ربما لا يغيب على أحد أن العالم و الزمن وجهان لمفهوم سيان ، فمنذ البدء ارتبطا بالبداية المشروطة بالنهاية الحمتية والزوال ، هذا الوضع لا أجده و إلا ويماثل حصبة حصى على قاع بركة ماء ، فإن ما بين الحاضر والماضي طرفة عين ، حتى أن البعض ذهبوا فى تفسير ذلك ألى أقسى تعبير حينما أشاروا إلى أن اللحظة فى حد ذاتها ليست سوى مفهوم مجرد لا واقع له ، إنه الزمن المقترن بالحاضر و الماضي ، إننا معبئون بظلال الماضي وبامنيات ما سيتلاشى من مستقبل قادم آني. يولد الإنسان من غور الحيوية ، ومع التراكم الزمني للأيام ينشأ جدل بين الحاضر و الفائت، فلا يلبس ذلك الإنسان أن يخبو ، وتخبو تلك الشعلة وتفنى تلك الطاقة الكامنة داخل عروقه وعظامه ، وينضمر عنفوان الجموح إلى مآل الشيخوخة والسكون . إنها الدهشة حقا أن يصادفني ذات المفهوم يومها في رواية مائة عام من العزلة ، أدرك جيد أن كثيرين منكم على علم بها ، تلك الرواية التي نالت من الصيت ما يكفي ، ودون ألق مسميات الجوائز واحتفالاتها ، فإن مازاد تقديري و اعجابي بهذا النص ، خلاصة تلك التجربة المتبصرة لهذا الكاتب القدير غابريل غارسيا مركيز ، وهو يتامل شواهد تلك المرحلة فى إحدي شخصياته المحورية ، كتبه بحنكة ساحر ، إنها أمرأة أطلق عليها اسم ارسولا ، مائة عام من عمرها ، حتى تلاشى صهيل شبابها وضمور ألقها ، وزوال عنفوانها المتعلق بتاريخ نشأة بلدتها ، وأكثر ما شدني تلك الكيفية التي عالج بها عناء الكبر ومراحل السكينة في ارسولا. و أنا هنا أعرض عليكم على عجالة النذر اليسير من مكابدة هذه المرأة لهذا التسلسل الحتمي كما جاء فى رواية مائة عام من العزلة . (( لم تكن ارسولا تعزو مسئولية ذلك إلى عجزها وشيخوختها وضعفها ، ولا إلى الغيوم التي كانت تحجب عن بصرها ملامح الأشياء ، بل كانت تعزو ذلك إلى شيئ غامض لا تستطيع سبر غوره ومعرفة كنهة بوضوح ،فيلتبس الأمر علي خيالها ، ولا تجد سوى فساد الزمن الراهن المتدرج انحداراً فى انهياره ، بل كانت تشعر بأن زمام وقائع الحياة اليومية يفلت من يديها ، فتقول: ـ إن سنين في هذه الأيام ، لا تمر كما كانت تمر من قبل ، فهي تشعر أن نمو الأطفال كان أبطأ فى الأيام الخوالي ، فيكفيها أن تذكر كم مضى من الزمن قبل أن يذهب إبنها البكر ، خوزيه اركاديو مع الغجر ، وكل ما حدث له حتى عاد ملوناً كالحرباء ، يتحدث كعالم الفلك ، و أن تذكر الأمور التي حدثت فى البيت قبل أن ينسى اركاديو و أمارانتا لغة الهند ويتعلما اللغة الاسبانية. كان يكفى أن تستعيد ذكريات أيام الشمس و ليالي العراء التي قضاها المسكين خوزيه اركاديو ليجده على شفا الموت ، ويكفيها أن تحسب أنه بعد كل الحروب التي خاضها وخرج منها سالماً ، بعد كل ما عاناه من الآم ، لم يبلغ الخمسين من عمره. كانت قديما تمضي وقتاً طويلاً في صنع حلويات الكراميلا ، على هيئة حيوانات صغيرة ، ويبقى لها من الوقت ما يكفي للعناية بالأطفال ، والنظر إلى بياض عيونهم قبل أن تسقيهم جرعة من زيت الخروع، أما الآن فهي لا تفعل شيئاً ، فهي تذرع البيت جيئة وذهاباً ، من الصباح و المساء ، وهي تحمل خوزيه اركاديو على جانبها ، و لكن عدم كفاية الوقت كانت تجعلها تترك الأمور دون أن تكمل أكثر من نصف عملها . كانت أرسولا في واقع الأمر تقاوم الشيخوخة ، وهي لا تعرف عدد سنين عمرها ، وهي دائما حيث لا يبنغي لها أن تكون.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة