ديوان العامل حسونة فكُّوا أسر ذلك الشاعر الفحل يا هؤلاء د. أحمد إبراهيم أبوشوك
التقيت بالباحثة الفلكلورية الأستاذ فاطمة أحمد علي في الخرطوم في شتاء عام 2007م، ووجدتها مهمومة بتراث منطقة مروي، وعبقرية مكانها التي جعلت منها موطناً للحضارات القديمة، ومعبراً للتواصل الثقافي عبر بوابة السودان الشمالية، وهبة من هبات النيل عند نواحي السافل. وفي تلك البيئة الغنية بعطاء أدبائها ومبدعيها كانت الأستاذة فاطمة بنت أحمد علي تبحث عن جوهرة مفقودة، ران عليها ركام الزمن، وتلك الجوهرة كانت تمثل بالنسبة لها تراث شاعر فذ من جهابذة شعراء الشايقية القدامى، عاش طرفاً من حياته العامرة بالعطاء في المهدية وطرفاً في التركية الثانية، وبين العهدين لمع نجمه في منطقة الشايقية، لأن أضحى يمثل حلقة وصل جامعة بين تطلعات أهلها الطيبين وطموحات أهل سلطانها الطامعين. لذلكم هو الشاعر المخضرم العامل حسونة، الذي جمع المرحوم عمر الحسين محمد خير تراثه المتناثر من صدور الحفاظ، وحُداة التراث الشعبي الذين كانوا يروونه سليقة، وتكفل الباشمهندس سيف الدين حسن بابكر بإعداده في صورة ديوان شعر فريد في رسمه، وضبط متونه وحواشيه، وتقديمه، إلا أن هذا الديوان الفريد لازال حبيس أضابير الأستاذ سيف الدين، الذي أضناه البحث عن ورقة إعلام شرعي من ورثة المرحوم عمر الحسين محمد خير، تمكنه قانوناً من نشر ذلك الديوان المنتظر، وعرضه للقراء والمعجبين بتراث الشاعر حسونة. وعندما وقفتُ على صفحات الديوان المنضوضة على منضدة الأستاذ سيف الدين حسن بابكر بمكتبه الواقع جوار ميدان أبو جنـزير في الخرطوم، تمنيت لو أُعيدت الحياة مرة أخرى في جسد الشاعر المرهف عمر الحسين محمد خير، ليرى بعيني رأسه كيف ثـمَّن المعجبون بجهده الثر ديوان حسونة، وأخرجوه في ثوب قشب يلامس أطراف أماني عمر الحسين الحالمة، تلك الأماني التي كانت تواقةً لرؤية ذلك الديوان حياً متداولاً بين أبناء الأسر والبيوتات التي زارها عمر الحسين راجلاً وراكباً أحياناً من سبيل جمع أشعار حسونة من صدور الحفاظ، ليعيد لذلك الشاعر العملاق سيرته الأولى بين الناس، وليعيد كنـزهم المفقود إلى مكانه الشاغر، لأن بداخله عقود من التصوير الجمالي البديع، ولآلاء من الأدب الرفيع، وشموع من الذوق الساحر، لشاعر عشق الجمال وتغنى به، وغازل السلطة وأتحف سلطانها، ووظف البيئة المحلية توظيفاً حافلاً في وصف رموزها وقيمها الجمالية الساحرة. هكذا كان حسونة متنبىء زمانه، وشاعر عصره الذي لا يشق له غبار، عرفه أهل المنطقة بالعامل حسونة، وكانوا يتقربون إليه بالهدايا والنذور، لأن الشاعر في عرفهم كان يمثل لسان حال قومه، وصحافتهم، وتلفازهم المتنقل، لأنهم يتعرفون من خلال أشعاره على فضائل الحسان والعذارى في المنطقة، أمثال جمال الباشا في سوق المَقَل، وستنا بت الشيخ في العفاض، ويأنسون بمدحه في جود الرجال الذين كانوا يقذفون للقريب جواهراً ويرسلون للبعيد سحائب، ومن أمثال هؤلاء الشيخ لأحمد أبوشام (المعروف بأحمد درويش)، الذي رد حسونة على خصومه قائلاً: "في اللحم كجَّنت اللسان ... عشان فسَّل أحمد أبوشام ... هو درويش عقلو تمام"، ويقفون بفضل مجالسته على أحوال المنطقة، وسير أعلامها، وصراعاتهم السياسية، ويتبلور ذلك في مدحه للعمدة ود بشير أغا في القرير "ود بشير عمدة مو عمدة سماسير ... خيلو بين الجبلين تغير"، والعمدة ود كنيش في نوري، " الأغا ود كنيش الرجال بتاب وأنت عيش"، والعمدة أحمد أبوشوك في منطقة قنتي "أحمد أب شوك قدل فشل اليلمو ... ويا بحر المسور القاسي عمو"، والشيخ محجوب ود الخليفة "سيد حزايراً متبطحات ... بالغرب قبل أب كليوات". هل يجوز يا هؤلاء أن يكون عطاء شاعر مطبوع مثل هذا حبيس الأضابير، فكُّوا أسر حسونة يا هؤلاء فكَّ الله أسركم، لأن عطاء حسونة لا يقدر بثمن، ولا يباع بثمن بخس في صالات المطامع الدنيوية الزائلة؟ لأنه تراث جدير بالتقدير والاحترام، وأن ملكيته يجب أن تكون مشاعة بين الناس، لأنه يحكى عن تاريخهم وتراث أجدادهم، وأن توزيعه في المكتبة السودانية فيه تقدير وتثمين لعطاء عمر الحسين، الذي يستحق مثل هذا التقدير وهو ميت في قبره ينشد السكون والرحمة، لأن عمر رحمه الله قد أنفق جهده وماله بغية أن يرى هذا الديوان النور، فصدقة عمر الجارية يا هؤلاء تتمثل في نشر ديوان حسونة، وطباعة ديوان علي ود حليب ونشره، لأن مثل هذا التوثيق فيه صون لحقوق المرحوم عمر الحسين الأدبية، علماً بأن عمر عاش فقيراً ومات فقيراً، لكنه كان غنياً بزهده وتجرده، لا يطمع في كسب مادي من وراء تدوين القراطيس، بل كان مدركاً حقاً بأن الدنيا لا تسوى جناح بعوضة، والخالد فيها عمل أدبي يتركه الباحث للأجيال القادمة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة