وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد ....

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-09-2024, 10:03 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة معالى ابوشريف (الكيك)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-28-2007, 05:51 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... (Re: الكيك)

    عن سودانايل Last Update 27 يناير, 2007 09:52:57 PM

    شوارد عن عوض مالك وأبي أمنة حامد وعثمان وقيع الله وآخرين وزمنهم

    عمر جعفر السوري

    قدستم رفقة

    .................

    إن دار الليل حديث القلب إلى القلب

    و تذاكر أصغرهم قدري

    لاذوا بالصمت.. و من يدري؟!

    قد يدرك يوما إن العالم ربح و خسارة

    (النور عثمان أبكر في خاتمة المنفى و المملكة)

    ******************

    خلال الأيام القليلة الفائتة رحل ثلاثة مبدعين في صمت مريب من السودانيين عموما و معاصريهم على وجه الخصوص. سطور قليلة هنا و هناك في صفحات "الاجتماعيات". و لكن ألم يصبح هذا دأبنا في كل حال. حتى الدمع السخين الذي كنا نذرفه علي الراحلين نضب، و جفت مآقي الباكين و المتباكين المدرارة. فقد كادت المروءة أن تفقد أهلها في سودان الحروب الضروس والمجاعة و الفساد و السرقة و الرجرجة و الدهماء و السوقة.

    اثنان من الثلاثة لبسا الرداء الرسمي بلونه الطيني ثم الأخضر الطحلبي و لكنهما كانا يخلعانه عند عتبة باب الدار ليستردا حريتهما المقيدة بنجوم مصطنعة و هما قد تجاوزا النجوم بفراسخ فلكية و دخلا مدارات عبقرية. و الثالث حمل عصاه و ارتحل شمالا، حينما كان أهل الشمال يهشون و يبشون للقادمين إليهم، و كانت لندن تمتلئ بأهلها قبل أن يتركوها للغرباء، و قبل أن يتدافع إلى أبوابهم سقط المتاع لينقلبوا إلى العنصرية المقيتة.

    رحيل عوض مالك و أبي أمنة حامد و عثمان وقيع الله كان له وقع أليم في نفسي، و قد كنت أحدثها عن لقائهم قبل فراقهم و أحثها على ذلك. كان الثلاثة يجولون في خواطري في الشهور القليلة الماضية دونما باعث ملحاح، و بلا سبب مباشر. و فقدهم أضاع مني فرصة أن اجمع منهم بعض شعر و أدب جعفر السّورْي و رهطه الذي كتبوه لأصدقائهم يمازحونهم به و هو ما يعرف (بالحلمنتيشي). فقد كادت أن تخلو الفانية من عارفيهم و العارفين بهذا الشعر، بدءا من محمد أحمد نور الذي كتب مقدمة كتاب جعفر السوري عن شاعر البطانة الكبير الحاردلو، مرورا بجماعة أجزخانة العاصمة المثلثة التي اخذ فندق "أراك" مكانها. و من بين الجماعة صاحب ذلك الملتقى الصيدلاني (الاجزجي) زهير صالح عبدالقادر و شقيقيه السياسي و الوزير الدكتور عبدالحميد صالح و الشاعر الرهيب منير صالح و حتى عثمان وقيع الله.

    عرفت الرائد عوض مالك و أنا طفل يحبو في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة. فقبل احترافي كنت أتردد على دار الرأي العام، فألقى الترحيب من العاملين فيها و من صحافييها و خصوصا الفاتح التيجاني و جمال عبدالملك (ابن خلدون). و قد تطوعا بنشر مقالات لي جلها عن القرن الأفريقي. ثم افرد لي مساحة – بين الفينة و الأخرى - الأديب و الدبلوماسي سيد أحمد الحردلو في صفحة كان يحررها في الرأي العام كل يوم أحد (إن لم تخني الذاكرة). بعيد تخرجه مباشرة من الجامعة. فور قدومه من القاهرة التحق الحردلو بوزارة التربية و التعليم التي بعثت به مدرسا للغة الإنجليزية في الأهلية الثانوية بامدرمان حيث درسّني و مجموعة طيبة من الأدباء و الشعراء بينهم مأمون بابكر زروق و فتحي عبدالرؤوف الخانجي و التيجاني سعيد. و من العسكريين/السياسيين عبدالعزيز خالد. و قد ربط الشعر و الأدب بيننا و بين صاحب "غدا نلتقي" و "ملعون ابوكي بلد"، فلم تقم بيننا حواجز المعلم و التلميذ بل امتدت جسور الصداقة. و في دار الرأي العام التقيت الرائد، حينذاك، عوض مالك و توطدت بينه و الفاتح التيجاني و سيد أحمد الحردلو و بيني عرى الصداقة. كنا نلتقي كل ليلة في دار الصحيفة لننطلق حتى منتصف الليل في حدائق امدرمان الرحيبة قبل أن تصّوح أشجارها و تذبل أزهارها. و لم يكن مقرن النيلين مكانا مفضلا لنا، بل الضفة الأخرى من النيل الأبيض، فهو اقرب إلى داري في امدرمان. لقيت من الثلاثة رعاية و تشجيعا و من عوض مالك إنصاتا لشعري.

    بقي عوض مالك عندي رائدا، ليس في سلاح الإشارة الذي كان يؤدي خدمته العسكرية فيه، بل في حسن الخلق و المروءة و التسامح و رقة الحس. مد يده للكثيرين حتى يجدوا طريقهم في عالم الإبداع و سعى وراء آخرين حتى ينهضوا إلى حيث هم الآن. كان عوض مالك وراء وزير الإعلام الراحل عبدالماجد ابوحسبو ليستمع إلى المطرب محمد ميرغني و يدفع به إلى الإذاعة. تحت إلحاح عوض مالك و صديق محيسي، استقبل عبدالماجد ابوحسبو محمد ميرغني في منزله. غناه المطرب الشاب فطرب الوزير و أمر بإذاعة أغنياته. كان عوض من جماعة أدباء بحري و فنانيها. قلة تعرف إن عوض مالك كان وراء استمرار خضر بشير في الغناء، و قد ضمه إلى جماعة الخرطوم بحري.

    في يوم قائظ من صيف الخرطوم اللاهب ذهبنا إلى منزل الفاتح التيجاني في الخرطوم بحري لتناول الغداء، و حينما كان بيننا و بين المنزل مسافة مئات الأمتار تناهى إلى سمعنا صوت خضر بشير يغني بصوت عالي. كان الصوت آتيا من بيت الفاتح، فبادره احدنا بأنه قد نسي المذياع مفتوحا إلى أخره قبل خروجه و تسبب في إزعاج الجيران، إلا إن عوض مالك قال: هذا خضر بلحمه و شحمه يغني لذاته في نوبة من نوباته الروحية و وجده و انجذابه الوجداني. و هو ما وجدنا خضر بشير عليه حينما دلفنا إلى البيت الذي لم يكن بابه مغلقا. و من كان يغلق بابه في ذلك الزمان و مما كان يخشى الناس؟! كان خضر يقف في باحة المنزل و تحت سياط أشعة الشمس الحارقة يغني طربا. أكمل غناءه و لم يأبه بدخولنا عليه. قال أحد الحاضرين: معرفة وجود خضر بشير في البيت من خلال الصوت و الغناء هو نتاج خبرة تلقاها في سلاح الإشارة و تلك دربة العسكريين. بل هو حس الشاعر المرهف و أذنه "النظيفة" التي تميز بين الإنساني و الآلي، كان قولي لهم.

    في تلك الأيام وفد إلى الخرطوم نزار قباني فوجد فيها الشعر انهارا تفيض أكثر من النيلين على ضفاف العاصمة المثلثة. و لم يلق من جمهور الخرطوم ما تعود عليه من جماهير العواصم الاخرى. استمع إليه الناس و رحبوا به ترحابهم بالزائر الكريم و الضيف العزيز، إلا إنني كنت أراه أكثر من مرة يذرع بهو فندق السودان، حيث أقام، لوحده جيئة و ذهابا. مكث نزار في الخرطوم مدة ليست بالقصيرة، إلا انه لم يذكرها ضمن فتوحاته و صولاته و جولاته!

    في إحدى أمسياتنا ذكرت وحدة نزار "للشلة" فأجابني عوض مالك، ما نزار إلا سقا في حارة السقايين. انشد السودانيون شعر الغزل و برعوا فيه منذ مئات السنين، فهو في عجينتهم الثقافية و ما زال. الغزل فولكلور سوداني صرف لهم فيه أساطير و ملاحم و روايات و ما أبا مسيكه و تاجوج إلا مثال على ذلك، فهل تجد مثلهما من حيث أتى نزار. حينما سكنت بلاد الشام ردحا من الزمن، كان هذا التعليق في خاطري، فحثيثا بحثت، فلم أجد في "العتابة" و "الميجنا" ما يشبه ارث الغزل في السودان.

    و حينما افترقنا ظللت اسأل عن "الرائد" كلما التقيت صديقا يعرفه. و كانوا يجيبون بان الرائد أصبح مقدما ثم عقيدا ثم عميدا و لواءا فيما بعد. لكنني كنت أسألهم مرة اخرى عن الرائد و ما كنت اعني رتبته العسكريه، بل ريادته في غير مجال. في العام 1984 كنت في جنيف لحضور اجتماعات اتحاد البرلمانات الدولي. كان رئيس الاتحاد وقتذاك، رئيس مجلس الشعب، عزالدين السيد. و المجلس أوفد عددا من أعضائه بينهم الصديق بخاري. و في معية الوفد أتى بعض الصحافيين و الإعلاميين من بينهم الفاتح التيجاني. و جاء صحافيون سودانيون آخرون و لكن صحبة وفود عربية اخرى و فيهم صهر الفاتح، الزميل عبدالله الجبلي، الذي عملت معه في وكالة أخبار الخرطوم و مع صاحبها الصحافي الجهبذ النبيل، سعد أحمد الشيخ. جاء عبدالله مع وفد الأمارات العربية المتحدة. دعانا عبدالله إلى سهرة في غرفته و كان معنا طه محمد نور، احد القيادات التأريخية لجبهة التحرير الإرترية. فسألت الفاتح عن الرائد و أحواله. فهم من اعني، و قال لي انه بخير و سيحدثني عنه غدا في قصر الأمم أو سهرة اخرى. و لكن بقية الحاضرين استبد بهم العجب و حركهم الفضول فجعلوا يحذرون من يكون هذا الرائد الذي كتم الفاتح التيجاني أخباره أمامهم. ذكروا أسماء الرواد المشهورين بعضهم من قادة انقلاب مايو و آخرين إليهم اقرب، و لكن لم يتبادر إلى ذهن احد منهم اسم الشاعر الانيق عوض مالك.

    في الغد، قال لي الفاتح التيجاني لنسهر أنا و أنت فقط مع ذكريات عوض مالك، فهو أحرى بسهرة لا تخالطها أية أحاديث اخرى. لكن سهرتنا تلك بدأت بشكوى سمعتها من الدكتور محسن بلال، وزير الإعلام السوري الحالي، و كان حينذاك عضوا في مجلس الشعب. الدكتور محسن بلال رجل رقيق و مرهف الشعور بالقومية العربية و يساري بطبعه و متواضع.

    لقيني في مقهى قصر المؤتمرات فطلب مني أن نتمشى حين فراغي من شرب فنجان القهوة، و قد رفض دعوتي لتناول بعضها، رغم إصراري. كان وجهه حزينا و مكتئبا. لما بدأنا نذرع أروقة القصر، بادرني بالقول انه حزين للغاية، حزنا لم يسبق أن أحس به. فهو يرى شقيقتنا البرلمانية السودانية لا تفارق الوفد الإسرائيلي منذ قدومها. عرفت من يعني و قد رأيت ذلك بنفسي. كانت هذه البرلمانية الشابة ابنة سياسي وطني كبير من جنوب البلاد تبوأ أعلى منصب في البلاد بعيد الاستقلال مباشرة. أخذت تهدئة روعه مني الكثير من الجهد، لا سيما بيني و بين ما جد في السودان من أحداث و تطورات عقد و نصف.

    سألت الفاتح أن كان ما يحدث أصبح مقبولا في سودان جعفر نميري. فقال لي تلك قصة اخرى نأتي إليها في يوم آخر. دعنا الآن مع عوض مالك.

    و لي عودة مع شعره حينما تكون هي أمام ناظري و ليست خيالات في الذاكرة.

    ثم رحل بعد عوض بأيام أبو أمنة حامد، شاعر اختزن ارث أهله الهدندوة و قبائل الشرق كلها ليخرجها بلسان غير لسانه و بفصاحة تضاهي من كانت العربية لغته التي لا يسمع غيرها في البيت. و استطاع هذه الحامي أن ينطق لغة الساميين بلثغة محببة و يهديهم الموعظة و الحكمة الحسنة. ففي بيت واحد برهن على عبقرية لا تحدها حدود:

    قم صلاح الدين و اشهد بعثنا يوم صافحنا جمال العربي.

    هو يريد من بطل كردي أسطوري أن يشهد هذا البعث الذي يمثله هذا العربي. هذه اللوحة تلخص ثقافة السودانيين الأصيلة التي استوعبت الثقافات الأخرى و خرجت بخليط خلاق، لا ينظر إلى احن الماضي و لا إلى ما يقسم الناس عموديا، بل إلى القواسم. لعله مصطفى سند (إن اسعفتني الذاكرة) الذي قال ذات مرة: "جماع الغابة و الصحراء لم يكن وديا في البداية. و لكن من رخام هذا اللقاء الشرس بين فرسان الخيول العربية و سبايا الغاب الإفريقي نحتنا وجهنا. الإنكار لا يجدي. و الاعتراف عودة إلى الجذور الأصيلة المنسية."

    التقيت أبو أمنة في مناسبات قليلة و نادرة و لكنها كانت حميمة. هو لم يسافر، و لم يهاجر، و أكثر من اتاح لي الوقت معرفتهم عن قرب كانوا من رواد المهاجر. قلت له ذات مرة إن شعرك بالعربية، لكنني أحس انك تنطق بلسانك الآخر و بلغتك الصامته. تحدثنا في تلك المرات القليلة عن شعر التقري و طلبت منه أن يروى لي بعض شعر الهدارب (أو البداويت) مع ترجمتها. فمعرفتي بهذه اللغة فقيرة على عكس التقري التي لا يتقنها هو. رويت له عن الكتاب الذي أصدرته بعثة جامعة برنستون في أخريات القرن التاسع عشر عن شعر التقري. هذا الكتاب هو أول دراسة علمية لشعر و أدب غير مكتوب في تلك المنطقة من العالم. و هي دراسة ثرة اعدتها مجموعة من الباحثين الجلدين من جامعة مات صاحب النسبية، اينشتاين، و هو يدرس فيها. هو يعرف إن الهدارب هي لغة ملوك و أمراء و أرستقراطية البني عامر. و النابتاب لا يتكلمون التقري حتى و لو كانوا يعرفونها. فهي عندهم لغة العامة التي لا تليق بهم. أنا اطرب لسماع الهدارب، رغم عدم معرفتي بها، ففيها موسيقى و إيقاع. و احسب إن شعرها كذلك. وافقني فيما ذهبت إليه. و لما قلت له إن قصيدته (سال من شعرها الذهب) تذكرني بقصيدة من شعر التقري يصف الشاعر شعر حبيبته فيها بظل جبل فلستّاي – و هو جبل عالي في أواسط ارتريا – عند المغيب يمتد إلى الأفق. أعجبه ذلك و قال: ربما كما ذكرت هي اللغة الصامتة في داخلي خرجت بغير لسان.

    تحدثنا عن النابتاب و عن أصولهم التي تمتد إلى منطقة الجعليين و شمال السودان، إلا إن نسلهم لا يتكلم العربية. سكنوا الشرق أو غرب ارتريا و لعلهم تبنوا الهدارب لغة لييبقوا على تميزهم عن سكان المنطقة التي لجأوا إليها. و أثناء الحديث أشرت إلى دراسة عميقة و ضافية ألقاها في نادي الخريجين بامدرمان أواخر ستينيات القرن الماضي حسب الله محمد أحمد الذي كان موظفا في السلك الإداري بوزارة الخارجية السودانية. و قد فقدت أثره بعد كتاب صدر له بداية السبيعنيات عن حضارة بلاد النوبة (لا يحضرني عنوانه الآن). في كل مرة من المرات القلائل التي التقيت فيها ابا امنة، كان ذكر حسب الله الحاج يوسف (ود محلق) حاضرا. و تلك قصة اخرى في حاجة إلى مجلدات.

    كان أبو أمنه اقرب إلى الناصريين و القوميين العرب و يسارهم من أي اتجاه أخر. و ليس هذا مدعاة للعجب. بل هو تأكيد على أن تلك الأفكار، في تلك المرحلة لم يكن لها علاقة بالعرق. و هاهو احد أهم دعاة القومية العربية و فلاسفتها في مصر، الدكتور عصمت سيف الدولة، من اصل نوبي، داكن البشرة؛ ممن يطلق عليهم غوغاء القاهرة لفظ "بربري".

    و بعد أيام تعد على أصابع اليد، تبعهم إلى الخلود عثمان وقيع الله الذي لم يكن خطاطا فحسب (كلوغرفيست). هذا ظلم ما بعده ظلم لمبدع لا يشق له غبار. كان عثمان وقيع الله فنانا بكل ما تعنيه الكلمة من معني، و كان إنسانا نبيلا مرهفا. و في شيخوخته كان طفلا يدهش لكل ما هو جديد.

    رأيت عثمان وقيع الله في دار أبي فقد كان من ندمائه. و لكن تلك الفترة لم ترسخ في الذاكرة كما يجب. ثم التقيته منتصف السبعينيات في دار شقيقه فيصل وقيع الله بدمشق، و هو فنان أخر، قارع طبول و عازف دفوف لا يبارى. لم اسمع طبلا يحدثك و يروي لك حكايا شموس مشرقة و أشجار مورقة و غابات مطيرة إلا عند فيصل و فرقة الطبول البصرية. فقد كانت فرقة البصرة للفنون الشعبية تضم مجموعة من عازفي الطبول لا يشق لهم غبار، لا يملك المرء إلا أن يكون أسير إيقاعهم حتى بعض أن ينفض السامر. و في بيت فيصل أيضا رأيت لوحاته التي جردت الحرف العربي ليكتسب قيمة جمالية تتخطى قيمته المعرفيه بأزمان و دهور. و هو رائد هذا الفن و إن نسب لغيره. و عثمان وقيع الله لم يجرد الحرف العربي فحسب، بل جسد الجملة العربية و القصيدة العربية كائنا حيا ناطقا و ليس نصا بهيما ينطقه القارئ. تجد ذلك في كل لوحاته، اذكر منها: العودة إلى سنار و هي رسم لقصيدة محمد عبدالحي التي تحمل ذات العنوان، و اللوح المحفوظ التي رسمها على لوح من ألواح الخلاوي، و الف لام ميم، و كاف لام ميم، و غيرها. إلا إن عمله الباهر هو خطه للمصحف الذي انفق فيه ما يقارب الثلاثة عقود.

    في مطلع الثمانينات شرّع المتحف القومي بدمشق أبوابه لمعرض عثمان وقيع الله و جاء لافتتاحه وزير الإعلام السوري الأسبق، احمد اسكندر أحمد. و تلك نادرة للذين يعرفون تقاليد المعارض و المناسبات في سورية. و قد بهر المعرض زواره من أي جنس كانوا.

    و عثمان محدث لا يمل و راوية كأنه الأصمعي. في تلك الأيام توقفت لمدة يومين في لندن عند عودتي من أكابولكو بالمكسيك حيث انعقد الاجتماع الثاني لوكالات الأنباء العربية و الاميريكية اللاتينية. و كالعادة كان السودان - ممثلا بوكالة إنبائه - غائبا عن كل تلك المؤتمرات و الاجتماعات. كنت احرص على أن التقي بعثمان وقيع الله في المرات المتباعدة التي ازور فيها عاصمة الإنجليز. حينذاك اتصلت به فأنبأني بان صديقنا الشاعر الكبير محمد عبدالحي في العاصمة البريطانية للعلاج تصحبه زوجه و والدته. فطلبت منه أن يصحبني إليهم لأعوده و ازور أسرته الكريمة. كنت اسكن – كما اعتدت – في كيو غاردنز في منزل صديق و زميل صحافي اميركي، هو شارلس غلاس، تربطني به وشائج قديمة. و لشارلي كتاب حاول أن يسبر - من خلال رحلة برية قام بها - ما وراء سايكس – بيكو. "قبائل ترفع أعلاما: رحلة مبتورة من الاسكندرون إلى العقبة" مرجع مهم لكيفية تقسيم المشرق. و قد انقطع خط رحلته عندما خطف في بيروت صحبة علي عادل عسيران، نجل رئيس البرلمان اللبناني الأسبق، ثم أطلق سراحه بعد عشرة أسابيع.

    ألح أن يصحبني عثمان وقيع الله من كيوغاردنز رغم بعد المسافة إلى حيث يقيم محمد عبدالحي. و لم أتمنع كثيرا، إذ عرفت إن تنقلنا من قطار إلى حافلة حتى نصل هناك سيمتعني بطلاوة حديثه و روائع رواياته. و كان كما حسبت. كان عثمان من جيل أبي و لكنه أبى إلا أن يأتي ليصحبني بدلا من ان نلتقي عند شاعر الكبير.

    أخر لقاء لي بعثمان وقيع الله، كان حينما زارني في منزلي بدمشق منتصف الثمانينيات مهنئا بمولد ابنتي الكبرى. أمضى معي وقتا ليس بالقصير. قبل مجيئه كنت اقرأ في ديوان المجذوب (الشرافة و الهجرة)، أهداه إلي فتحي الخانجي في زيارتي الأخيرة إلى الخرطوم. أمسك بالديوان و طلب أن اختار قصيدة أو أبيات ليرسمها لوحة هدية للمولودة. و اخترت أبياتا، ثم لم نلتق من بعد، و لا اعرف إن رسم اللوحة. قبل أن يغادر طلب أن يرى المولودة، و حينما أحضرتها إليه و كان عمرها لا يتجاوز الأسبوعين احتضنها بين ذراعية ثم قرب فاه من أذنها اليمني و رفع همسا بصوته الرخيم الآذان، و جعل ينتقل من أذن إلى اخرى حتى فرغ. كنت انظر إلى وجهها أثناء الآذان. رأيت فيه تعابير تكاد تنطق حبورا و سكينة و راحة و دعة. لم تبك رانية تلك الليلة مطلقا!

    كان عثمان وقيع الله صاحب صوت رخيم شجي، يغني في مجالس بعينها، فينتشي كل من سمع الغناء حتى لو لم يعرف لغة القصيد.

    يحضرني في رحيلهم هذا، بيت محمد عبدالقادر كرف و هو يرثي أحد بناة الأهلية الثانوية – لعله صديق فريد :

    فيا رحمة الرحمن صوبي غمامة و يا غيث روّي القبر من مائك الجم

    هذه خواطر عمر جعفر عن ثلاثة نجوم تاخوصت في سديم العدم , عثمان وقيعة الله , أبو أمنه حامد , عوض مالك وقبلهم محمد أبو القاسم حاج حمد, محمد المهدي المجذوب, الجاني يوسف بشير معاوية نور, إدريس جماع, محمد علي, محمد عبد الحي, صلاح احمد إبراهيم, علي ألمك, علي عبد القيوم , والأخوين طه و خالد الكد , الهادي ادم , عبد الله الطيب, وصف طويل من مبدعينا الذين سيطويهم النسيان في غمرة فلسفة الفوضى التي تضرب إنحاء السودان , لست ادري ما إذا كان لاتحاد الكتاب وعلي رأسه الصديق الشاعر كمال الجز ولي إن يفعل شيئا تجاه الذين رحلوا والذين علي وشك الرحيل, والشيء الذي اعنيه ليس هو إن يبتني الاتحاد لهؤلاء دورا لان الاتحاد نفسه ليملك دارا, ولكن الذي اعنيه هو إن نعلق صورهم داخل دار الاتحاد علي الأقل في اطر جميلة مكتوب داخلها سير حيوانهم وإضافاتهم ورياضتهم لحركة الإبداع في السودان, كما اقترح إن يكلف الاتحاد لجنة من عضويته لإصدار كتاب أو كتب بالتعاون مع مركز عبد الكريم يمرغني عن هؤلاء كمراجع للذين يودون دراسة إعمالهم الأدبية , وان يسارع الاتحاد بتكريم كل من محجوب عمر باشري , ومحي الدين فارس , ومحمد المكي إبراهيم و مصطفي سند , وهم إحياء تقديرا لدورهم في إثراء الثقافة الوطنية , بذلك وحده نكو ن قد هزمنا الدولة الصودا نية التي تخاصم الثقافة والإبداع , ولاعترف إلا بالجهلة, وشذا الأفاق والانتهازيين , واللصوص الملتحين

    صديق محيسي


                  

العنوان الكاتب Date
وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... الكيك01-02-07, 09:32 AM
  Re: وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... الكيك01-02-07, 11:18 AM
  Re: وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... لؤى01-02-07, 11:29 AM
    Re: وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... الكيك01-02-07, 12:18 PM
      Re: وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... الكيك01-03-07, 04:41 AM
        Re: وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... الكيك01-03-07, 04:50 AM
          Re: وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... الكيك01-09-07, 12:13 PM
  Re: وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... بكري الصايغ01-09-07, 12:55 PM
    Re: وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... الكيك01-10-07, 04:57 AM
      Re: وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... الكيك01-14-07, 08:26 AM
        Re: وداعا ابو امنة ...ابوجمال ...الهدندوى العنيد .... الكيك01-28-07, 05:51 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de