|
Re: سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... (Re: محمد سنى دفع الله)
|
محمد عبد الله الهادي *كتب " تشبثت يدي بالمسدس ، وهاهو الزناد يلين تحت أصابعي ، وهاهي ذي الضوضاء الجافة المرتفعة التي من خلالها بدا كل شئ ، نفضت العرق والشمس ، وعندها أدركت أنني كنت بالفعل قد حطمت هدوء ذلك اليوم ، وكسرت صمت ذلك الشاطئ الذي كنت سعيداً فوقه " .. لا ريب أن قارئ رواية " الغريب " لـ " آلبير كامو " ( 1913 ـ 1960 ) ، والتي تعد واحدةً من أعظم روايات القرن العشرين ، والرواية الأكثر انتشاراً في الأدب الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية ، سوف يتوقف عند ذروة الحدث في الفقرة السابقة ، الذروة التي أطلق عندها " مارسو " ـ البطل / الراوي ـ رصاصته علي المواطن " العربي " فيرديه قتيلاً ، ثم يعقب هذا ـ بعد لحظات ـ برصاصات أربع أخرى تخترق الجسد الهامد ، وتنشطر الرواية بجوار النبع لشطرين ، قبل القتل ثم بعده . من قبل كان " مارسو " يودِّع أمَّه التي ماتت في دار المسنين بـ " مارينجو " ، التي تبعد ثمانين كيلو متراً من الجزائر العاصمة ، لمثواها الأخير بمشاعر باردة لفتت أنظار موظفي الدار ، وحيث يعود سراعاً لحياته ولهوه مع صديقته " ماري " في حمام السباحة أو السينما أوفي شقته ، وتتشابك علاقاته مع جاره " ريمون " في تصاعد درامي حتى تبلغ اللحظة الدموية القاتلة ، أمَّا ما بعـد القتل فيتمثل في براعة " كامو " في تصوير مشاعر " مارسو " في الزنزانة أو في المحاكمة ، انتظاراً لحكم الإعدام الذي يلوح في الأفق ، كي يطيح برأسه في ميدان عام باسم الشعب الفرنسي . أمَّا القارئ العربي ـ بصفة خاصة ـ لابد وأن يتوقف أمام شخصية " العربي " الروائية في ثنايا وحواشي الرواية التي تدور أحداثها علي أرض الجزائر ، خاصة أن " كامو " الفرنسي قد وُلد في " موندوفي " علي أرض " قسنطينة " الجزائرية لأب يعمل بالزراعة ما لبث أن قتل في إحدى معارك فرنسا ، وانتقل بعد ذلك مع أمه للعيش مع جدِّته ، حيث تعلم وعمل في مهن عدَّة كالتدريس والصحافة ، وحيث تجلَّت موهبته الأدبية علي أرضها ، وكتب عنها جل أعماله التي منحته شهرةً عالمية واسعةً ، ومنها تكونت فلسفته التي آمن بها وضمَّنها إبداعاته ، حتى أن الكثيرين من مبدعي المغرب العربي يعتبرونه مبدعاً جزائرياً قلباً وروحاً كما يقول " حسونة المصباحي " في مقال له بعنوان " آلبير كامو مبدعاً جزائرياً " : " حتى وإن كره الذين استشفوا رائحة عنصرية ضد العرب في رائعته الغريب " . والحقيقة أنه لا تخفى علي قارئ " الغريب " ملامح الشخصية العربية التي تتجلَّى معالمها بوضوح ، فهي منفية داخل ذاتها ، غائمة الملامح ، مجهولة الاسم والرسم ، حتى لتبدو في أدوارها المكبَّلة المرسومة لها ككائنات وهمية في وطنها وعقر دارها ، وفي حركتها المحدودة كالأشتات الصامتة المستعبدة ، وإطار الصورة لا يتسع إلاَّ للمليون مستوطن فرنسي ، ولا يمنح التسعة ملايين جزائري أية مساحة . كما تتجلى نظرة هذا الراوي / الغريب بغربته ـ التي صورها " كامو " ببراعة عن نفسه وعن الكون كله وعن الخالق الأعظم ـ إليهم كغرباء آخرين ومختلفين : العلاقات غير مكتملة ، ومبتورة بالحجم الذي يجعلها ثانوية التأثير ، كما أنها متوازية بالقدر الذي يبعـد الآخر ، فلا لقاء طبيعي أو مثمر بين الأطراف في الصراع ، والنظرة حيادية لكائنات مهمشة ودائماً غير واضحة . يقول الراوي : " بالقرب من التابوت كانت هناك ممرضة عربية في جلباب أبيض وتغطِّي نفسها بمنديل ملوَّث " ، ويضيف " مارسو " : " عندما توجهت نحو باب الخروج قال لي الحارس إنها مصابة بتقرح ، وكانت الممرضة تغطي وجهها بقناع أبيض اللون لا يرى منها سوى عينيها ، وعند مستوى الأنف كان القنـاع مسطحاً ولا يرى تحته سوى الضمادات البيضاء علي الوجه " ، هذه الممرضة لم تنبث ببنت شفة ولم تشارك برد فعل في المساحة المخصصة لها . وأثناء تشييع جنازة أمّه يشير للكنيسة وللفلاَّحين فوق الأرصفة . وفي الجزائر العاصمة يلتقي بجاره في المسكن " ريمون " ، ويخبره الأخير عن العربي الذي تحرش به بسبب أخته ـ عشيقة " ريمون " ـ التي يصورها كامرأة مخادعة ومبتزَّة له . كما إنها تعود إليه مرَّة أخرى بخدعة يشاركه فيها " مارسو " بكتابة خطاب لها ، وعندما تكتشف الخدعة تصفعه ويضربها " ريمون " ضرباً مبرحاً . والغريب في كل هذه الأحداث أن " الغريب " لم يقدم أية تفسيرات تنير الجوانب المظلمة في هذه العلاقة بأطرافها الثلاث : العاشق / العاشقة / الأخ ، وليس الثالوث الخالد والشائع : العاشق / العاشقة / الزوج . الشخصية العربية هنا مبتزَّة للمال ، مهينة وخائفة ، والمنطق السائد المفسر للحدث منطق " ريمون " ، الذي تشير إليه الرواية أنه يتكسَّب من وراء النساء ، حيث يشير السرد علي لسان الراوي الذي يقول عندما يتأهب " ريمون " و " مارسو " و " ماري " للذهاب للشاطئ : " نظرت ورأيت مجموعة من العرب أمام حانوت التبغ " . وبعد تناول الغداء مع صاحب العشة وتنزههم علي الشاطئ : " لاحظت أن هناك علي الشاطئ ـ بعيداً عنا ـ اثنين من العرب يرتديان ثياباً زرقاء ويأتيان في اتجاهنا ، فنظرت إلي ريمون الذي قال لي : إنه هو " ، ناهيك عن المواجهة التي حدثت مع العربيين واللذين لقيا بالطبع هزيمة منكرة ، لم ينطق فيها أحدهما ولو بآهة توجع ، لولا سكين الأخ العربي التي جرحت " ريمون " جرحاً سطحياً يعقبه انسحاب العربيان . عند النبع يقول : " وجدنا العربيين يرقدان في هدوء ويبدو عليهما السعادة " ، وكان أحدهما ينفخ في قصبة قصيرة وتتردد نغمات ثلاث في الفراغ ، ويهدد " ريمون " بقتل غريمه ، ويأخذ " مارسو " المسدس منه حتى لا يتهور ، وينسحب العربيان مرَّة أخرى . وعندما يعودون للعشة لا يصعد معهم " مارسو " بل يستدير للشاطئ مرة أخرى ، ويمضي عليه بطريقة عبثية تحت لهيب الشمس الأحمر والوهج الحارق ، تقوده قدماه للنبع فيجد العربي وحيداً راقداً بظهره علي الأرض ، والذي ينهض واقفاً واضعاً يده في جيبه لإخراج سكينه ، وامتدت يد " مارسو " في التو لمسدس " ريمون " الذي كان مازال يحتفظ به ، ومع التعب والشمس والعرق واللهب وضربات الشمس ووميض السكين الممدود في مواجهته ، والبريق الخاطف المنبعث منه الذي يحرق رموشه ويخترق عينيه ، تنطلق الرصاصات في مشهد الذروة الذي أشرنا إليه في صدر المقال .. بعد القبض علي " مارسو " ، كان جل الموقوفين أيضاً من العرب الذين دهشوا لوجوده بينهم ، ورغم أنهم صمتوا عندما علموا قتله عربي ، إلاَّ أنهم في المساء عرفُّـوه كيف يطوي الحصيرة ليصنع وسادة ينام عليها . وعندما كانت تزوره " ماري " فيما بعد نرى مكان اللقاء والشبكة المعدنية الفاصلة والمساجين العرب في مواجهة ذويهم . والسؤال : هل تعمد " كامو " رسم هذه الصورة للعربي ، أم أنها كانت نظرة المحتل السائدة لأصحاب الأرض ؟ ، عندما احتل الفرنسيون الجزائر قيل أن الجنرال " بوجو " قد انتصر علي السكان المحليين ، وقيل عنهم أيضاً المتوحشين . وربما كانت هذه النظرة لا تختلف كثيراً عن النظرة الاستعمارية للقبائل الأصلية من سكان أستراليا أو الهنود الحمر في أمريكا أو العرب في فلسطين . ورغم فلسفة " كامو" الوجودية الإنسانية ، وأفكاره عن الحرية والمبادئ العليا للإنسان ، فإنه انشطر كانشطار روايته " الغريب " عندما تناول القضية الجزائرية ، كما اختلت مثله العليا ، كان متناقضاً وهو يساعد بموهبته المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية ولا يفعل نفس الشيء مع المقاومة الجزائرية التي اسماها " الأحداث الجزائرية " ، ورغم انتقاده للمستوطنين الفرنسيين من بني جلدته إزاء معاملتهم للعرب الذين اسماهم أيضاً " غير الأوروبيين " ، فإنه لم ير فيهم صورة المغتصب المحتل لأرض الغير ، وكذلك عندما دعا لـ " جزائر مسلمة " في إطار فرنسا الأوروبية ، وعندما عقد صداقاته مع من يتفقون مع أفكاره كالحركة الوطنية الجزائرية وزعيمها " عباس فرحات " الذي نادى بالاندماج مع فرنسا ، ولم ينجح مع " بن باديس " صاحب القصيدة المشهورة : شعب الجزائر مسلم .. وإلي العرب ينتسب من قال حاد عن أصله .. أو قال مات فقد كذب لقد كان " كامو " ممزقاً بين وطنه الأم فرنسا ، والوطن الذي ولد وعاش علي أرضه وأحبه الجزائر ، يقول : " مازلت أؤمن بالعدل ، لكنني أخشى علي سلامة والدتي التي لا زالت تعيش في الجزائر " . وفي أعماله الكاملة حذف المقالات التي تنتقد سلوك مستوطنيه الفرنسيين ، حتى أن كاتباً فرنسياً شهيراً هو " جان جاك بروشيه " قال عنه في كتابه " آلبير كامو ، فيلسوف الأقسام النهائية " أن " كامو " اتخذ موقفين متمايزين ومتناقضين في آن ، حيث أنه قبل الثورة كان يشجب في مقالاته تصرفات المستعمرين الفرنسيين ، وتعرض للطرد من عمله بسبب موقفه هذا ، لكن هذا الموقف تغير بعد اندلاع الثورة ، حيث أوضح " بروشيه " أن " آلبير كامو " قد تعاطف مع العرب الجزائريين فقط ضمن المقياس الذي ظهروا فيه أغبياء ويمكن استغلالهم . ورغم أنه هو الذي جعل " مارسو " يطلق رصاصاته علي العربي عند النبع ، فإنه كان منزعجاً فيما بعد من الرصاصات التي انطلقت بين الجانبين ، وأسالت حمامات الدم ، وقدمت مليون شهيداً جزائرياً قرباناً للاستقلال . وعندما أبدع قصته " الضيف " ، أجمع النقاد أنها كانت تجسيداً حقيقياً لمأساته أمام المسألة الجزائرية : "عندما يعود المعلم " دارو " لمدرسته بعد أن طلب من ضيفه العربي ـ الذي سلَّمه إليه جندي فرنسي بالليل بغرض تسليمه للسلطات في الغد ـ أن يختار بين الطريقين الذي يؤدي أحدهما للسلطات والاعتقال والآخر للحرية ، فيختار الضيف طريق السلطات ، وعلي السبورة يجد " دارو " العبارة التي تخاطبه وتلخص مأساته : " لقد سلمت أخانا للبوليس .. وسوف تدفع الثمن " . لقد جسَّدت إبداعاته الصورة الجميلة للجزائر / المكان ، خاصة الشمس القوية المتوهجة والغابات الكثيفة وريف الفقراء والبحر الذي كان يعشقه . قدم " كامو " للمكتبة العديد من الأعمال الخالدة غير الغريب مثل : الطاعون التي تدور أحداثها في وهران والثائر وأسطورة سيزيف ، بالإضافة لأعماله المسرحية المؤلفة أو المقتبسة ، والتي أهلته للحصول علي جائزة نوبل 1957 م ، حتى لقي حتفه في حادث سيارة في عام 1960 م أثناء عودته لباريس مع صديقه وناشر كتبه " ميشيل جاليمار " . ورغم اختلاف الظروف بين البلاد العربية ، فإنه كان هناك دائماً ، أو لبعض الوقت ، كتَّاباً آخرين مثل " كامو " ، عاشوا بيننا وكتبوا عنا ، أو بالأحرى عن بلادنا بعيون أجنبية ، لم تر من شخوصنا إلاَّ الزوائد والحواشي التي تلزم لاستكمال الصورة القصصية ، نذكر منهم علي سبيل المثال " لورانس داريل " في " رباعية الإسكندرية " التي لا تقل شهرة عن " الغريب " ، فالشخوص فيها من الأجانب والمتمصِّرين ومن فئات الوافدين ، لم يقترب من سكان الإسكندرية الأصليين وأصحابها الذين يصنعون زخم حياتها اليومية ، وكأنها لم تكن مدينة مصرية أبداً ، بل مدينة إغريقية . وحصلت الجزائر علي استقلالها ، لكنها ظلَّت تعاني لفترات من عدم الاستقرار ، والسكين العربي في " الغريب " ، والذي خطف بوميضه وبريقه اللاَّمع عيني " مارسو " عند النبع ، انشطر لآلاف السكاكين المعمدة بالخرافة والجهل ، والتي راحت تجز رقاب أبناء الوطن الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ . ـــــــــــــــــــــــــــ * قاص وروائي وعضو اتحاد الكتَّاب بمصر .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... | مؤيد شريف | 04-30-08, 06:51 PM |
Re: سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... | محمد سنى دفع الله | 05-01-08, 05:44 AM |
Re: سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... | مؤيد شريف | 05-01-08, 06:32 AM |
Re: سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... | محمد سنى دفع الله | 05-01-08, 06:57 AM |
Re: سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... | محمد سنى دفع الله | 05-01-08, 07:04 AM |
Re: سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... | مؤيد شريف | 05-01-08, 07:13 AM |
Re: سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... | مؤيد شريف | 05-01-08, 07:13 AM |
Re: سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... | مؤيد شريف | 05-01-08, 07:17 AM |
Re: سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... | محمد سنى دفع الله | 05-01-08, 09:25 AM |
Re: سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... | محمد سنى دفع الله | 05-01-08, 11:19 AM |
Re: سمبين عثمان ؛ أب السينما الافريقية... | مؤيد شريف | 05-06-08, 07:59 PM |
|
|
|