حول ســودان الفاشـر وســودان ســنار ... مقال لدكتور عبدالله حمدنا الله ... صحيفة الاحداث

Quote: حول ســودان الفاشـر وســودان ســنار د.عبد الله حمدنا الله السيد الصادق المهدي أراد أن يبين إسهام حزب الأمة في الوحدة الوطنية من خلال كثرة عضويته، وتمددها في كل مساحة السودان، فاستعمل عبارة سودان الفاشر وسودان سنار، في إشارة للسلطنات التي كانت قائمة في أرض السودان قبل أن يتشكل دولة بحدوده الحالية. لم ترق لي العبارة التي استعملها السيد الصادق المهدي، وهو الذي عرف بابتداع العبارات الموجزة ذات المعاني الموحية، بل لا أراها مناسبة في مثل الحال والظروف التي نحن فيها، فممسكات المجتمع السوداني ضربت في الصميم بالجهوية والقبلية وحماقات بعض السياسيين ، ولسنا بحاجة إلى وجع جديد باستدعاء فوارق التاريخ، إلاَّ إذا أقررنا بأن النصال تكسرت على النصال فما نبالي بسهم جديد ، ولا اعتقد أن السيد الصادق بتكوينه الفكري وسعيه لإزالة عوامل الغين والاحتقان في السياسة السودانية ممن ينحون هذا النحو . ثم إن العبارة قد تبدو كأنها نقيض ما أطلق عليه سودان حمدي، والذي وصفه بعضهم بأنه سودان المؤتمر الوطني مقابل سودان الهامش ، ولم تسلم الجرة من كسر حين انتقد ذلك المشروع بقسوة ، ولم يصمد طويلاً لعوامل الفرقة التي يحملها في داخله ، حتى غدا اليوم نسياً منسياً ، ولم يعد يذكره أحـد . السيد الصادق أراد بعبارته أن تكون جوف الفرا فيها كل الصيد ، فإذا كان سودان حمدي قاصراً فإن سودانه كاملاً ، تصل عضويته المركز بالهامش من خلال وجودها في السودان كله ، لا اعتقد أن أحداً يمارى في العضوية الحاشدة لحزب الأمـة في مناطق كثيرة من السودان ، ومن الخير التعبير عن تلك الكثرة بتعابير ذات مدلولات إيجابية تساعد في بناء التماسك القومي بدلاً عن التعابير السالبة التي تقع موقعاً مقبولاً لدي نفوس تروق لها وتكسبها من الدلالات نقيض ما في بطن الشاعر، وما أكثر الذين يذهبون بلحن القول في هذا الظرف التاريخي ، خاصة إذا استدعينا العبارة من واقع التاريخ الذي تجاوزته الأحداث . ثم إذا نظرنا من حيث التاريخ الاجتماعي لا السياسي إلى صدق عبارة سودان سنار وسودان الفاشر ومدى انطباقها على الواقع ، حق لنا أن نتساءل هل نحن حقاً إزاء وجود مجتمعين لوجود سلطنتين ، أم نحن إزاء مجتمع واحد رغم وجود السلطنتين ؟ الواقع يقول أن السلطنات القائمة في السودان الكبير من سنار إلى برنو كانت تسعى جميعاً إلى بناء مجتمع متشابه، وأن السلاطين كانوا يتنافسون في تحقيق ذلك الأنموذج ، ويفتحون الأبواب على مصاريعها لكل صاحب مساهمة إيجابية في ذلك المشروع ، والواقع يقول أيضاً بأن الحراك الاجتماعي في كل هذه البقعة من الأرض كان سالكاً لكن لضعف التدوين غاب هذا التواصل ، وقد بينت كل ذلك في بحث قدمته في أحد المؤتمرات العلمية، وكان عنوانه : (( تبادل التأثير الثقافي العربي الإسلامي بين علماء السودان وعلماء حوض بحيرة تشاد)) اعتمدت فيه على المخطوطات في كل من السودان وتشاد ونيجريا ، أهمها مخطوط الشيخ إبراهيم صالح وعنــوانه : (( الاستندكار لما لعلماء كانم برنو من الآثار والأخبار )) وكتاب الشيخ يعقوب دابيو وعنوانه : (( نبذه في تاريخ علماء وداي)) إضافة إلى كتاب طبقات ود ضيف الله . الأمثلة على قوة التواصل داخل السودان الكبير ظاهرة ومتعددة ، وجهلنا بهذا التواصل أدى إلى جهلنا بثقافتنا ، وأسوق مثالاً واحداً لهذا الجهل ، أورد ود ضيف الله في طبقاته أن محمد عيسى سوار الذهب قال يعزي الشيخ إدريس بن الأرباب حين حصل له الفتح وأنكر عليه جماعة ذلك ، قال : والله لو كان بين الناس جبرئيلا لا بد فيه من قال وقيلا قالوا في الله أضعافاً مضاعفة تتلي إذا رتل القرآن ترتيلا وقفت زماناً طويلاً أسـأل عن جبرئيل الوارد في البيت أعلاه ، من هو ؟ قطعاً ليس هو أمين الوحي ، لم أجد جواباً يريحني ، إلى أن قرأت بيت الشيخ عثمان دان فوديو الذي يقول فيه : إن قيل في بحسن الظن ما قيلا فموجة أنا من أمواج جبرئيلاً فتبين لي أن جبرئيل الوارد في الطبقات منسوباً لمحمد عيسي سوار الذهب هو نفسه الوارد في بيت الشيخ عثمان دانفوديو ، وهو جبرئيل بن عمر الطارقي شيخ عثمان دانفوديو ، ويؤكد هذا تشابه الألفاظ في البيتين علماً بأن ود ضيف الله وعثمان دانفوديو متعاصران مما يعني شيوع النص في السودان الكبير في وقت واحد . الشاهد أننا أمام مجتمع واحد وإن تعددت سلطناته ، بل إن الواقع الماثل يؤكد هذه الحقيقة رغم المحاولات الاستعمارية التي سعت لبذر عوامل الفرقة في داخل الدولة الواحدة ، لكن ظلت عوامل الوحدة عصية على التغيير ، فالتشابه في الأسماء والمأكل والملبس والمسكن وعادات المآتم والأفراح والفنون وكثير غير ذلك واضحة بينه . بل إن ظاهرة المهدي نفسها خير دليل على وحدة المجتمع السوداني منذ ذلك الحين ، فالرجل الذي جاء من شمال السودان ليصدع بدعوته في وسطه ويحتضنه غربه الخارج عن سلطنة الفور قبل سبع سنوات فحسب ليعود ومعه خليفته من غرب السودان ليحكم كل السودان ، لا يمكن تفسير ظاهرة المهدي في مجتمع خارج عن السلطنات من قريب ، إلا بأحد احتمالين ، احتمال أن يكون المجتمع أقوي من حكامه ، أو احتمال أن يكون السلاطين أنفسهم سعوا لإقامة مجتمع واحد ، وهو الاحتمال الذي تؤكده حقائق التاريخ ، وحين غابت السلطنات برز الغرس النموذج في شخص المهدي ليحقق الوحدة الروحية والاجتماعية في مجتمع تغيرت أساليب الحكم بين مكوناته . اعتقد أن السيد الصادق المهدي يوافقنا على أن من واجبنا أن نستل من التاريخ ما يساعد على تقوية التماسك القومي ، وأن نتحاشى العبارات التي لا تسير في هذا الاتجاه ، ولا أشك أنه سيصوغ عبارات أخرى تمتلئ بفيوضات الدلالات حول معاني التماسك القومي