|
حوار مع الاستاذ عمر القراى حول الاستاذ محمود والجمهوريين 3
|
وتبقى نقطة اخيرة ؛ وهى متعلقة ببؤس النقد اليسارى ؛ والذى احسب ان الاستاذ عمر يضمنى اليه ؛ حيث كتب فى متن مقاله :
. ولعل غاية ما يرمي اليه الاخ عادل ، هو ان يؤكد ان الفكرة الجمهورية ، ليست فكرة سياسية قادرة على تغيير المجتمع ، وهو ليصل الى هذا التقرير المريح ، لكافة الحركات العلمانية ، واليسارية بصورة خاصة ، حاول جهده ، ان يركز على ان الاستاذ رجل صوفي ، وليس رجل سياسة ..
اننى حين بدات كتابة المقال مثار الحوار ؛ لم ارم كما ذكرت الى تقييم الفكرة الجمهورية فى مجملها ؛ او الاخوان الجمهوريين ؛ وانما حاولت ان استشف كنه هذه الشخصية العظيمة المعقدة فى آن ؛ وان اصل الى محركها الاول فى سلم القيم . ولم انف ان لمحمود وجهه السياسى ؛ وان رايت ان وجهه المعرفى – الصوفى –السلوكى اهم كثيرا من وجهه السياسى – الاجتماعى .
واعود هنا واكرر بانى اذا نظرت للاستاذ محمود كقمة من قمم الفكر والمواقف والانسانية فى مجتمعنا السودانى ؛ فاننى انظر الى جماعة الخوان الجمهوريين كجماعة تضائلت كثيرا عن ان تلحق بخطاها ؛ سيرة مؤسسها العظيم . ويكون تقييمى النهائى لها سلبيا ؛ وهى ابعد عندى ما تكون ؛ بصورتها السابقة والراهنة ؛ عن تقديم اجابات واقعية وشافية لحاجيات المجتمع السودانى ؛ وبعيدة كل البعد عن التقدمية التى يراها فيها بعض اتباعها او المتعاطفين معها .
الا ان موقفى هذا لا ينبع من حسابات سياسية ؛ فقد كنت من المعارضين لاصدقائى اليساريين الذين راوا فى هذه الحركة فى فترة ما ترياقا ضد الحركة الاصولية ؛ وان فكرها يمكن ان يشكل ايديولوجية للتجديد الدينى فى السودان . ودعوت ولا زلت ادعو الى ان يحدد الجمهوريين والليبراليين واليساريين اراؤهم واضحة فى القضايا المفصلية للمجتمع السودانى ؛ من قضايا الهوية الثقافية والتعددية ودولة القانون والعدالة الاجتماعية وحقوق المراة والشباب والقوميات المهمشة . كما دعوت اكثر من مرة لان يعمل الجميع اداة النقد والمراجعة لكل ارثهم الفكرى والسياسى والتنظيمى ؛ وذلك لتجديد الحياة الفكرية والسياسية فى السودان ؛ وبذلت جهدى فى محاورة التيارات الرئيسية للفكر السودانى ؛ حسب ما اتاحته لى معرفتى المتواضعة ؛ وفى هذا الاطار كان اهتمامى بالفكر الجمهورى وكانت كتابتى لهذا المقال .
الا ان الانسان يظل دائما حبيس تجاربه ومحيطه وقراءاته وخياراته فى الحياة ؛ وفى ذلك فقد كتبت الى صديقة شابة ؛ من المتاثرات بالفكر الجمهورى ؛ حين ناقشتنى حول نفس المقال ؛ فقلت :
"اما عن ما ناقشتيه عما ورد من آراء فى مقالى عن الاستاذ محمود ؛ فلك الشكر على كلماتك اللطيفة ؛ والتى تشعرنى بان هناك صدا لما اكتبه وافكر فيه ؛ وفى الحقيقة فرغم تعميمى لهذا المقال فى الانترنت ؛ وطلبى من العديد من الاصدقاء والمهتمين ابداء رايهم فيه ؛ فقد جائنى الرد من بعض الاصدقاء فى بولندا - حيث اقيم – ومن الاستاذ عمر القراى ؛ والذى قدم رده لى معلومات مهمة ؛ ساضمنها فى اى محاولة قادمة لاعادة كتابة هذا المقال وتعميمه على نطاق اوسع ؛ وفيما عدا ذلك فقد فضل الكثيرون الصمت الدفين ؛ فشكرا على الاهتمام .
وفى الحقيقة فان اهتمامى بالفكر الجمهورية ودور الاستاذ قديم ؛ حيث كنت طوال فترة المدرسة المتوسطة على علاقة قريبة بالجمهوريين فى عطبرة ؛ والتهمت حينها معظم كتابات الاستاذ ومطبوعات الجمهوريين . وقد كدت قريبا من الانضمام لهم ؛ الا ان ما منعنى حينها ما كان من موقفهم المؤيد للنظام – قبل قوانين سبتمبر 1983- المكروه بيولوجيا من العطبراويين ؛ وما صاحب نشاطهم من روح سلمية ؛ كانت تتناقض مع العنف المستخدم ضدهم من قبل الاخوان المسلمين وانصار السنة ؛ وموقفهم السلبى من الشيوعيين ؛ والذين كنت اكن لهم احتراما كبيرا ؛ وجملة من المواقف والافكار ؛ والتى كانت تتناقض مع شخصيتى حينها ؛ الا اننى ظللت اكن لهم كل احترام ؛ الامر الذى تضاعف بعد وقفة الاستاذ الصلبة امام السفاح نميرى ؛ واكتشافاتى اللاحقة للدور الكبير الذى لعبته هذة الشخصية فى الفكر السودانى .
الا ان هذا الاحترام والتقدير والتضامن ؛ قد كان مرتبطا بروح نقدية عالية تجاه ما رأيته سلبيا ومفرطا فى الغيبية من اطروحات الاستاذ والجمهوريين . وقد سطرت بعضا من ذلك فى دراسة طويلة عن الجمهوريين والفكر الجمهورى ؛ كتبتها قبيل عدة سنوات . ورغم انى وقتها قد كنت متاثرا بالمنهج المادى التاريخى فى نمط تفكيرى ؛ الا انى لا ازال احتفظ بالكثير من الانتقادات لبعض ابجديات الفكر الجمهورى ؛ والذى اعتقد انه اذا اراد التطور والانتشار ؛ فلا بد من اعادة قرائته ونقده وتجاوزه ؛ ضمن عملية شاملة من النقد والنقد الذاتى فى مجمل مدارس الفكر السودانى . الا انى لا ارى فى اغلب الجمهوريين الان من له الرغبة والقدرة فى انجاز هذا التطوير ؛ والذى بدونه فسيبقى هذا الفكر مرتبطا بالاستاذ ؛ مقيدا بحدود تجربته الذاتية والفكرية ؛ المحدودة فى الزمان والمكان ؛ وانت تعلمين ان اقرب الطرق لقتل فكرة هو تحنيطها وتقديسها ؛ والتعامى عن قصورها ؛ وهو منهج اكثر ضررا من تعامل الاعداء .
من هذا المنطلق انظر الى ما كتبتيه عن منبع افكار الاستاذ ؛ حيث عزيتها انا الى اختيار صوفى وبحث فلسفى ؛ ورايتيها انت الهاما من عند الله . و فى الحقيقة فان هذه احد انتقاداتى للجمهوريين ؛ وهى مدى الغيبية الطافح الذين يضفونه على شخصية وعمل الاستاذ محمود . ان قراءة سريعة لمؤلفات الاستاذ ؛ ومحاوراته مع مدارس الفكر السلفى والليبرالى والماركسى ؛ واراءة حول جملة من القضايا الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ؛ توضح عمق الجهد الذى بذله الاستاذ فى متابعة تيارات الفكر المعاصر ؛ وفى دراستها وهضمها ونقدها ؛كما توضح الطابع الانسانى لاجتهاداته .
اننى لا نفى هنا دور العامل الغيبى فى تكوين شخصية الاستاذ ونظرته الى منبع افكاره ؛ فالانسان مهما كان عبقريا الا انه محكوم بقصور شخصه وحدود تجربته ؛ ولكننى اعتقد ان ارجاع افكاره لمجرد الهام الهى ؛ يحرمنا من تقدير جهده الفذ فى بحثه عن الحقيقة ؛ ويحوله من انسان مفكر و فاعل ؛ الى مجرد منفعل وناقل . ان هذه النظرة فوق طابعها المثالى والبعيد عن حيثيات الواقع ؛ تجعلنا نقف عاجزين عن اى محاولة لمقاربة افكار الاستاذ وتطويرها ونقدها ؛ فما ياتى كالهام الهى لا مجال للحوار معه ؛ فاما ان نتقبله كله او نرفضه كله ؛ وما بين المصدقين بالهام الاستاذ ؛ والمتخرصين عليه والزاعمين بارتداده ؛ تضيع الحقيقة العلمية ؛ وتضيع شخصية الاستاذ كانسان عظيم ؛ خط باحرف من نور سجلا فذا للفكر والمواقف ؛ ولكن كان له ما له من الهفوات والقصور الفكرى والسياسى ؛ والذى هو من طبائع البشر والاشياء .
ان روح التقديس والاكبار هذه ؛ لهى من اعدى اعادء تطور الفكر ؛ وهى فى الحقيقة لا تقتصر على الجمهوريين ؛ وانما تتعداهم الى مختلف مدارس الفكر السودانى ؛ بما فيها مدرسة اليسار الماركسى ؛ والتى يفترض ان تكون ابعد ما يكون من منطق التقديس – وهذا فى مجموعه يرجع الى انعدام الروح النقدية فى مجتمعاتنا ؛ والى سيطرة الفكر الاسطورى على تراثنا وتاريخنا ؛ وهذا ما يفسر- جزئيا- روح التطور المازوم الذى يعانى منه مجتمعنا ؛ والى الثبات فى الافكار والتحنط فى القديم الذى تتصف به معظم نخبتنا واغلب جماهيرنا .
اننى فى مخطوتتى التى ذكرت عن الفكر الجمهورى ؛ قد حاولت مقاربة بعض هذة القضايا ؛ ونزع الحجب الاسطورية عن فكر الاستاذ . الامر الذى لا ازعم النجاح فيه ؛ ولكنها كانت خطوة اعتقد باهميتها ؛ من الناحية الاخرى ؛ فقد قمت بامر مماثل فى مخطوطتى عن الشهيد عبد الخالق محجوب ؛ وهو شخصية اخرى فذة فى تاريخ الفكر السودانى ؛ وحاولت فيها نزع الغيبية المادية هذه المرة ؛ والتى اضفاها عليه انصاره . ان هاتين المخطوطتين سوف تجدان طريقهما للنشر فى القريب العاجل ؛ ولكنى اعدك بارسالهما لك قبل نشرهما العام . من الجهة الاخرى فانا مدرك لمكامن القصور فى شخصيتى ومعارفى وتجاربى ؛ والتى يمكن ان تلقى بظلالها على قرائاتى هذه ؛ وفى الحقيقة فاننى فى السنتين الاخيرتين قد غيرت الكثير من ارائى حول بعض افكار الاستاذ ؛ واعكف الان على كتابة دراسة عن السنوات العشر الاولى من نشاط الاستاذ والحزب الجمهورى ؛ اى الفترة 1945-1955؛ باسم "اعادة اكتشاف محمود – قراءة فى الكتابات الاولى للاستاذ" .
اننى فى هذه الدراسة القادمة ساحول مقاربة الافكار السياسية والاجتماعية للاستاذ فى هذه الفترة ؛ واحاول توضيح طابع بعضها العبقرى . من الجهة الثانية فان هذه القراءة ستحاول متابعة التغيرات والتطور الذى حدث فى الفكر الجمهورى فيما بعد ؛ وحصر الثابت والمتحول فى اجتهادات الاستاذ . ان معظم الجمهوريين لم ينظروا او يحللوا التغيرات التى تمت فى اطروحات الاستاذ ؛ وخط التطور الذى حكمها ؛ وربما كان ذلك لسيطرة الروح الغيبية على نظرتهم ؛(النظرة لهذه الاراء كالهام الهى ) وانعدام النظرة النقدية والعلمية فى تجربتهم ؛ والتى يمكن ان تساعد فى التأريخ للفكرة من جهة ؛ ومن الجهة الثانية فى اكتشاف الجوهرى والسليم فيها ؛ استهدافا لتطويره والانطلاق به الى افاق جديدة ."
والشكر والتقدير للاستاذ عمر القراى على مقاله والشكر موصول للذين اعادوا نشر مقالى فاتاحوا بذلك فرصة هذا الحوار.
عادل عبد العاطى
9 اغسطس 2002
|
|
|
|
|
|
|
|
|