم هزّ رأسه أخيراً بقوة وزمجر غاضباً: أنتم لا تكفّون عن مؤامراتكم القذرة. أقبلتم جميعاً على هذا المكان لتضخّموا عدد المعتقلين وتشوّهوا سمعتنا النقيّة. ولذلك أُلغيت الزيارة، ولن تكون هناك زيارة أخرى. انصرفوا إلى بيوتكم بهدوء.
    ثم استدار وغاب مع حرّاسه في جوف البيت. وأغلق الباب الكبير. ولم يفهم أبناء بلدتنا ما قال الطاغية الأكبر بالضبط، وأبى الجميع أن يصدقوا آذانهم. وبقيت عيونهم مصلوبة على الباب الكبير وقد افترسهم صمت كالموت. وفجأة سألت أم بدا صوتها كمواء قطة جريحة: ألن يسمحوا لي أن أرى ولدي كرّومي؟.
    وهتف عبد علي الشكرجي بلهجة ذاهلة: هل سيحرمونني من رؤية ولدي عبد الأئمة إلى الأبد؟
    وانهارت إحدى الأمّهات وهوت على الأرض، وأصيبت أمّ أخرى بنوبة هستيرية فانطلقت تنحب نحيباً عالياً. وصرخت أمّ ثالثة بصوت مبحوح: كيف أعود إلى بيتي من غير أن أرى ولدي حمّودي ؟! لم أنم منذ ثلاث ليال في انتظار هذا الصباح. لن أعود إلى بيتي إلا إذا رأيت ولدي حمّودي.
    واختلطت الصيحات الغاضبة بالصرخات الباكية، وجاشت الساحة بالضجيج. وتجمعت مياه المطر وأحاطت بنا كالبرك، واستحالت الساحة إلى بحيرة من الوحل. وانطلق الأطفال يخوضون في الوحل ويضربون المياه بأقدامهم فيتطاير رشاشها من حولهم. وهامت العيون شاخصة إلى البيت فوق التلّ.
    انقطعت الأمطار بعد ساعات وأطلّت الشمس شاحبة وكأنها خجلى لما فعلته بأبناء بلدتنا. وأخيراً انفرج الباب الكبير عن الطاغية الأكبر يطوقه ثَلة من البرابرة. وجثم فوق رؤوسنا صمت مطبق حتى أننا كنّا نسمع أنفاسنا. وعلت الوجوه بشائر الأمل. تطلع إلينا الطاغية الأكبر بنظرات متعالية ثم تساءل في غطرسة: أما زلتم هنا؟
    هتفت أمّ باستعطاف: نريد أن نرى أبناءنا صدقة لرأسك.
    وقالت أمّ أخرى متضرعة: أجعلها منّة علينا.
    وأضاف شيخ بصوت مرتجف: اسمح لي أن أرى حفيدي يا مولاي قبل أن أموت لأدعو لك بطول العمر.
    ثم اختلطت الأصوات، وشارك الجميع في التوسل والاستعطاف، صغاراً وكباراً، نساء ورجالاً. وبدا كأن ثمة جوقة موسيقية عظيمة تعزف أناشيد المذلة والخضوع. ورمانا البرابرة من أعلى التلّ بنظرات متعالية وهم يربتون على بنادقهم باعتزاز. رفع الطاغية الأكبر يده أخيراً فصمتنا جميعاً وكأن عصا سحرية أحالتنا إلى تماثيل. ثم قال بزهو وهو يتطلع إلى السماء: أُلغيت الزيارة. انصرفوا إلى بيوتكم.
    هبط علينا صمت كالموت. وتلبثنا دقائق جامدين كالتماثيل. وفجأة لمحنا حذاء نسوياً يتطاير في الهواء ويسقط أمام الطاغية الأكبر. وخشخشت البنادق بأيدي البرابرة وسدّدت فوهاتها إلى صدورنا. زمجر الطاغية الأكبر. من التي رمت حذاءها؟ إنني آمرها أن تعلن عن نفسها.
    فاستحال المكان إلى مقبرة خرساء. وترددت زمجرة الطاغية الأكبر في الساحة وكأنها عواء كلب. عاد يصرخ غاضباً: حسناً سوف نرى.
    انحدر ثّلة من البرابرة من أعلى التلّ وهم يحملون الحذاء وبدءوا حملة التفتيش. وفي اللحظة ذاتها تطايرت أحذية النساء في الهواء وتجمعت في كوم عظيم في طرف الساحة. وأصابت بعض الأحذية رؤوس البرابرة فتصايحوا غاضبين. ثم انسحبوا مسرعين إلى أعلى التلّ وهم يصوبون بنادقهم إلى الصدور. زمجر الطاغية الأكبر أخيراً: أنذركم بالانصراف إلى بيوتكم في الحال وإلاّ تكلمت البنادق.
    وكنا نرتعد فرقاً من قول البنادق.فصاح الشيخ جواد الحسن: هيّا بنا إلى بيوتنا فلا فائدة من الانتظار.
    لكن الحاج عبد الرزاق العلوجي هتف في التياع: أبويه.. كيف ننصرف إلى بيوتنا من دون أن نرى أبناءنا؟
    فصرخ الطاغية الأكبر: انصرفوا إلى بيوتكم أيها الجبناء وإلا تركنا البنادق تتكلم.
    أنبأت لهجة الطاغية الأكبر هذه المرة بشرّ مستطير. فدبّ الرعب في قلوبنا، وحمل كل منّا متاعه وقفلت أسرابنا عائدة إلى البلدة. وأعْوَل الأطفال مطالبين برؤية آبائهم، وانتحبت الأمّهات لوعة على أبنائهن، وبكت الزوجات أسفاً على أزواجهن. ومشت قافلتنا يحدوها الصراخ والبكاء والنحيب. وهزّ الرجال رؤوسهم ورددوا في لوعة: "الله كريم".
    وفي الطريق توقفت إحدى الأمهات عن السير وصاحت بصوت مبحوح: لن أعيد هذا الطعام إلى بيتي. صنعته لولدي وهو محرّم علينا.
    وتنحّت عن موضعها وأفرغت محتويات السلة على الأرض. وتوالت الصيحات مؤيدة، وفي خلال دقائق كان كل واحد من أبناء بلدتنا قد أفرغ ما يحمل من طعام على الأرض. وتعالت أكوام الطعام في شارع البلدة العام وعبق الهواء بالروائح الشهية. وفجأة دوّى هتاف حماسيّ من بين الجموع: "فليسقط البرابرة الطغاة". وإذا بالجميع يهتفون بصوت راعد: "فليسقط البرابرة الطغاة".ثم استأنفت قافلتنا سيرها وهتافاتها الغاضبة تملأ الفضاء.
    والتفت عبد الحسين العبايجي أخيراً إلى أحمد القندرجي وقال بمرارة: ألم أقل لك منذ اللحظة الأولى يا أبا جاسم أن تلك الشائعة ليست سوى دعابة سخيفة!
                  

العنوان الكاتب Date
الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:16 PM
  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:18 PM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:20 PM
      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:22 PM
        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-22-08, 02:57 PM
          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-23-08, 10:59 AM
  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-24-08, 09:46 AM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-27-08, 12:15 PM
      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-28-08, 11:51 AM
        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin04-30-08, 12:29 PM
          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin05-02-08, 02:14 PM
            Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin05-05-08, 11:41 AM
              Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك..في حكايات من بلدتنا...وازمنة الغبار adil amin05-12-08, 12:16 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de