|
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير (Re: عبدالرحمن عبدالله أبوشيبة)
|
كمال الجزولى الراى العام
شق علي نبأ وفاة الأخ الحبيب الطيب محمد الطيب ، نعاه الناعى وأنا بعيد عن الوطن ، وكنت زرته ، آخر مرة ، بصحبة بعض الأصدقاء ، إبان رقدته الأخيرة بالمستشفى العسكري. حسبناه ، للوهلة الأولى ، نائماً ، فكدنا ننسحب بهدوء ، لولا أن زوجته عاجلتنا بالتمر ، قائلة: ''ليس نائماً ، هو فقط على هذا الحال منذ جئنا به إلى هنا ، ولكن رؤيتكم ستسعده''. فتح عينيه ببطء ، وبدا كما لو كان يهم بالكلام ، سوى أنه طفق يُسرح نظراته الوادعة فى وجوهنا ولا ينبس ببنت شفة ، رغم إلحافنا في مشاغبته ، وكم كان ، فى زمانه ، حديد المشاغبة ، شديد اللماحية ، منتجاً حاذقاً لبهار الاخوانيات اللاذع وعطرها النفاذ!
تعرفت عليه عام 1973م. قدمنى إليه عبد الله علي ابراهيم ، أيام تفرغه لمسئوليات العمل الثقافى بالحزب الشيوعى ، وشوقي عز الدين ، المخرج المسرحى الذى كان قد فصل ، للتو ، من العمل بمعهد الموسيقى والمسرح. كنا نقصد ، أحياناً ، داره ببرى ، مع بعض الأصدقاء ، نقضى الأمسيات فى حوارت ساخنة حول هموم الثقافة ، فكان يستقبلنا هاشاً باشاً ، ويكرم وفادتنا غيرَ هياب ولا وجل من كوننا كنا مجموعة من الشباب (المدموغين) فى الوسط الثقافى بالتمرد ، أو حتى من كون صديقه عبد الله ، بالذات ، كان مختفياً ومطلوباً من الأجهزة الأمنية!
ظل الفقيد ، دائماً ، نسيج وحده فى مقاربة مختلف ظاهرات القول والفعل الشعبيين. كنا شغوفين وقتها ، شوقي وأنا ، بالمسرح. وقد سَمِعَنا نتحدث ، مرة ، عن مسرح الرجل الواحد ى السواء .. ويعمOne Man Theatre الذى كنا نحسبه حداثياً لا أصل له فى ثقافتنا الشعبية. فدعانا، بعد أيام ، لمرافقته فى زيارة إلى ود الفادنى. وفى الطريق أخذ يطلب من سائقه أن يُعرج إلى بعض القرى ، يسأل عن صديق له يُدعى حاج الصِديق عبد الله ، إلى أن دلونا على سبعينى لا يكاد يلفت النظر لبساطته ، وقد هش لرؤية الطيب الذى طلب منه الصعود إلى العربة ، وواصلنا سيرنا. بلغنا المسيد بعد صلاة العشاء. وبعد أن أولموا لنا وليمة تكفى لعشرة أضعافنا ، إستبقانا الطيب جلوساً على ذات الأبسطة التى مُدت لأجلنا فى صحن المسجد الرحب ، وفى حضرة الشيخ وأولاده. كانت المئذنة المهيبة تشمخ فوقنا، وظلالنا تترامى مجسمة ، بفعل (الرتاين) ، على الحوائط الجليلة من حولنا ، بينما تربع حاج الصِديق فوق أحد العناقريب الفارهة التى أعدت لمبيتنا ، لتكتمل ثنائية (الصالة والخشبة) بكل ما فى (المسرح الفقير) ، بالمصطلح الحديث ، من بساطة وتعقيد ، وليبدأ العرض فى ليلة لا نظننا ننساها ما حيينا ، تكشف فيها حاج الصِديق عن مسرحى شديد الثقة فى نفسه ، والتوقير لفنه. إنطلق يضحكنا ضحكاً كالبكا ، وفينا مشايخ ما تنفك أناملهم تداعب حبات مسبحاتهم ، على أنفسنا وعلى الدنيا من حولنا ، ببديع مفارقات يلتقطها ، بعين الفيلسوف الناقد وخيال الفنان الخلاق ، من شوارع القرية والمدينة ، ومن بيوت الأغنياء والفقراء ، ومن مناسبات الافراح والاتراح ، ومن دقائق تجليات مشاعر المزارع حين يحل أجل سداد الديون ، بينما تتأخر صرفيات الحواشات ، ومن مواسم الحج ، بكل ما تزدحم به من سحنات ولغات ولهجات وطائرات وقطارات وبواخر ، بل ومن مَشاهِد أسفار قاصدة من مغارب الشمس إلى مشارقها ، بأقدام حافية مشققة ، وببعض كِسرات خبز مجفف ، وبصغار مرتدفين فى ظهور الأمهات. وكان حاج الصِديق يتنقل بين المَشاهِد ، فى قمة براعته ، باقتدار وسلاسة ، مُقلداً عويل الريح ، وبكاء الرضيع ، وثغاء الماعز ، وصفارة القطار ، وبوق السيارة ، وهدير محرك الطائرة ، وزمجرة مفتش الغيط المحتشد بسلطته ، وسخط المزارع المغلوب على أمره ، وغنج زوجة التاجر القروى الثري تحاول تسريب طلباتها الباذخة إلى حافظة نقوده المنفوخة! كان يفعل ذلك وحده ، خلواً إلا من قسمات وجهه المرنة ، واختلاجات جسده الناحل ، وتوترات أطرافه المعروقة ، وأقصى ما يختزن صدره الضامر من إرزام ، وحباله الصوتية من صداح. وكنا ، من شدة تعجبنا منه ، نكاد نطير إليه ، طيراناً ، من (صالة) السجادة إلى (خشبة) العنقريب ، نعانقه ، ونهنئه ، وكذا نفعل مع الطيب ، منتج عرض (الرجل الواحد) البهى ذاك فى مسيد ود الفادنى ، فقد مَنحَنا كلاهما ، فى ليلتنا تلك ، أعلى درجة من درجات الفرح يستطيع إنسان أن يهبها لإنسان.
بعد انفضاض السامر ، آخر الليل ، كان واضحاً أن أكثرنا فرحاً هو الطيب نفسه الذى بدا كما لو فرغ من إجراء (تجربة) ناجحة! وبالفعل ، ما أن عدنا أدراجنا ، حتى عَمَدَ إلى إقناع التلفزيون بإعداد برنامج خاص عن (حاج الصديق). لكن ليتهم سمعوا نصيحته وقتذاك ، كما قد علمت منه ، فلم يستكثروا ذهاب كاميرتهم لتسجيل اسكتشات ذلك الفنان المدهش ، بتلقائية أدائه وسط جمهوره هناك ، فقد توفى الرجل ، للأسف ، بعد ذلك بسنوات ، ولم يتبق منه الآن سوى هذا البرنامج الذى جفف طاقاته ، بكل ثرائها ، على منضدة بائسة فى ستديو خانق ، وما زلت أشعر بالحسرة ، كلما رأيت كاميرات الفيديو تتنقل الآن فى الحفلات ، على قفا من يشيل ، بعدد صحون العشاء وزجاجات البارد! فلو تيسرت للطيب واحدة ، ليلتها ، لما ضاع ذلك الأثر الفنى النادر ، مرة .. وللأبد! فهل من ماجد يقتفى الآن (بكاميرته) آثر اكتشاف الطيب ذاك بخطة بحث قاصدة تفترض أن حاج الصديق لا يعقل أن يكون بلا ورثة ، فيجعل لحركتنا المسرحية مرجعية مخصوصة فى تراثنا الشعبى ، ولتنظيرات مسرحيينا آفاقاً أرحب من مجرد الاجترار العقيم لإشكاليات العرض من قواعد أرسطوطاليس إلى جدل (الممتع) و(المفيد) ضمن نظريات برتولد برشت فى (الأورغانون الصغير)!
ألا رحم الله الطيب ، وغفر له ، وجعل الجنة مثواه ، فقد سلست عشرته ، بقدر ما بذل من جهد فى الاحسان لثقافة الشعب.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-07-07, 06:39 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | عواطف ادريس اسماعيل | 02-07-07, 06:59 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | Abdelmuhsin Said | 02-07-07, 07:03 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | محمد حسن خضر | 02-07-07, 07:29 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | ghariba | 02-07-07, 07:55 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الزنجي | 02-07-07, 08:39 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | abuguta | 02-07-07, 09:30 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-22-07, 05:38 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-07-07, 10:58 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | JAD | 02-07-07, 11:36 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الرفاعي عبدالعاطي حجر | 02-07-07, 01:51 PM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-08-07, 08:41 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | Dia | 02-08-07, 10:21 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | Ishraga Haimoura | 02-08-07, 11:12 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-08-07, 11:43 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-12-07, 05:37 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-12-07, 05:54 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-12-07, 06:29 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-13-07, 04:59 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | Tragie Mustafa | 02-13-07, 05:21 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-13-07, 08:15 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-13-07, 08:19 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-14-07, 05:43 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-14-07, 06:44 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-14-07, 06:54 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | عبدالرحمن عبدالله أبوشيبة | 02-14-07, 07:49 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-15-07, 09:38 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | ابراهيم على ابراهيم المحامى | 02-22-07, 05:49 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | munswor almophtah | 02-22-07, 06:38 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-25-07, 05:40 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | Ahmed Abushouk | 02-25-07, 05:53 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 02-26-07, 04:52 AM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | munswor almophtah | 02-26-07, 05:18 PM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | munswor almophtah | 03-01-07, 07:31 PM |
Re: الطيب محمد الطيب ....او السودان المتجول... فقيدنا الكبير | الكيك | 03-04-07, 04:47 AM |
|
|
|