جـامعـة الخرطوم .. عـبق الـزمـان وروعـة المـكان.. دعـوة للتلاقي

Quote: آخر الزمن: جامعة الخرطوم تطرد الفقراء من بنيها! د. على حمد إبراهيم [email protected] حال التلميذ السودانى فى العهد الإنقاذى الذى نفض يديه من أى مسئولية تجاه المواطن السودانى هى حالة محزنة . فقد اوصلته الانقاذ الى طبقة الجير الأبيض من طبقات الفقر المتراكم . استعير وصف الكاتب الرصين الاستاذ عثمان ميرغنى لحالة هذا التلميذ فى عموده المنشور بتاريخ الرابع عشر من نوفمبر حين يقول ان هذا التلميذ اذا وجد المدرسة فلن يجد مقعدا يجلس عليه ، واذا وجد المقعد ، فلن يجد الدرج الذى يجلس اليه ، واذا وجد الدرج ، فلن يجد الكراسة التى يكتب عليها واذا وجد الكراسة ، فلن يجد الكتاب، واذا وجد الكتاب فلن يجد المعلم . أما اذا أسعفه حظه فوجد فرصة للتعلم والتخرج ، فلن يجد الوظيفة . واضيف ان آخر مستجدات دنيا التعليم فى السودان ، فهى طرد الطلاب الفقراء من مقاعد الدراسة فى كل المراحل ،بما فيها المرحلة الجامعية التى تكون الثمار فيها قد اينعت او كادت وربما يكون من بين المطرودن اطباء ومهندسين وعلماء . عندما يذكر الناس جامعة الخرطوم يهتز قلبى طربا . اننى أحب هذا الصرح البهى ، فهى أمى التى أرضعتنى العلم ورعتنى حتى تخرجت فوجدت الوظيفة المرموقة ، وعلمتنى أن أرفع هامتى ولا احنيها لقاهر وأن أحدق فى عين الشمس ولا أغمضها تقية ومزلة وهوانا على نفسى وعلى الناس. كان ذلك فى زمن السودان القديم ! ياويح نفسى على ذلك الزمن القديم . ولأننى مجروح الفؤاد ، ومفؤود الخاطر على ذلك الزمن الوضئ، فإننى أتذكر دائما ،واقارن دائما ، وأعيش دائما فى غمام ذكريات الصبا الباكر كما كان يغنى ابراهيم الكاشف. فتلك الذكريات تنفعنى اذ أروح بها عن نفسى ، و تعزى نفسى التى تنظر فى ذلك الماضى التليد ، فترى لوحات مضيئة لا تكاد تبرح النظر ، وتلم بالوجدان المعنى فتمتلك أقطاره. وتلفنى اغماضة من الشعور الغلاب برهة ، فاعود الى زمن الصبا الباكر وأنا تلميذ صغير يتمرحل مع الزمن ويتنقل عبر المراحل الدراسية : يتعلم بالمجان فى مدارس أعالى النيل ، ويتعالج فيها بالمجان ، ويترحل اليها بالمجان على الوابور (الناصر) ،ذلك الوابور الأنيق الذى كان يترحل به كبار رجال الدولة من الشمال الى الجنوب وبالعكس. كانوا يرحلوننا الى مدارسنا فى الجنوب على الوابور الناصر كما يرحلون كبار رجال الدولة. هل كانوا يعتبروننا من كبار رجال الدولة القادمين باعتبارنا ذخيرة المستقبل وذخره وباعتبار ما سيكون . أم كان ذلك بعض من وفاء دولة السودان القديم بحقوق مواطنيها كافة . وكنا نسكن فى داخليات مدارس السودان القديم بالمجان . ونأكل فيها بالمجان ،وتأتينا من حيث لا نحتسب بعض بركات السودان القديم فى مدارسنا: إنى أتذكر و لا أنسى ، فالذكريات هى صدى السنين الحاكى على عهدة أمير الشعراء أحمد شوقى . لوحة أولى : استاذى عوض حسن أحمد ، الشاعر الغنائى المنفلت مثل نسيم الدعاش ،يقطع الحصة ليبلغنى بأن ناظر المدرسة يطلبتى فى مكتبه . ناظر المدرسة بكبير قدره ، وعظيم خطره يطلب تلميذه البدوى الصغير فى مكتبه . أى جرم فعل البدوى الصغير استوجب احضاره الى مكتب الناظر وانتزاعه من حصة ذلك المبدع الذى مزج رطوبة الأجواء فى أعالى النيل برطوبة الأنداء العاطفية فى ندوات يقيمها للجمهور ، فلا يسع المكان الحضور. ولجت الى مكتب الناظر خائفا أتحسس موقع رأسى من جسمى. وطرقت الباب طرقا خفيفا. رفع الناظر ناظريه باتجاهى ، ومالبث أن تبسم فى وجه تلميذه الصغير . وحمدت الله على تلك الابتسامة الأبوية التى قالت لى أن الأمر ليس شرا . كنا فى مدرسة ملكال الأميرية الوسطى ، هكذا كان اسمها ، كنا مجتمعا صغيرا يحبو فى دروب الحياة. توافدنا اليها من كل بقاع السودان القديم طلابا واساتذة . وكنا أملا لبلادنا ، وأملا لأهلنا . وبطبيعة الحال لم نكن ندرى ما تخبؤه الاقدار لنا ولكننا كنا نتجمل لكى نكون شيئا ما فى قابل الايام. دار بينى وبين الناظر حوار لم يكن قصيرا: من أي منطقة جئت الى هذه المدرسة ؟ أنا من مدينة جودة ياستاذ. جئت من مدينة جودة الواقعة على الحدود تماما بين الشمال والجنوب. مدينة جودة صاحبة المأساة المشهورة . نعم ياستاذ. هل فقدت بعض الأهل فى الحادث المحزن؟ نعم ياستاذ : من عشيرتنا مات 68 شخصا غير الجيران والمعارف . ولكن والدك على قيد الحياة ؟ نعم ياستاذ. ماذا يعمل والدك ؟ هو احد شيوخ البادية العربية ياستاذ . اذن هو صاحب ثروة حيوانية . نعم ياستاذ. هل عندك مشاكل مالية فى الوقت الحاضر ؟ لا ياستاذ . عندى ليك خبر مفرح : مجلس ريفى كوستى بعث بحوالة بريدية بمبلغ تسعة جنيهات لكى نسلمها لك . لكننى لم اقدم طلب اعانة للمجلس ياستاذ. نعم : ولكن ضابط المجلس يقول فى خطابه انهم يوزعون فائض بند الرعاية الاجتماعية على طلاب المناطق الفقيرة . وهذا المبلغ هو نصيبك فى هذه الدورة وربما جاءتك زيادة بنهاية العام المالى. وبلعت ريقى الذى نشف تماما من المفاجأة ، وتلعثمت وأصابنى الدوار . ولو كان اسم السودان القديم مشهورا فى ذلك الوقت مثلما هو اليوم ، لصرخت " ينصر دين السودان القديم " . لقد كان المبلغ كبيرا بمقياس ذلك الزمن لتلميذ فى سنى، ليس لديه احتياجات اكثر من طعام تقدمه له المدرسة بالمجان وملابس توفرها اسرته. ثم أننى لم اطلب تلك الاعانة ولم تخطر على بالى ولم أكن اتوقع الحصول عليها . لقد كبر فى نفسى قدر مجلس ريفى كوستى وقدر ضابطه المحترم السيد محمود فرج . وما أن خرجت من مكتب الناظر حتى صحت مهتاجا من الفرح والانفعال :" ينصر دينك ! بالطبع لم أكن أفهم فى واجبات مجلس ريفى كوستى نحو طلابه من المناطق الفقيرة . أما بالنسبة لواجبات دولة السودان القديم نحو مواطنيها ، فأنا أمى من أعلى الدرجات بحكم واقع السن والمعرفة والوعى العام . ولأن ذلك المبلغ كان رزقا طارئا ساقه لى المولى الكريم ، فقد جمعت أصحابى وذهبت بهم الى السوق القريب من مدرستنا وهناك عثنا بزخا فى سوق المدينة وقد جاء فى اعتقادى أننى قد أصبحت أحد أثريائها مثلى مثل سر تجارها الحاج حسن عمرابشررجل البر والاحسان المشهور وقتها حتى خارج حدود الاقليم. صحيح أن شعورا غلابا أخذ يعاورنى ويلح فى خاطر يقول لى أن صراف المجلس ربما أخطأ فى العنوان وارسل لى حوالة تخص تلميذا آخر . ولكنى طردت ذلك الخاطر الغلاب وجلست مع اصحابى نأكل من الطيبات كما تاكل النسور الجائعة. ومضينا فى اللحظة التى كنا فيها. ومضت بى اريحيات السودان القديم فى معارج جديدة من معارج التعليم أعلى وأجل. حدث معى ذلك عندما حملت أوراقى ودخلت خور طقت الكبرى صاحبة النشيد على وصف شاعرها المبدع المرحوم عبد الرحيم ابوذكرى. دخلت فى كنف طقت الكبرى وفى كنف السودان القديم بالمجان : كانت تطعمنا السمك الطازج ونحن فى قلب الصحارى الكردفانية ، حتى اختلط الامر على بعضنا فحسب ذلك السمك بعض لقيمات صنعتها حبوبة كلتوم للمدرسة . ثم تدحرجت الى جامعة الخرطوم . لقد كانت جامعة الخرطوم من دلالها مثل غادة تبترد عند سفح الخلود حتى لا يبقى من درنها شئ . أو مثل خميل من شجر البلوط المغرور لا تعلق به الاوساخ السابلة . أو مثل مهرة فى يوم السباق الكبير ، تكترى المسافات المستحيلة ،و تحدق فى عين الشمس ، وتضم تحت اهابها ضؤ القمر . وسكنت فى شواهق الطوابق من داخلياتها بالمجان . وتغذيت بالاسماك النيلية والعجول الريفية والدجاج الوقواق. كانت جامعة الخرطوم تدلعنا نيابة عن السودان القديم . تقيم لنا الولايم وتعد لنا الموائد يملؤها السفرجية بالطعام ونحن جلوس حول تلك الطاولات المنفرجة . ألم نكن فى زمن السودان القديم الذى كان يتبين ولم يكن يتدين . فقد كان جنيهه يطرح الدولار ارضا ويسوم الاسترلينى خسفا ويبصق فى وجه المارك المغرور . ومع كل هذه المجانيات كانت جامعة الخرطوم تعطينا بيرسرى مالى كل شهر لزوم الهندسة الشخصية . ولكن ما باله الزمان يتبدل ؟ وما بالها أخلاق الناس ومرؤاتهم تتبدل ؟ وما بالها حظوظ السودان القديم تتبدل؟ وما بالها جامعة الخرطوم اصبحت جابية للمصروفات الدراسية ومطاردة للفقراء من ابنائها. أننى اتذكر حكاية زميلى (ص) الذى تحدى المشرف المالى الذى طالبه بدفع المصروفات المالية المقررة عليه وقدرها عشر جنيهات قبل ان يمنحه بطاقة الدخول الى الداخلية - تحداه بان يقذف به من الطابق الاعلى فى داخلية القاش – وقد كانت يومها اعلى مبنى فى الجامعة ، فاذا سمع كشكشة فى جيبه فمن حقه أن يطلق عليه لقب الكاذب الأشر . وضحكنا وضحك المشرف وسمح له بالولوج فى داخلية القاش ، ذلك القصر المنيف