|
أسامة أحمد موسى.. زهرة في الهضاب!
|
خط الاستواء عبد الله الشيخ
أسامة أحمد موسى.. كان طويلاً ومسافراً على الدوام.. توسّد قبل أسابيع قبراً في الدوحة.. كلماته الأخيرة لي وهو على فراش المرض كان معناها أنه مازال يذكر أيام زمان.. وأنا كذلك.. ما نسيت.. تسللنا من هذه المحطة التي لا أعرف من صاحبها الآن!.. كمساري أشيب بنظارة سميكة أفرد لنا قمرة في القطار.. ودسّ في جيبي الميدان السرية.. ثم عاد في الليل وأدخلها في ورق النبطشية!.. لا أدري كيف عرف أننا (زائغان)!.. وهذا قطار حلفا في العيد.. لا مكان لك فيه إلا إذا رطنت!.. اقتسمنا في أسوان زجاجة الميرندا.. كنا جائعين.. وكنا نغني على سطح ساق النعام: (الطيور الراحلة في ضل المسا تسأل عليك)!.. الباخرة تتكدس بالتسالي وببنات الجالية.. ودخاخين المدخنين.. يتذكر الإنسان ما يشتهي.. ويموت على ما عاش عليه. كان شديد الولاء لآخر سورة الحشر.. يتقرفص ويقرأها بين هرج المازحين والمدخنين!.. وبيوت القاهرة مثل علبة كبريت.. وجدنا شقة في شارع المنيل، جوار سينما فاتن حمامة... جلس على بابها أسمر من بقايا الهجانة الذين شربوا رطوبة القاهرة, التوى لسانه كما تلتوي الاستراتيجيات حين يدلي بها التنفيذيون في الجلسات الافتتاحية!.. لا أسمع منه الآن.. إلا كلمة (حاضر يا بيه) كان قليل الكلام رغم كونه معاشي!.. ربما تحاشى الكلام.. فالسودانيون في القاهرة لا يعرفون إلا أمنيات التجمع الخائبة!.. قال لأسامة ذات يوم إن الأهرام (ما تكدبش)!.. زرنا مصطفى سيد أحمد في عين شمس.. كان طروباً.. لا يدخل اليأس إليه.. في الطريق إليه.. ومن أبواب مواربة رأينا لحى الجماعات!.. يتركون الباب مفتوحاً.. يستقبلون القبلة ويأكلون.. ثم يوصدون أبوابهم على هذه الذخيرة التي أرى آثارها على الجدران!. ويا لهول القاهرة.. علي غريب هرب من لحي الجنوب التي زحفت إلى النياشين والرتب!.. ليجدها أمامه، والى جوار المغنى!.. رأيت دمعة في عينيه حين كان مصطفى سيد احمد يغلي بأغنية تقول: (أغني الناس المابتسمعني.. المني بعيد.. والمبعد عني!..).. شطر المغني قلوبنا!.. في اليوم الأول في شوارع القاهرة كنت على موعد مع الموت.. وقعت من أتوبيس لا يقف على محطات السفر إلا غمضة عين.. ربت على كتفي!.. واستعدل نظارتي.. خرجنا إلى محطة الملك الصالح.. وركبنا المترو.. وكان يقرأ الشعر!.. قصيدة أهداها للمغني لم يسمعها أحد.. فقد مات المغني.. ومات الشاعر في ذات المكان!.. الدوحة!.. تغيّرت معالم البيت.. الذي آوينا إليه ليلة السفر.. لا أجد الآن من أعزيه في فقيدي.. فهل أعزي نفسي بنفسي!.. و.. يا بالله.. كيف النار تطفئ النار!.. افترقنا!.. ولامست كفي كفه في الدوحة!.. وافترقنا.. وجاءني صوته قبل أسابيع متهدجاً جداً.. ودّعني.. وما ودّعته.. انتهى الأمر.. كفن من طرف السوق.. وشبر بالمقابر.. أيّها الناس!.. أقراؤا شيئاً من القرآن على روحه الطاهرة.. وعلى روح المغني!.. اذكروا جيداً أنّ أسامة أحمد موسى رحل بعد أن كتب أشعاره!.. ولم يطلق رصاصة واحدة!.. وما تزال كادوقلي الخضراء تنتظر أن يعود إليها.. وشوارع أم درمان تنسج في الضحى شبالاً يكشح صورته التي لا تفارق أبداً!.. يرحمه الله.. فقد كان طويلاً جداً.. وكنت أناديه بـ(أسامة الطويل).. ولم استدرك أنّ عمره قصير.. يرحمه الله.. في أربعينيته!.. وقد استحالت روحه إلى زهرة في الهضاب..
|
|
|
|
|
|
|
|
|